أتى حين من الدهر، كانت فيه المرأة في بيروت حبيسة ثلاثة محابس: لزوم بيتها، وحجب العلم عنها، وحجبها عن العالم، ما دعا جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي تأسست سنة 1878م الى أن توجّه اهتمامها نحو تعليم الفتاة المسلمة، فقامت بتأسيس أول مدرسة للبنات في شهر تشرين الأول سنة 1878م وذلك في بيت قريعة في محلة الباشورة، ثم نقلت إلى دار الحاج محمد بيضون في المحلة نفسها. وكانت كلثوم بنت الشيخ محمد البربير (أم علي سلام) إحدى التلميذات. ثم أسّست جمعية المقاصد في سنة 1879م مدرسة ثانية للبنات في سوق المنجدين باطن المدينة. ويبدو أنه لم يكن بين أيدي التلميذات كتاب يدرسن به، فاقترحت الجمعية على الشاعر الشيخ قاسم أبي الحسن الكستي نظم أرجوزة كما قال «لأجل تعليمها لبنات المدارس التي أسّستها وتكون لهن سلّماً لمكارم الأخلاق المطلوبة منهن في معاشرة الأهل والأزواج ويكتسبن آداب المعيشة وسياسة المنزل المختصة بهن وتهذيب النفس حتى يكنّ في حياة طيبة وتسعد بهن أزواجهن وذكر بها ما يجب عليهن لذوي القرابة والأزواج». والأرجوزة طويلة نشرناها في كتابنا «محمد بيهم, الصارخ المكتوم» ومطلعها:
حمداً لمن قد خلق الجمادا والحيوان مثلمـــا أرادا
وجعل الثاني أنثى وذكر وخصّ بالعقول أنواع البشر
الرائدات من فتيات بيروت
تحدّت كوكبة من فتيات المدينة الظلمات الثلاث. وخرجن إلى النور والعلم والجهاد وحاربن الجهل والتقاليد والعزلة، وقروناً من تحميل المرأة ما حلّ ويحلّ بالإنسان منذ الهبوط من الجنة إلى يوم الدين. وقد بدأن ببث أفكارهن من خلال مقالات نشرت في صحف بيروت بين سنتي 1912 و1914م.
ففي شهر أيار (مايو) سنة 1912م نشرت جريدة «المفيد» خبراً بعنوان «فتاة بيروت» ذكرت فيه أنها، أي الصحيفة، اطّلعت على موضوع كتبته احدى الفتيات في مدرسة الإناث للمقاصد الخيرية، ورأت الصحيفة نشره، وكان بعنوان «الإنسان ابن المشقة» وكان بتوقيع سلوى محمصاني (…-1957م) زوجة المربّي عزيز مومنه، من مؤلفاتها: «مع الحياة» مجموعة قصص، و«نفثات». قالت سلوى في مقالها «لست أعني بالمشقة هو أن يخلق الإنسان للتعاسة، ويقضي كل حياته تعيساً، كلا بل أعني بالمشقة تلك التي تجعل الفقير غنياً والشقي سعيداً والحقير شهيراً». وأضافت: «من لا يعرف، أن الإنسان لا يدعى إنساناً حقيقياً، ما لم يعمل عملاً مفيداً. من لا يعرف أن الفضيلة ليست للذي لا يسقط أبداً، بل الذي يسقط ويقوم… ليس من عار على الذين يفشلون في أعمالهم، ولكن العار على الذين لا يستعملون عقولهم وقواهم ليبلغوا درجة التمدّن وقمة الفلاح. إن للذهب والفضة والحديد وغير ذلك معامل، وللصوف والحرير والكتان مصانع، ولكن الإنسان له معمل ومصنع ألا وهو المشقة. فالمشقة للإنسان كالنار للذهب، لها آلات عديدة تديرها.. لا الهواء ولا البخار ولا الكهربــاء، بل تديرها الإرادة والشجاعة الأدبية والصبر والثبات».
