شفيق جدايل: الولادة والنََّشأة والدِّراسة
كانَ يَوْمُ الثًّلاثاء، الواقع فيه العاشر من شهر شباط لسنة 1920 ميلاديَّة، يوماً غير معتادٍ من أيَّامِ بيروت في التَّاريخ المعاصر. الأمطارُ تتساقط بغزارةٍ، لم يألفها ناسُ المدينةِ من قبل؛ والرِّيح تَصْفُرُ، بما لم يعهده القَوْمُ على الإطلاق؛ والأدهى أنَّ درجةَ حرارةِ الجَوِّ باتت شديدةَ التَّدَنِّي، حتَّى احتار النَّاسُ كيف يحصلون على دِفءٍ يَقيهم غائلةَ الصَّقيع.
تَرَكَ مُعظم الأَهالي أعمالهم؛ هجروا الأسواق والشَّوارع وقَبَعوا في بيوتهم، يصطلون جمرَ الكَوانِينِ التي في منازلهم. بَيْدَ أنَّ شابَّاً من أبناءِ بيروت كان، آنذاك، مُنشغلاً بأمورٍ أخرى، غير البَرْدِ والاصطلاء بجمر الكانون. إنَّه «رمضان بن محمَّد جُمعة جَدايِل»، صاحب متجرٍ لِلْعُطورِ في «سوق الطَّويلة» في باطن بيروت. لقد كانت زوجُه، «لَبْوَة قَراقِيرَه»، في مخاضِ ولادةِ حَمْلِها الثَّاني، بعد إنجابها لابنهما البِكر «عفيف».
كان على «رمضان جدايل» أن يقف على أهبّة الاستعداد في منزله، الكائن في محلَّة الصَّنائعِ، تجاه موقع «سيَّار الدَّرك» في منطقة «فردان» اليوم، وتحديداً في الزُّقاقِ الذي اشتُهِر شعبِيَّاً بإسم عائلته، «زاروب جدايل»، يَضْرَعُ إلى الله سائلاً لزوجه ولادةً غير شاقَّة ولهما معاً مولوداً معافى؛ كما كان ينتظر تعليمات القابلة وأوامرها، تنقلها إليه بعض نساء العائلة، لتأمين ما يلزم من احتياجات الوضعِ في ذلك الصَّقيع الذي كان الوالِدُ يخشى سوء عواقبه على الوالدة والمولود.
فجأة، ينطلق «الصَّوتُ»، صوت المولود من غرفة الوالدة، يشقُّ عنان فضاء البيت؛ ولعلَّ إحدى السيِّدات خرجت من غرفة الأم، مُزَغْرِدَةً، تُبَشِّرُ أبا عفيف بسلامة الوالدة والمولود، وبأنَّه مولود ذكر. انهمرت دموعُ الفرحِ من عَيْنَي أبي عفيفٍ وهو يقول «اللهمَّ أشفقتَ عليهما وعليَّ؛ فهو إبني الثَّاني، وإنَّه، بإذنكَ يا ربّ، يا من أشفقت علينا جميعاً، شفيقٌ. إنَّه «شفيق»، إنَّه «شفيق رمضان جدايل».
تبدأ الثُّلوج بالإنهمار على بيروت مساء ذلك الثُّلاثاء. ويستمر تساقط الثَّلج طيلة الليل، ويصبح القومُ، فجرَ الأربعاء، وقد اكتست بيروت حلَّة ثلج أبيض لم تعرفها أبداً ذاكرة ناسها. ولقد دفعت هذه الواقعة أغلب البيروتيين، حينذاك، الى تأريخ الحوادث والمناسبات المختلفة بتلك الظاهرة المناخية الفريدة؛ فكانوا عندما يريدون أن يتحدَّثوا عن أمر ما، مؤرِّخين له، يقولون قبل «التَّلْجة» أو بعدها. وهكذا باتت سنة 1920 تُعْرَفُ، عند أهلِ بيروت، بأنَّها «سنة التَّلجة»، ويكونُ شفيق جدايل قد وُلِدَ، بالتَّحديد، «يوم التَّلجة».
قد يستحقُّ موضوعُ التَّأريخَ بـ «الثَّلجة»، لسنة 1920، في غيرِ هذا المقام، مزيداً من التَّبصُّرِ والتَّحليل في فهم طبيعة الوجدانِ الشَّعبيِّ البيروتيِّ. وعلى سبيل المثال وليس الحصر، فإنَّ سنة 1920 شَهِدت تأسيس «مقهى الجمَّيزة»، في شرق بيروت، وتأسيس «حمَّام النُّزهة»، في غربها، وفي هذه السَّنة تأسَّست «بورصة بيروت» وتمَّ إنجاز القانون الأساسيّ للكشَّاف في لبنان وسُمِيَ هذا الكشَّاف رسميَّاً بإسم «الكشَّاف المسلم»؛ كما أُعْلِنَت، كذلك، «دولة لبنان الكبير». ومع هذا، فإنَّ الظَّاهرة المناخيَّة وحدها طغت على كلِّ تلك الأحداث السِّياسيَّة والاجتماعيَّة في الذَّاكرة الشَّعبيَّة البيروتيَّة، واستمرَّت سنة 1920 تعرف، شعبيَّاً، بإسم «سنة التَّلجة»!
وكيفما دار الأمر، فإنَّ في سيرةِ شفيق جدايل صورةً حقيقيَّةً وعرضاً واقعيَّاً ودرساً تاريخيَّاً عن هذا المُسْلِمِ البَيْروتِيِّ اللُّبنانيِّ الذي وُلِدَ عامَ إعلانِ «دولة لبنان الكبير»، وعاش في رحاب هذه الدَّولة ورافق تطوُّراتها وتحوُّلاتها وكان واحداً من مواطنيها، الذين تفاعلوا معها وبها ولها عبر توالي السِّنين وتتابُعِ الأحداث. ومن هنا، فإنَّ في سيرته هذه ما يشكِّل شهادة على عَيْشِهِ، وكثيرٍ من أبناءِ جيلهِ وأمثالهِ من اللبنانيين، في هذه الدَّولة وكيفيَّة انتمائهم إليها وتفاعلهم مع أوضاعها.
