لا يمكن أن أتذكَّر أيام دراستي، بل عيشي، في «مدرسة عُثمان ذي النُّورين»، أو «الزَّينُوريْن»، ونحنُ، تلاميذ تلك المدرسة، نصطلح، منذ ذلك الزَّمَن، على تسميتها به، إلاَّ وتبرز في وجداني وعقلي صورة المدير، فضيلة الأستاذ «الشَّيخ مُحَمَّد الغَزال»، رَحِمَهُ اللهُ؛ فاعلةَ الحضورِ، نابضةً بحيويَّةِ المشهدِ ورَهبةِ اللَّحظةِ الممزوجتينِ بِعَبَقِ الذِّكرى وأَلَقِ أيَّام الطُّفولة. تَبْني ذِكرى هذا «المُدير»، في بالي، أوَّل واحدة من تلك المفاهيم، التي تحوَّلت إلى قِيَمٍ، ليس في حياتي وتفكيري وحسب، بل في نماذجِ التَّربية والتَّعليم لتلك المرحلةِ من مطلع عقودِ النّصف الثَّاني من القرن العشرين.
تَتَجلَّى أولى هذه اللَّحظات المميَّزات، عبر ارتباطها بشخص المدير الأستاذ «الشَّيخ مُحَمَّد الغَزال»؛ وعلى قدرته، بحضوره الشَّخصيِّ، مُجرَّداً مِن أيِّ محاولةٍ للتَّهديد أو الوعيد أو التَّأنيب أو القَمْعِ، على مواجهةِ حالات الشَّغبِ أو الفوضى، وصدِّها في المدرسة.
كانَ على التَّلاميذ وقتذاك، أن يقوموا بالصُّعود والنُّزول، على الدَّرَج الدَّاخليِّ للمدرسة، ستَّ مرَّاتٍ على الأقل في اليوم الواحد. كان على التَّلاميذ، عهد ذاك، أن يتجمَّعوا، بدايةً، عند السَّاعةِ الثَّامنةِ إلاَّ ربع، من كلِّ واحِدٍ من صباحاتِ أيَّام التَّدريس، في طوابير أو قطارات منتظمة، وفاقاً لصفوف تدريسهم، وضمن مراعاة مبدأ الاصطفاف للأقصر في الأمام، ثمَّ الأطول فالأطول فالأكثر طولاً. يُلقي التلاميذ، بداية، السَّمع، إلى «تلاوة مباركة» مِمَّا تيسَّر من آياتِ «القرآن الكريم»، مِن أحد التَّلاميذ؛ تلي التِّلاوة، خطبةٌ توجيهيَّةٌ قصيرة، يتناوب المدرِّسون على تقديمها، كلٌّ في يوم معيَّن؛ وقد يكون، أخيراً، محلٌّ لملاحظاتٍ يُبديها «المُدير»، إذا ما اقتضى الأمر.
ينتقل التَّلاميذ، تالياُ، من الباحة، صعوداً، على الدَّرج الدَّاخليِّ، إلى الطَّابقين الأوَّل والثَّاني من المبنى؛ وكان لا بدَّ لهم من النُّزول إلى الملعبِ، على الدَّرجاتِ عينها، وقتَ بدءِ «فرصة السَّاعة العاشرة»؛ ثمَّ الصُّعود» إلى قاعات التَّدريس، إِثر انتهاء «فرصة السَّاعة العاشرة»؛ والنُّزول، مجدَّداً، وقت الانصرافِ من المدرسة، عند السَّاعة الثَّانية عشرة والنصف ظهراً، في ما كان يسمَّى «فرصةِ الظُّهرِ»، إثر انتهاء الحصَّة التَّدريسيَّة الرَّابعة؛ والتَّوجُّه إلى بيوت الأهل؛ ومن ثمَّ، معاودة صُعود الدَّرجِ، إثر انتهاء هذه الاستراحة، عند السَّاعة الثَّانية ظهراً؛ فالنُّزول، للمرَّة الأخيرة، عند الانصراف النِّهائيِّ من المدرسةِ، بعد انتهاء الحصَّة التَّدريسيَّة السَّادسة، عند السَّاعة الرَّابعة من بعد الظُّهر.
كان التَّقليد المدرسي يقضي، على التَّلاميذ، من جهة أخرى، التوجُّه، قبل انطلاقهم إلى «فرصة الظُّهر»، إلى «مسجد رأس النَّبع»، المواجه لمبنى المدرسة، بقيادة أحد النُّظَّار، ومصاحبة مجموعة من الأساتذة، ومراقبة دقيقة من المدير «الشَّيخ الغزال»، للتَّوضُّوءِ، وإقامة «صلاة الظُّهر» جماعةً؛ وليكن الله، وحده، في عون أيّ تلميذ يتخلَّف عن المشاركة في أداء تلك الصَّلاة؛ إذ المدير «الشَّيخ الغزال»، سيكون له بالمرصاد، في اليوم التدريسي التَّالي، عند الاجتماع الصَّباحيِّ للتَّلاميذ في باحة الملعب.