وفي شهر تموز (يوليو) سنة 1912م ألقت عنبرة سليم سلام خطاباً في الحفلة السنوية في مدرسة جمعية المقاصد الأولى بعنوان «ما هي الغاية من الحياة؟». قالت فيه: غايتي أن أخدم أمتي ووطني كي ينصب فوق رأسي ألوية المجد والإفتخار. غايتي أن أخدم أختي. ومن غايتي أيضاً أن أخدم حكومتي. فلا تنظرن إليّ نظركن إلى فتاة صغيرة ضعيفة، بل انظرن إليّ بصفتي عربية سورية حقّة، سأفعل ما أقول ولي همّة لا تزخرها شديد النوازل، ولا الجبال الشامخــــــات».
نشرت جريدة «المفيد» في شهر آذار (مارس) 1913م تحت عنوان «الإئتلاف» للآنسة وداد محمصاني من تلامذة مدرسة الإناث للمقاصد الخيرية فكتبت ما يلي «ألمّت بي في تلك الفترة الماضية التي بها اضطربت البلاد، سحابة حزن، جعلت نفسي تعسة. وأَرْدَتْ بي إلى هاوية الحزن العميق. وما ذلك إلا لأنني رأيت وطني العزيز واقفاً وقفة المضطرب، والعدو المتحد محيط به من كل ناحية، ينظر إليه نظرة المفترس الذي يريد ابتلاعه. سمعت صراخاً وضوضاء، وأصواتاً مرتفعة تكدّر صفو تلك السكينة السائدة على البلاد. رأيت أحزاباً مختلفة، وكل منها يسعى ضد الآخر، حتى تشتتت القوى، وتضعضعت الحواس. نظرت إلى الأفراد، فرأيت التنافر قد تمكّن بينهم، وفرّق بين قلوبهم، فأصبح كل فرد يتحزّب لمذهبه ويبغض أخاه في الوطنية». وأضافت «لنترك الأحزاب الآن ولنتصافح، ونقف كسور منيع أمام الأعداء، متّحدين قلباً وقالباً. لنترك المذاهب ولنصغ إلى صوت قلوبنا وضمائرنا، لأننا كلنا أبناء وطن واحد، تظللنا راية واحدة، وكفى بهذا الرباط أن نمشي جنباً لجنب متكاتفين متفقين، فحينئذ نشعر بقوة معنوية لا سعادة ولا حرية لأمة بدونها…».
نشرت صحيفة «المفيد» في تشرين الأول (اكتوبر) سنة 1913م مقالاً بعنوان: «نهضة الفتاة العربية» بتوقيع «فتاة بيروت» تبيّن أنه لعنبرة سلام، كُتب بمناسبة المؤتمر العربي الأول الذي انعقد في باريس سنتها، وفيه إشارة إلى ضرورة العمل على نهضة المرأة والحض على تعلّمها، وإحياء أثر النساء العربيات وما قدّمن قديماً من أمجــاد.
نادي الفتيات المسلمات
أدّى هذا الحماس لدى الفتيات كما روت عنبرة سلام، إلى الرغبة في إنشاء جمعية نسائية لمساعدة الفتيات على التعلّم ومساعدة المتفوّقات منهن على إكمال تعليمهن. فاجتمعت عدة آنسات وسميّن أنفسهن «سبطات الأمير عبد القادر الجزائري». وأسفر اجتماعهن عن تأسيس جمعية بإسم «يقظة الفتاة العربية» وكان بينهن عادلة عبد الرحيم بيهم وعنبرة سلام وابتهاج قدورة وأمينة حمزة وزليخا قباني وأسماء غندور إدريس. ولما كانت سنهن دون الواحدة والعشرين، فلجأن إلى نجلاء حرم محمد راشد بيهم لطلب الرخصة بإسمها. إلا أن إعلان الحرب العالمية الأولى أوقف نشاط الجمعية. في سنة 1917م عادت الفتيات إلى تأسيس نادٍ اجتماعي تقام فيه الحفلات الأدبية والنشاطات الإجتماعية. فاجتمع ستة أعضاء هم أمينة الحمزاوي وابتهاج قدورة وعادلة بيهم ووداد محمصاني ووحيدة الخالدي وعنبرة سلام، وأسّسن ما عُرف بـ«نادي الفتيات المسلمات» مركزه في بيت بشارة الخوري خلف المدرسة البطريركية.