أمَّا أُسرة «جدايل»، التي منها «شفيق جدايل»، فعلى ما يبدو واحدةٌ من أُسَرٍ عربيَّةٍ متعدِّدة تَحْمِلُ اسم «جدايل» أو «جدائل»؛ ومنها أُسَرُ «أبو الجدائل» و«أبو الجدايل» و«أبو جدايل» و«جدايل» و«الجدايل» في العالم العربي. ويبدو أنَّ هذه جميعها ليست أُسْرَةً واحدة؛ وإنَّما هي أُسَرٌ متعدِّدَةٌ اكتسبت هذا اللَّقب من نسبتها إلى فخذٍ من قبيلةٍ أو صِفَةٍ أو مهنة. وقد يمكن، بالعودةِ إلى بعضِ دراسات الأنساب العربيَّة، ومنها دراسة الدكتور «حاتم بن صلاح بن سنوسي أبو الجدائل»، التي نشرها موقع «عائلة أبو الجدايل» الإلكتروني، القولَ إنَّ هناك عدَّةَ فروعٍ لأُسرِ «أبو الجدايل»؛ منها ما ينتسبُ إلى فخذِ «جديلة» من قبيلةِ «عنزة»، ومنها من ينتسب إلى صفةٍ لبعض أبناء القبائل العربيَّة التي اشتُهِر رجالها بصفة جدايلِ الشَّعر، مثل بني «عمرو». وثمَّة من «الجدايل» من ينتسب إلى جَدْلِ العِقالِ وجَدْلِ الحِبال، كأولئك المنتسبين إلى القبائل العربيَّة التي استوطنت المغرب ثم لبنان. ومن الباحثين من يرى أنَّ الأغلب الأعمَّ من أُسر «أبو الجدائل» التي انطلقت من الحجاز وهاجرت، في العهد الفاطمي، إلى مصر وبلاد الشَّام، وتحديداً سورية وفلسطين والأردن، هم «عُمَرِيُّون، أَيْ من ذُرِيَّة الخليفة الرَّاشد الثَّاني «عمر بن الخطاب» رضي الله عنه.
كانت التِّجارةُ شأنَ «رمضان جدايل»، والد «شفيق»، في كسب الرِّزق؛ مَثَلَهُ في هذا مَثَلُ كثيرين من ناس بيروت. فـ «رمضان جدايل»، كما سبقت الإشارة آنفاً، كان صاحب محلٍّ لصناعةِ العطور وبَيْعِها في «سوق الطَّويلة» في بيروت؛ كما كانَ له مشغلٌ صغير في بيته يُحَضِّرُ فيهِ خلطات العُطورِ الخاصَّةِ ذاتُ الأَريجِ المُتَمَيَّز. وصُنْعُ العطورِ وبَيْعُها، فضلاً عن كَوْنِ أوَّلهما مِهنةً وثانيهما تِجارةً، فإنَّهُما مجالٌ يَرْتَكِزُ العملُ فيه على معايير الجمالِ وحُسْنِ الذَّوقِ ورُقِيِّ الأَناقة. ولعلَّ هذه أمور تركت طابعاً ما لها في وجودِ «شفيق جدايل»؛ الذي هو ثاني أولاد العائلة، بعد بِكْرِها «عفيف»، ومن بعدهما وُلِدَ «مصطفى»، ثمَّ «شفيقة» وتلتها «نجاح» ثمَّ «رفيق».
أُلْحِقَ «شفيق»، طفلاً، بـ «مدرسة القِنطاري»، التَّابعة لمدارس «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»؛ ويبدو أنَّ بقاءه في هذه المدرسة لم يطلْ، إذ سُرعان ما أصبح من تلاميذ «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة»، التي كان تأسيسها سنة 1925 في منطقة «عائشة بكَّار»؛ وهي المدرسةُ الأكثر قُرباً، في موقِعِها من موقع سُكْنى عائلته بين هاتين المدرستين. ويبدو أنَّه كان لـ «المدرسة الأزهريَّة الإسلاميَّة»، التي يعتبر «شفيق جدايل» من أَوائِلِ التَّلاميذ الذين انتسبوا إليها فَوْرَ تأسيسِها، الفضلُ الأوَّل والأساس في بَذْرِ شخصيَّتهِ الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة ورعايةِ هذه البَذْرَةِ وإنمائها؛ كما كانَ لمؤسِّس المدرسةِ، الشَّيخ «محمَّد عسَّاف»، الباع الطَّويل في هذا الأمر.
درسَ «شفيق جدايل» أُصولَ اللُّغةِ العربيَّة وعلومَ البلاغةِ والصَّرف والنَّحو والبيان والمعاني، فضلاً عن بعضِ معارفِ الفِقه الإسلاميِّ وحِفْظِ القرآن الكريم في «المدرسة الأزهريَّة الإسلاميَّة». وشدَّت نباهته، في علوم اللغةِ العربيَّةِ التي تلقَّاها كما قدراته على حُسْنِ الأداءِ للنَّصِّ القرآني الكريم، أَنظارَ مُعَلِّميه في المدرسة. ولعلَّ في انتشار الأخبارِ عن تفوقِّهِ هذا بين أقرانه، وتشجيعِ معلِّميهِ له في هذين المضمارين، ما ثبَّت قدميهِ في ميدانِ جودة الإلقاء والسَّعي إلى إتقان مبادئ العربيَّة لغةً وبياناً، تحريراً وشِفاها؛ فغدا صوته الصَّادح بأدائه السَّليم وتعبيره الجميل بالعربيَّة صفةً مميِّزةً له بين زملائه التَّلاميذ وعند أساتذته. وكان من هؤلاء الأساتذة، الذين واكبوا دراسةَ «شفيق جدايل» في صرحِ «المدرسة الأزهريَّة الإسلاميَّة»، أعلامٌ من ناس تلك المرحلة، منهم الشَّيخ «محمَّد عسَّاف» والشَّيخ «عبد الرَّحمن سلام» والشَّيخ «مصطفى الغلاييني»، فضلاً عن الأستاذ «محمَّد شامل» وآخرين. ومن جهةٍ أخرى، فقد انتسبَ «شفيق جدايل»، منذ التحاقه برحاب هذه المدرسة وعبرها، إلى الحركة الكشفيَّة؛ فكان منذ طفولته المدرسيَّةِ هذه في عِداد «جمعيَّة الكشَّاف المسلم»؛ التي وجد فيها أفقاً واسعاً يتعلَّم منه أمور الكشفيَّة وفنونها، كما وجد فيها ساحةً رحبةً تُشًجِّعُ موهبته في الإلقاء والإنشاء وتُتِيحُ لصوته مجالات خصبة في إثباتِ الوجودِ وإذكاءِ الموهبة.
انتقل «شفيق جدايل»، في مرحلة تحصيل المستويين المتوسِّط والثَّانوي من دراسته، إلى «كليَّة المقاصد»، في منطقة «الحرش» من بيروت؛ وتلمَّذ هناك على نخبةٍ أخرى رائعةٍ من كِبار الأساتذة والمربِّين؛ منهم الدكتور «عمر فرُّوخ» والدكتور «زكي النقَّاش» والأستاذ المهندس «إبراهيم عبد العال»، فضلاً عن الشِّيخ «محمَّد طاهر اللاَّدقي» والأستاذ الموسيقي «محمَّد فليفل»؛ وتخرَّج في «ثانوية الحرج»، كما كانت تُعرف شعبيَّاً، حاملاً «شهادة البكالوريا اللُّبنانيَّة». ولعلَّ صَنَوْبَرات «كليَّة المقاصد»، في منطقة «الحرش» من بيروت، ما برحت تحفظ في ذاكرتها صَوْتَ «شفيق جدايل»، وهو يَصْدَحُ في مبارياتِ الخَطابة، التي كانت تُقام في الكليَّة؛ كما تَذْكُرُ طولَ باعِهِ في نَظْمِ الشِّعرِ والوصفِ الإنشائيِّ، يقدِّمهما في قاعةِ الدَّرسِ بين يدي أساتذته. صارَ «الصَّوتُ» أشدَّ وضوحاً، وبدأ يتلمَّسُ لِذاتِهِ طريقاً عَذْبَةً يَشُقُّها بين تَراكيبِ العربيَّةِ ومعانيها في الشَّعرِ والنَّثْرِ على حَدٍّ سَواء. ولقد تَسَنَّى لـ «شفيق جدايل»، في هذه المرحلة من التَّحصيل المدرسيِّ الثَّانوي الالتحاق بدروس في مجال التَّربية في «الجامعة الأميركيَّة في بيروت».
تابعَ شفيق جدايل تَحصيله الدِّراسيَّ في المرحلةِ الجامعيَّة في «جامعة القديس يوسف» في بيروت؛ إذ انتسب فيها إلى معهدي «الحقوق» و«الآداب الشَّرقيَّة»؛ وأَعدَّ هناك دراسةً، ما برحت نسختها المخطوطة محفوظة لدى عائلته بين أوراقه الخاصَّة، في موضوعِ «المسرح العربي في مئة عام»، ونال على إثرها دبلوم الدِّراسات الشَّرقيَّة من «معهد الآداب الشَّرقيَّة» سنة 1946، وكان «شفيقٌ»، آنذاك، في السَّادسة والعشرين من سني العُمر.
شفيق جدايل: المُثَقَّفُ والمربِّي والكَشَّاف
لَعَلَّ «شفيق جدايل» وَرِثَ عن والدهِ، بِحُكْمِ عملِ الوالدِ في مجالِ العطورِ وبِحُكْمِ عِشْرَةِ الابنِ لأبيهِ، حِسَّ التَّذوُّق الجماليِّ والسَّعيِّ الدَّؤوبِ إلى الأناقةِ المُتْرَفَةِ؛ بَيْدَ أنَّ شَفيقاً حَوَّلَ هذا الإرثَ مِنْ فاعليَّةٍ لهُ في مجالِ العُطور،ِ عِنْدَ والدِهِ وبعضِ أخوتِهِ الذين تابعوا عَمَلَ الوالدِ بنجاحٍ؛ إلى مجالِ التَّعامُلِ مع اللُّغةِ العربيَّةِ، إنشاءً وأداءً. ومِن جهةٍ أُخرى، فلقد اكتسبَ «شفيق جدايل» من «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة» بَذْرَتَيْنِ أساسيتين طبعتا حياته بطابع كلِّ منهما. أولى البَذرتين بذرةُ التمكُّنِ من أصولِ اللُّغة العربيَّة، بصرفها ونحوها وبيانها وبلاغتها؛ فلم يكن «شفيق جدايل»، في كلِّ محطَّاتِ حياتهِ وعَمَلِهِ ووجودهِ، إلاَّ سيِّداً من ساداتِ هذه اللغةِ. وثاني البَذرتين هي انتسابه إلى الحركة الكشفيَّة، إثر التحاقه بـ «الكشَّاف المُسْلِم». وتابَع شفيقٌ، منذ كان في السَّابعة من سنيِّ حياته، هذا الانخراط خلال دراسته في «كليَّة المقاصد»، وظل كشَّافاً حتَّى آخر العمر. وكان لـ «شفيق جدايل»، أن يختبر، عبر انتمائه الكشفيِّ هذا، الحياة الاجتماعيَّة ويستوْعب أصول التَّعامل مع الآخر والتَّفاعل الإيجابيِّ الخلاَّق معه ويفهم أهميَّة حبِّ النَّاس واكتساب محبتهم في بناء حياة اجتماعيَّة ناجحة؛ ويعتمد هذه الأمور، بِرُمَّتِها، تالِياً، دَيْدَناً له في حياته العامَّة منها والخاصَّة.
شكَّلت النَّشاطات الكشفيَّة منطلقاً لمواهب «شفيق جدايل» في مجالات الخطابة والكتابة والنَّظم والقيادة؛ إذ كان له نشاط كشفيٌّ مكثَّفٌ؛ فساهم في تأسيس حركة «الكشَّاف المسلم» في لبنان، وأصبح من قادتها المرموقين، كما حصَّل أوسمة وشارات كشفيَّة عديدة وَنَظَم «نشيد الكشَّاف»، الذي أصبح فيما بعد النَّشيد الرَّسميَّ لعدد كبيرٍ من الحركات الكشفيَّة العربيَّة، كما ألَّف النَّشيد الكشفيَّ المعروف عربيَّاً وعالميَّاً «هيَّا إلى اللقاء».