وكان الشيخ مصطفى الغلاييني قد أصدر كتاباً بعنوان «نظرات في كتاب السفور والحجاب» رداً على كتاب الآنسة نظيرة زين الدين، فكتب في مقدمته (ص10) «كان إنشاء نادي الفتيات المسلمات أثناء الحرب العامة في بيروت والمدرسة التابعة له، مما أحيا هذه الحركة المباركة (تعليم المرأة) التي وقفتها هذه الحرب بعض الوقوف. وقد كان للمرحوم أحمد مختار بيهم ولرفيقيه في هذا الجهاد محمد فاخوري وعمر الداعوق أكبر نصيب».
وكتب رشيد رضا في «المنار» سنة 1919م ذكرياته عن النادي المذكور (المنار ج5 م22) قال فيها «كان النادي يعقد اجتماعات نسائية يحضرها النساء، والمستحسنون لهذا العمل من الأدباء والأطباء، تلقى فيها الخطب والدروس… وإنما يكنّ مع الرجال سادلات على وجوههن النقاب الإسلامبولي الأسود لا سافرات ويجلسن في جانب والرجال في جانب… حتى أن بعض الأوانس من أعضائه حضرن حفلة ذكرى مرور قرن على المعلم بطرس البستاني في الجامعة الأميركانية في بيروت، وألقت عنبرة سلام وعادلة بيهم فيها ما جادت قرائحهما في الموضوع على الجمّ الغفير من الرجال والنساء».
وقد ألقى الشيخ مصطفى الغلاييني سنة 1917م خطاباً في نادي الفتيات المسلمات قدم له بقصيدة مطلعها:
نادي الأوانس، حيّتك العلا أبداً
وجاد روضك غيث المجد ينهمر
فيك الحياة لقوم طال نومهم
في مرقد الجهل، والأرزاء تعتور
كما ألقى الشاعر خير الدين الزركلي في النادي في كانون الأول (ديسمبر) 1917م قصيدة بعنوان «هدية الشمس» أشار فيها إلى أن فتاة جميلة، جاءها خطيب ذو جاه ومال عمره ستون عاماً، فأقنعاها والداها بقبوله. إلا أن الزوج الشيخ نكب بما أحرز من مال، وأدّى الأمر بالزوجة إلى الإنتحار. وخلص الشاعر إلى القول بأن الفتاة لو تعلّمت لوقيت العثار، وختم قصيدته بقوله:
فكّري من أنت.. وابني الرأي للمستقبل – فهـو آتٍ
واشحذي عزمك وامضي في حياة العمل – بأنـــــــاة
وانهضي بالشرق إن الشرق مثوى العلل – في الفئات
وأعدّي عدّة العلـــم بشــــأن المنـــــــزل – يـــــا فتاة
ستشيدين بناء المجد.. يـــــــا أم الرجال
وتعيدين ربوع العزّ.. تزهو فــــي جلال
فانفضي عنك غبار الهون واسعي للكمال
وقد أثمرت جهود الفتيات الرائدات في تعليم البنات وتأسيس الجمعيات ومكافحة الجهل والخرافات وعقد المؤتمرات النسائية. وتزايد نشاط عنبرة سلام في لبنان وفلسطين وعرّبت الألياذة والأوذيسة لهوميروس والأنيادة لفرجيل. أما عادلة عبد الرحيم بيهم فقد انتقلت بعد زفافها من الأمير مختار الجزائري الى دمشق وأسست فيها مدرسة للبنات سمّتهــــــا «دوحة الأدب». كما ترأست الإتحاد النسائي العربي. وأسست جمعية يقظة الفتاة الشامية وأسهمت في مشروع إنعاش القرى ومكافحة الأميّة وغيرها من المشروعات التنموية.
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أوراق بيروتية” رقم 46