الأستاذ شفيق جدايل
الواقع، أنَّهُ بتوجيهٍ من الشَّيخ توفيق الهبري، رئيسُ مجلس أُمناء مدرسة «دار العلوم»، نَظَّم محمَّد عبد الجبَّار خيري سنة 1912، أوَّل فَوْجٍ كشفيٍّ في مدينة بيروت. ولكن عند نشوب الحرب العالميَّة الأولى، عاد خيري إلى بلده الأصليِّ الهِنْد، فتولَّى أمور هذه الحركةَ الكشفيَّةَ، من بعدِهِ، محمَّد عمر منيمنة، بالتَّعاون مع محي الدِّين النُّصولي وبهاء الدِّين الطبَّاع وسعيد سنُّو. وكان أن توقفت نشاطات الحركة، بسبب من أحداث الحرب العالميَّة الأولى، لِرَدحٍ من الزَّمنِ، ثم عادت للظُّهور باسم «الكشَّاف السُّوري». وتحوَّل اسم الحركة، بعد تكوين «دولة لبنان الكبير» المستقلَّة عن سوريا، إلى اسم «الكشَّاف المُسلم»؛ في 30 أيلول (سبتمبر) سنة 1920؛ أي بعد زهاء سبعة أشهر من ولادة «شفيق جدايل».
بدأ «شفيق جدايل» حياته المهنيَّة في عُمْرٍ مُبْكِرٍ؛ ويبدو أنَّه آثر أن لا يكون مثل أخويهِ اللَّذين تابعا عمل والِدِهِم في مجال العطور؛ فتوجَّه إلى مجالٍ لعلَّه اختاره عبر أخلاقه الكشفيَّة الصَّادقة وقدراته العلميَّةِ المُتَمَثِّلةِ في إتقان فذِّ وحب جارفٍ للعربيَّةِ لغةً وأداءً وجمالاُ وهويَّة. واقع الحال، لقد وقع اختيارُ «شفيق جدايل»، من منطلق إيمانه بالدَّور الرِّسالي وشدَّة تعلُّقه بنصاعة اللغة العربيَّةِ، سلك التَّدريس ينضمُّ إليه. وهكذا، التحقَ سنة 1939، وهو في التَّاسعةِ عشرة من سنيِّ عمره، بِرَكْبِ المُدَرِّسين؛ واتِّخذَ من تَدريسِ اللغةِ العربيَّةِ والعيشِ في رحابِ آدابها والتَّلَذُّذِ بجمالاتها، رسالةً يحيا في سبيلها وهُوِيَّةَ مهنةٍ يَعْتاشُ ولو مِنْ كَفافِها. لقد أحبَّ «شفيق جدايل» التَّعَلُّم والتَّعليم من يفاعته؛ وأراد، بكلِّ وعيه وإيمانِهِ ورغبته، أن يحيا في هذا المجال. وكان أن شَرَّعَت له «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة» أبوابها ليكونَ في عِدادِ مُدرِّسيها؛ ولعلَّ هذا جاء نتيجةَ أمرين أساسيين. أوَّلُ الأمرين وفاءُ شفيقٍ لمدرستِهِ الأولى، وخاصَّة لأستاذه فيها ومؤسِّسها ورائدها الشَّيخ محمَّد عسَّاف؛ وثاني الأمرين إيمانُ المدرسةِ الرَّاسخِ بقدراتِ «شفيق جدايل» العلميَّة وإمكانيَّاته التَّعليميَّة، فضلاً عن سَعيها الصَّادقِ إلى توفير فُرَصِ العمل للنَّابهين من خرِّيجيها. والتحق «شفيق جدايل»، كذلك، وفي تلك المرحلة، وربما بناءً على الأسباب عينها، معلَماً في مدارس «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، التي نهلَ في رحابها دراسته للمرحلة الثَّانويَّة وتخرَّج فيها بشهادة البكالوريا.
«شفيق جدايل» الأستاذ
درَّس «شفيق جدايل» اللُّغةَ العربيَّة في مدارس المقاصد لِرَدْحٍ طويلٍ من الزَّمنِ، وكانَ يَعْمَلُ، كما تُشيرُ سِجِلاَّت «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، في أكثر من مدرسةٍ للجمعِيَّة. لقد درَّسَ في «كليَّة المقاصد» (ثانوية الحرش) كما تولَّى فيها، في بعض الأحيانِ، وإضافةً إلى التَّدريسِ، شؤون النَّظارة الإداريَّة. ودرَّس، كذلك، في «مدرسة عمر بن الخطَّاب» (مدرسة الفاروق)، وكذلك في «مدرسة عثمان ذي النَّورين. ويبدو أنَّ هذا التَّدريس، على فرح الأستاذِ شفيقِ بهِ وافتخارهِ بالذين تلمذوا عليه من أبناء هذه المدارس وروَّادها، قد أصابه بالتَّعبِ المضني، خاصَّةً وهو يتنقَّل من مدرسةٍ إلى أخرى ومنطقة في بيروت إلى سواها، فضلاً عن ما يسبق كلَّ هذا ويلحق به من تحضيرٍ للدروس وتصحيح للمسابقات والفروض المنزليَّة ومتابعة للأمور الإداريَّة. وكان أن اختار الأستاذ جدايل أن يَحْصُرَ تدريسه في مدارسِ «جمعيَّة المقاصد»، من سنة 1943 وحتَّى سنة 1964؛ لِيَكونَ هذا التَّدريسُ في مدرسة «أبي بكر الصدِّيق»، وحدها. إنَّها، في واقع الحال، أوَّل مدرسة أُدْخِلَ إليها «شفيق جدايل» في حياته، وكانت، عهد ذاك، تحمل اسم «مدرسة القنطاري»؛ فالوفاء، عند «شفيق جدايل»، طَبْعٌ وأخلاقٌ وقِيَمٌ وعَمَلٌ وجمالُ عطاء.
شفيق جدايل في سياحة أوروبية
نَظَمَ الأستاذ جدايل، في أجواء التَّدريس ولصالحه، عدداً كبيراً من المقطَّعات الشِّعريَّة ووضع كثيراً من الخطب والنُّصوص المسرحيَّة. وكأنَّ التَّدريس كان نافذةً له يطلُّ منها على الأدب، والشِّعر منه خصوصاً، بصفة الشَّاعر والمسرحيِّ وليس بصفة المُدَرِّس؛ وكأنَّ «شفيق جدايل» أبى إلاَّ أن يَقْرُنَ قوله في تدريس تلاميذه اللُّغة العربيَّةَ وآدابها، بممارسته لما يُدَرِّسه أمامَ تلاميذهِ هؤلاء؛ وكأنَّ الوجودَ الإنسانيَّ عنده واحدٌ، لا فرق فيهِ بينَ قوْلٍ وعَمَل. ومن أشهر مسرحيَّاته، في هذا المجال مسرحيَّة «ملاك الرَّحمة» ومسرحيَّة «السَّاحر المتنكِّر» وكذلك مسرحيَّة «إسلام عمر»، التي وضعها سنة 1950؛ ولاقت رواجاً بين الطلاَّب والمدرِّسين والأهل، وجرى عرضها لأكثر من مرَّة؛ كما قامت «إذاعة لندن» ببثٍّ خاص لها سنة 1951. ومن جهة أخرى، فقد كان لـ «شفيق جدايل» أن يقوم بتدريس اللغة العربيَّةِ، نُطْقاً وكتابةً، لِعَدَدٍ من الباحثين والدَّارسين الأجانب؛ ومن هؤلاء الباحثة الهنديَّة في «علوم اللُّغة» الدكتورة «نيلون موكي».
«شفيق جدايل» في أيامه الإذاعية الأولى
نَشطَ «شفيق جدايل» في المجال الاجتماعيِّ، عاملاً في سبيل خدمة ناس بلده؛ وكانت له عدَّة مشاركات في جمعيَّات ومؤسَّسات خيريَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة. ولعلَّ من أبرز اهتماماته هذه انتسابه إلى «رابطة الشَّباب الإسلاميّ» بصفةِ مستشارٍ لرئيسها الشَّيخ الشَّهيد أحمد عسَّاف، ابن أستاذه في «المدرسة الإسلاميَّة الأزهريَّة» الشَّيخ محمَّد عسَّاف. ولقد شارك «شفيق جدايل»، بصورة أساسيَّة، مع رئيس الرَّابطة الشَّيخ أحمد عسَّاف، سنة 1964، في إجراء الاتصالات العامَّة لإنشاء «المركز الإسلامي» في منطقة عائشة بكَّار؛ كما كان يُشارِكَ في عديد من نشاطات هذا المركز، الذي يُعتبر «شفيق جدايل» من أوَّل مؤسِّسيه. ومن جهة أخرى، فقد اعتاد «شفيق جدايل» تقديم نصوص لمسرحيَّات كانت تُقَدَّم من على مسرح «مؤسَّسات دار الأيتام الإسلاميَّة» في حفلات اختتامِ بعض المواسم التَّدريسيَّة السَّنويَّة؛ كما كان من مشجِّعي «جمعيَّة رعاية الطِّفل اللبنانيّ». وهكذا، لم يعد «الصَّوت»، صوت «شفيق جدايل»، محصوراً بقاعات المدارس وباحاتها؛ بل أضحى صادحاً، بجماله وقوَّة حضوره وروعة لغته العربيَّة الفصحى، من على منابر المؤسَّسات الإجتماعيَّة والثَّقافيَّة، فضلاً عن تلك الكشفيَّة والتَّربوية.
«شفيق جدايل»، عاشق الطبيعة
يمكن القول إنَّ سنة 1945 تشكِّل محطَّةً مميِّزةً أخرى في مسيرة «الصَّوت»، صوتُ «شفيق جدايل». ولقد انطلقت مسيرة جدايل هذه المرة، عبر هذه التحاقه، في هذه السَّنة، مُذيعاً في «دار الإذاعة اللبنانيَّة من بيروت»، إثرَ نجاحه في مباراة للدُّخول أمام لجنة فاحصة. كان قوام اللَّجنة كِبارٌ من ناس الأدب واللُّغة والفكر والثَّقافة والموسيقى في ذلك الزَّمن؛ هُم: عمر فاخوري وعمر الزِّعنِّي وميشال خيَّاط ومحيي الدِّين سلام وغنطوس الرَّامي والياس أبو شبكة. وكان أن باشر جدايل العمل الإذاعي، بعد دقائق من إجراء المقابلة وموافقة اللَّجنة الفاحصة على نجاحه في المباراة. أمَّا مباشرته هذه، فكانت عبر قراءة ثلاث نشرات إخباريَّة وتقديم مواد الرَّبط الإذاعي للبرنامج العام، فضلاً عن إجراء مقابلة مع وفد فرنسي زائر وإذاعة حديث مباشر معه باللغة الفرنسية وتعريب هذا الحديثِ مباشرةً وإعادة بثه بالعربيَّة.
شفيق جدايل: كبير المُذيعين
أعدَّ شفيق جدايل مجموعة كبيرة من البرامج الإذاعيَّة؛ منها ما كان لغويَّ الطَّابع ومنها ما كان أدبيَّ التَّوجُّه أو وطنيَّ المنحى؛ فضلاً عن كثيرٍ من المسابقات الثَّقافيَّة. ولعلَّ برنامجه «اسم فعل حرف»، الذي يسعى إلى تيسير دَرْسِ اللُّغة العربيَّة وتقديم هذا الدَّرس بأسلوبٍ ممتِعٍ جَذَّابٍ، يُعتبرُ من أشهر البرامج الإذاعيَّة التَّعليميَّةِ وأطولها عُمراً في تلك المرحلة.
وضع الأستاذ جدايل للإذاعة، كذلك عدداً من التَّمثيليَّات والأدعيةِ الإذاعيَّة؛ ومن هذه الأدعيَّة نصوص إبتهاليَّةٌ إيمانيَّة ما برحت الإذاعة اللُّبنانيَّة، وسواها من الإذاعات، تَبُثُّها في شهر رمضان المبارك من كلِّ سنة. ومن جهةٍ أخرى، كان الأستاذ جدايل مؤسِّساً لنشاطِ النَّقلِ الإذاعيِّ المباشر؛ ولقد شكَّل جدايلٌ، في هذا، مدرسةً له انماز بها، وكانت مِثالاً يُحتذى في دقَّة الوصف وجماليَّة التَّعبير وفصاحة اللُّغة. واشتُهِر له نقله الأسبوعيُّ لوقائع صَلاتَيْ يوم الجمعة وخطبتها وكذلك قداديس يوم الأحد من مساجد بيروت وكنائسها كما من سائر المناطق اللبنانيَّة عامَّة. وكان في نقله لهذه الوقائع، يعتمد أسلوب التَّصوير الفنيِّ الجماليِّ للأحداث بالكلمات؛ وكأنَّ كلماته وتعابيره اللفظيَّة هذه تأخذُ محلَّ التَّصوير التِّلفزيوني الذي لم يكن معروفاً في البلاد. وعُرِفَ عنِ الأستاذ جدايل، كذاك، نَقْلُهُ المباشِر لإذاعةِ حفلاتِ سَحْبِ نتائجِ «اليانصيب الوطنيِّ اللبنانيِّ»، وامتاز في هذا النَّقل بِعَرْضِهِ الإذاعيِّ الصَّوتيِّ لأرقام النَّتائج بدقَّةٍ ووضوحٍ ويُسْر من دون الاستغناء عن بلاغةِ الوصفِ وجمالِ الأداءِ ورقَّته. واشتُهر شفيق جدايل بنقله الإذاعي المباشِر للاحتفالات الوطنيَّة الكبرى، مثل «استعراض الجيش» في عيد الاستقلال، والاحتفال بـ «ذكرى الشُّهداء» في كلِّ سادس من شهرِ أيَّار، فضلاً عن الحفلِ السَّنويِّ لافتِتاحِ «مُخيَّمِ الكشَّافِ المُسلِم» والنَقْلِ الموسميِّ لِوقائع «شعائرِ الحجِّ» من على جبل عَرَفَة، وسوى ذلك من المُناسبات. والأهمُّ في كلِّ هذا أنَّ شفيق جدايل كان يقوم، في زمنٍ لم يكنْ النَّقل التِّلفزيوني حاضراُ فيه في لبنان، بِلُغَتِهِ العربيَّة الفُصحى وسلاسةِ تعبيرهِ وجماليَّةِ ألفاظهِ وروعةِ بيانه وبالأكثر عذوبة من تنغيمات صوته، بما تعجز الكاميرا التِّلفزيونيَّة عن نقل جماليَّة حصوله من الأحداث؛ ولعلَّه يفوق في هذا ما قد يجْهَدُ بعض المذيعين اليوم القيام به بمساعدة الكاميرا أو الاستعانة بتعليقات وأوصاف تغلب فيها المحكيَّة على الفصحى بدعوى التَّيسير والتَّقريب.
كان شفيق جدايل، بأدائه الإذاعيِّ، أستاذ مدرسة وطنيَّة عربيَّةٍ في تعليم العربيَّة الفصحى إنشاءً وأداءً؛ وثمَّةَ أجيال كاملة من مستمعي الإذاعة اللبنانيَّة، ومعظمهم لم يتسنَّ لكثيرين منهم اللقاء الشَّخصي المباشر معه، قد تَلْمَذوا عليه في هذا المجال الرَّحب والجميل من مجالات العربيَّة الفصحى إنشاءً وإلقاءً. وهنا يقف «الصَّوت»، صوت شفيق جدايل، فوق واحدة من أعلى ذرى حضوره الوطني والعربي والإذاعي، المذيع معلِّم العربيَّة والقدوة الأجمل لمحبِّيها والنَّاهدين إلى عليائها. ولذا، فقد كان طبيعيَّاً جدَّاً أن يلَقَّب الأستاذ شفيق جدايل بـ «شيخ المذيعين العرب» و«عميد المذيعين»؛ فضلاً عن أنَّه، كانَ وما برح، أفضل من حمل لقب «كبير مُذيعي الإذاعة اللبنانيَّة». ولقد تسنَّى له أن يقدِّمَ النَّقل التِّلفزيونيِّ المباشر في السنين الأخيرة من حياته؛ فكان لكثيرين حظُّ التَّعرُّف إليه صوتاً وصورةً، بعد أنْ عرفوه صوتاً من خلال البثِّ الإذاعيِّ.
شفيق جدايل: العروبي
كما عشق شفيق جدايل اللُّغة العربيَّة، إنشاءً وأداءً؛ فإنَّه التزم القوميَّة العربيَّة، هُويَّةً وحضارةً ورؤيةً، في كلِّ محطَّات حياته. ولم يكن إيمانه بالعروبة إلاَّ دافعاً له ليكون مواطناً لبنانيَّاً نموذجيَّاً، يؤمن بلبنان، الذي وُلِدَ رسميَّاً في عام ولادته سنة 1920، وينخرط في كلِّ شؤونه وشجونه مخلصاً ووفيَّاً لوجوده. لقد كانت عروبة شفيق جدايل أخت لبنانيته إن لم تكن ابنتها، وهكذا كان حال أبناء بيئته وجيله الذين ما وُلِدوا إلاَّ في لبنان، فآمنوا بِهِ وأحبُّوه وأخلصوا له وطناً ومستقرَّاً ومستقبلاً، وما وجدوا إلاَّ في العروبة هويَّة قوميَّة وحضاريَّةً لعيشهم وثقافتهم. وفي سنة 1958 هجمت على لبنان زوابع تَفْرِقَةٍ تَجَلَّت في صِراعاتٍ سياسيَّةٍ، خارجيَّةٍ وداخليَّةٍ، كادت تشقُّ وحدة اللبنانيين فيما بينهم وتُهدِّدُ وجودَ دولة لبنان. وكان على شفيق جدايل، وهو الإعلاميُّ البارز والوجه الأشدّ سطوعاً في الإذاعة بين زملائه، أن يختار لفكره العروبيِّ منصَّةً إعلاميَّةً تتيح لهذا الفكرِ ما يبغيه لذاته من انطلاقِ وحريَّةِ تعبير. ومن دون أيِّ تردُّدٍ، غادر شفيق جدايل عمله الإذاعي الرَّسميِّ، الذي شكَّل له، مع التَّدريس، مصدر كسب قوته وقوت عياله اليوميِّ، إلى إذاعة «صوت العروبة» التي كانت تبثُّ برامجها العروبيَّة بإسم «المقاومة الشَّعبيَّة» وبرعاية «حزب النجَّادة» ومن مقرِّه.
دخل شفيق جدايل رحاب إذاعة «صوت العروبة»؛ وبالزَّخم الصَّادق عينه الذي اعتاده النَّاس منه يوم كان يقول «دار الإذاعة اللبنانيَّة من بيروت»، ملأ صوته الآفاق وهو يقول هذه المرَّة «صوت العروبة، صوت المقاومة الشَّعبيَّة في لبنان»، دفاعاً عن عروبة لبنان وحَقِّ ناسهِ في عيش هذه العروبة. كان شفيق جدايل أحد أبرز العاملين في إذاعة «صوت العروبة»؛ يُديرُ البرامج، يُعِدُّ نشرات الأخبار، يُقَدِّمُ التَّعليقات على الأحداث، ويَنْظُمُ الأناشيد للثَّورة الشَّعبيَّة. ويومها انتشر لشفيق جدايل وذاعَ بين النَّاس نشيدُ «أخي في العروبة هيَّا بِنا»؛ حتَّى بات هذا النَّشيد وكأنَّه النَّشيد الرَّسميَّ لـ «المقاومة الشَّعبيَّة». ويوم انجَلَت سُحُبُ ذلك الشِّقاق بين اللُّبنانيين، وكان لا بدَّ من توقُّف إذاعة «صوتِ العروبة» عن البثِّ؛ كانَ على شفيق جدايل أن يَنْتظر أكثر من ثلاث سنوات كي يعاد تسوية وضعه مع إدارة الإذاعة الرَّسميَّة، التي باتت تعرف، في هذه المرحلة، بإسم «إذاعة لبنان» بديلاً من «دار الإذاعة اللبنانيَّة من بيروت»! ويوم دخل الأستاذ جدايل مبنى الإذاعة عائداً، بصورة رسميَّةٍ، إلى ربوعها، أصرَّ حرسُ الإذاعة، حُبَّاً منهم بالأستاذ شفيق جدايل، على تقديم التَّحيَّة الرَّسميَّة له وعزف نشيد التَّعظيم عند مروره.
نَظَمَ شفيق جدايل عدداً من الأناشيد، التي لحَّن معظمها الأخوان فليفل؛ ومن أَشْهَرِ منظوماتهِ هذه «نشيد الكشَّاف» ونشيد «أخي في العروبة هَيَّا بِنا» الذي كانت تذيعه إذاعة صوت العروبة باستمرار إبَّان أحداث سنة 1985 في لبنان. ونظم، كذلك، قصائد غنائيَّة عديدة، منها قصيدة، غَنَّتها السيِّدة فيروز، مطلعها «تعال تعال كفاك دلال». وواقع الحال، فإنَّ شفيق جدايل الشَّاعر، ما انْفَكَّ مجهولاً من كثيرين؛ بل لا يكاد النَّاس يعرفون سوى النَّزر اليسير والأقل من منظوماته، التي ما فتئت محفوظةً بين أوراقه الخاصَّة برعاية أسرته. وهذا أمر يستدعي الكشف عنها، والعمل على تحقيقها ونشرها، والسَّعي الحثيث إلى تعريف الأجيال بها؛ إذ هي منظومات وطنيَّة وكشفيَّة وغنائيَّة ودينيَّة واجتماعيَّة. ولا بدَّ من الإشارة إلى أن الأستاذ جدايل، فضلاً عن وضعه الأناشيد الكشفيَّة، اشتهر بأنَّه واضع لكثير من «الصَّرخات الكشفيَّة» التي ما برح كشَّافون كُثر يردِّدونها، وقِلَّةٌ منهم تُدرك أنَّ واضعها هو شفيق جدايل وأنَّها صوته الكشفيّ الذي ما انفكَّ يضجُّ في وجدانهم.
إبَّان هذه الأحداث في حياة «الصَّوت»، صوت شفيق جدايل، كان شفيق قد تزوَّج سنة 1948 من الآنسة كَوْثَر مُحَمَّد علي الكردي؛ وأَنْجَبَ مِنها ثلاثةَ أولادٍ، أوَّلهم «رلى»، ويقال إنَّ هذا الاسم كان يُطْلَقُ لِلْمَرَّةِ الأولى في التَّاريخ على فتاةٍ في اللُّغة العربيَّة، إذ هو في الأصل اسم لقبيلة عربيَّة قديمة؛ ثمَّ كان «أُسامَة» وتلاهُ «بِلال». أمَّا رُلى، فقد درست «الحقوق»، وتخرَّجت في معهد القضاء في لبنان قاضٍ؛ وهي اليوم من نخبة القضاة التي يشار إليها بالبنان. وأمَّا أسامة، فقد تَخَصَّصَ في «الهندسة الميكانيكيَّة والطَّيران» في جامعة برمنغهام في بريطانيا؛ وهو اليوم من كبار أساتذة العلوم الميكانيكيَّة والطَّيران في «جامعة البلمند»؛ وله مؤلَّفات من أشهرها كتابه عن تاريخ الطَّيران في لبنان. وأما بلال، فلقد درس اختصاص «إدارة الأعمال» في «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»؛ وتابع تحصيله العلمي في «جامعة برمنغهام» في بريطانيا؛ وهو اليوم مدير اقتصاديٌّ لأحدى الشَّركات الكبرى في دولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة. ولقد أحبَّ شفيق جدايل عائلته وأخلص لها وتفانى في سبيل رعايتها. وكان شفيق جدايل يعتبر بيته مملكته التي يحيا لأجلها؛ فأحبَّ زوجه وأكرمها وأحسن رفقتها، وكانت رفيقته في كثير من جولاته السِّياحيَّة في الخارج في سويسرا وفرنسا وروسيا وبلغاريا واليونان والهند ومصر وتركيا والمغرب والجزائر وتونس والسعودية والإمارات والبحرين والأردن وفلسطين.
نالَ شفيق جدايل في يوم الثلاثاء الواقع فيه 17 آب سنة 1954، من الدَّولة اللبنانيَّة، «وسام المعارف» من الدرجة الأولى؛ وقد علِّق هذا الوسام على صدره في احتفال أقيم في الملعب البلدي في بلدة بحمدون. وصدر في يوم الأربعاء الواقع فيه 6 تشرين الثاني سنة 1985 مرسومٌ خاصٌّ بمنح الأستاذ شفيق جدايل «وسام الأرز الوطنيِّ»، من رتبة ضابط؛ وأعدَّ، شفيقٌ، قصيدةً خاصَّةً لِيُلْقيها في هذه المناسبة، التي تقرَّر أن تكون في موعدِ الاحتفال السَّنويِّ بـ «عيد الاستقلال» في لبنان، يوم الجمعة الواقع فيه 22 تشرين الثَّاني من تلك السَّنة؛ والاحتفال السَّنويِّ بـ «عيد الاستقلال» في لبنان مناسبةُ وطنيَّةٌ طالما نقل شفيق جدايل وقائعها عبر أثير الإذاعة. ومع فجر يوم الجمعة هذا، وبينما كان شفيق جدايل نائماً في فِراشِهِ، فاجأته نوبة قلبيَّة حادَّة، سبَّبت وفاته، يوم الاحتفال بتعليق وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط على صدره.
هكذا، غاب صاحب «الصَّوت»؛ غاب وجه شفيق جدايل عن سطح هذه الأرض، وأنزرع جثمانه، في مدافن الباشورة من مدينة بيروت، بخوراً يتضوَّع تجربةً وطنيَّة رائعةً في حبِّ لبنان. وظلَّ «الصَّوتُ»، صوت شفيق جدايل، وما بَرِحَ يَصْدَحُ في الآفاقِ عَبَقَ لُغَةٍ عربيَّة صافيَّة هي لذَّةٌ للسَّامعين ومثالُ أداءٍ وجمالُ إنشاءٍ هما قدوةٌ للمريدين.
كان نَظْمُ الشِّعرِ هوايةَ شفيق الكبرى، كما كان له وَلَعٌ بِجَمْعِ الطَّوابع البريديَّة وهوس في أرشفةِ قصاصات الصُّحف، وحبُّ جارف للرَّحلات والسِّياحة في الخارج. أمَّا المنظومات، فما انفكَّت محفوظةً بعناية أولاده، تنتظر أن تُنْشَرَ وتعود محيِيّةً بنشرها أصداء وترجيعات من ذلك «الصَّوت»، صوت شفيق جدايل. وأمَّا الطَّوابع، فما زالت قابعةً، بالتَّرتيب الذي تركها فيه شفيق؛ تشهدُ لأحداث وتواريخ ومراسلات؛ في حين أنَّ قصاصات الصُّحف صارت أوراقاً مُكَدَّسةُ تكاد تحجبها، في هذه الأيَّام، طُرُقٌ جديدةٌ لِلْأَرْشَفَةِ يُقدِّمها المِحْسابُ (الكومبيوتر) وترفدها مواقع البحث الإلكترونيَّة؛ بيد أنَّ في هذه القُصاصات ما قد يشهدُ لأحداثٍ ونصوصٍ أثارت اهتمام جامعها، وقد تساعد هذه الشَّهادة على فهمٍ أَشد عمقاً وموثوقيَّةً موضوعيَّة لشخصيَّته. أمَّا الرَّحلات، فقد استمتع بها شفيق حتَّى الثمالة، وأبقى صوراً تحفظ بعض ما كان منها، وكثيراً من ذكريات الحبِّ والمحبَّة في نفوس من كانوا من مرافقيه فيها.
للمربِّي الأستاذ شفيق جدايل، طلاَّب، عبر مقاعدِ الدِّراسة، أكثر من أن يُمكن إحصاؤهم؛ وللقائد الكشفيِّ شفيق جدايل، كشَّافون عملوا تحت قيادته الكشفيَّة أكثر من أن يُعَدُّوا. وللأديب المذيع شفيق جدايل مِنَ المُريدين، العرب والأجانب، الذين جعلوا من أدائه للعربيَّة نبراساً، من هم منتشرون لليوم في أصقاع الأرض كافَّة.
شجَّع شفيق جدايل كثيراً من الفنَّانين على العمل والانتاج وإغناء المكتبة الفنيَّة للإذاعة في لبنان؛ ومن هؤلاء الفنانة سعاد كريم والفنَّان وحيد جلال؛ كما اكتشف المُمَثل محمود سعيد وشجَّعه على العمل، وخاصَّة في مجال الأداء الإذاعي. ومن جهة أخرى، فقد درَّب عدداً كبيراً من اللبنانيين والعرب، مِمَّن امتهنوا العمل الإذاعيَّ في لبنان والخارج ورعاهم، مثل السَّيدات أنطوانيت ملُّوحي وسُعاد قاروط العَشِّي وسُعاد ماجد والأساتذة عصام عبد الله وأحمد غندور ومحمَّد الصّيداني ومحمَّد حجازي.
لعلَّ من أبرز ما اشتُهِر من صفات شفيق جدايل أنَّه كان شديد الثِّقة بالنَّفس، مخلصاً لآرائه والتزاماته وأهله وأصدقائه وكلِّ من يتعامل معه. ولعلَّ من أجمل ما يُذكر به، من قِبَلِ عارفيه، أنَّه كان يتمتَّع بشفافيَّةِ المَحَبَّةِ والحرصِ على الخيرِ والتَّمَسُّكِ بالحقِّ والإصرارِ على التَّعاونِ مع الغَيْرِ وقَبولِ الآخرِ واحترامه له والالتزام بالتَّواضع والحياء. ولكم شَهِدَ من كانوا على صلة به على تفانيهِ في العملِ وتأديتهِ له كاملاً، وعدم التَّواني عن تأمين النَّجاح حتَّى لأدقِّ تفاصيلِ هذا العملِ وأكثرِها هامشيَّة. ويَشْهَدُ له كثيرٌ من عارفيه في الحقلِ التَّربويِّ إيمانه بضرورةِ إتاحة الفُرَصِ للأجيالِ النَّاشئة لأخذ ما تستحقّه من فُرص النَّجاح؛ فضلاً عن اعتباره التَّعليم رسالة اجتماعيَّة وحضاريَّة وثقافيَّة. ويروي ذَووه، والنُّخبةُ ممَّن عاشوا معه عن قُرْبٍ، الأخبارَ الموثَّقة عن إيمانه المطلق بالله ورسالة الإسلام؛ كما يَذكر له، رفاقه الكشَّافون، إيمانه بأهميَّة الحياة الكشفيَّة وأساسيَّتها في بناء الإنسان. ويشهد أولاده على إيمانه بأساسيَّة الأسرة في حياته والتَّفاني في سبيلها. ويشهد له وطنه، لبنان، على إيمانه الصَّادق والثَّابت، قولاً وعملاً، بالوطن وجيشه وشعبه وأرضه. وإن كان من شهادة تُضاف إلى كلِّ هذا الخير، عن شفيق جدايل، فما من أحدٍ، سمعه أو قرأ له، إلاَّ ويشهد له بالتَّمكُّنِ الأنيقِ والجماليِّ اللَّبِق من العربيَّة لغةً وتعبيراً وأداءً.
________
*رئيس المركز الثقافي الإسلامي