يتوزَّع دوام التَّدريس، في ذلك الزَّمَن، على ثلاث محطَّات أساس؛ تبدأ الأولى، من هذه المحطات، عند السَّاعة الثامنة صباحاً، وتتضمَّن حصتين للتَّدريس، مدَّة كلّ واحدة منهما ساعة زمنيَّة واحدة. تنتهي هذه المحطَّة عند السَّاعة العاشرة صباحاً؛ تليها استراحة من الدَّرس؛ ينتقل فيها التَّلاميذ إلى باحة المدرسة، لقضاء حاجاتهم الطَّبيعيَّة، وشراءِ ما يمكنهم من دكَّان «أبي جميل جمال الدين»، القابع عند الزَّاوية الشَّرقيَّة الجنوبيَّة من تلك الباحة؛ وممارسةِ بعضِ حركات الرَّكض والمطاردة في لعبة «اللَّقيطة»؛ وهي تسمية، من المحكيَّة البيروتيَّة، مبنيَّة على لفظٍ عربيٍّ فصيحٍ، مشتقٍّ من جذر «ل ق ط»؛ ومن معانيه «الأخذ» و«الامساك».
تقوم لعبة «اللَّقيطة» على مبدأ الإِمساك باللاعبين، وذلك بـ «التقاط» أحد اللاَّعبين رفاقه في اللَّعبة؛ وهكذا كان على أحد التَّلاميذ أن يسعى للإمساك بمن يمكنه الامساك به من رفاقه في «اللُّعبة»؛ فإذا ما أمسك بهِ، صارت مهمَّة الإمساك بالآخرين، أو «التقاطهم»، مناطةً بهذا «الملقوط»؛ وهكذا دواليك، إلى أنْ يستقرَّ الوقت عند السَّاعة العاشرة والنّصف.
يجتمع التَّلاميذ، في هذا الوقت، بإشراف «النَّاظرين»، الأستاذ مُحَمَّد المصري والأستاذ أحمد اللبَّان، في الطوابير، أو القطارات، الموزَّعة على أساس الصَّف الدِّراسي؛ ويتوجَّه تلاميذ كلِّ طابورٍ، أو قطارٍ، من ثمَّ إلى قاعة التَّدريس المُخَصَّصَة لهم، بارتقاء الدَّرَج الدَّاخلي للمدرسة. تنتهي المحطَّة التَّدريسية الثَّانية عند السَّاعة الثَّانية عشرة والنّصف ظهراً؛ فيغادر التَّلاميذ صفوفهم، عبر الدَّرَج الدَّاخلي، إلى باحة المدرسة؛ فيتوجه معظمهم، ممن كانت منازل والديهم قريبة من المدرسة، إلى تلك البيوت، لتناول طعام الغداء؛ وتبقى قلّة منهم في الباحة، يتناولون ما أحضروه معهم، من منازل والديهم، من طعامٍ، بشكل لفافات من الخبز؛ كنَّا نسمِّيها «عرائس»، ومفردها «عروس»، أو نسمِّيها «كداديش»، وهذا تعبيرُ جَمْعٍ بالمحكيَّة البيروتيَّةِ، من أصل ِلفظ عربيٍّ فصيحٍ، هو كَدَشَ»، يفيد الأخذَ، كما يفيد القطع بالأسنان، مفردها «كدّوُشة»؛ وغالباً ما كانت تلفُّ بـ «الكَدُّوشَة» مأكولاتُ خفيفة؛ لا مَرَقَ فيها أو سوائل كثيرة.
يلتئم شمل التَّلاميذ، عند السَّاعة الثَّانية ظهراً، لبدء المحطَّة الدِّراسيَّة الثَّالثة والأخيرة؛ فيتجمَّعون، وفاقاً للتَّوزُّع على الطوابير، القطارات، في الباحة؛ ويتوجَّه تلامذة كل طابور، أو قطار، إلى قاعة التَّدريس المُخَصَّصَة لهم؛ فيمضون هناك حصَّتين من التَّدريس، تنتهيان عند السَّاعة الرَّابعة من بعد الظُّهر؛ حين ينصرف الطلاَّب، وسط ضجيجٍ صاخبٍ مُحَبَّبٍ، كلٌّ إلى منزل أهله.
كُنَّا مجموعة من ثلاثمائة، أو أكثر، من الأولاد؛ عليها أن تصعد، أو تنزل، مجتمعةً، ذلك الدَّرَج؛ لتصل، عبره، إلى قاعات التَّدريس، في ذلك المبنى البسيط، لكن الأنيق والمُعدّ خصيصاً ليكون مبنىً لمدرسة. وكيف يُعقل لثلاثمائة ولد، لم يصل أكبرهم سناً إلى الثَّالثة عشرة من عمره، أن يمارسوا هذا العبور للدَّرج، من غير فوضى، أو صراخ، أو إيقاع رفاقهم في مقالب، تبتدعها تلك المخيِّلة الرَّائعة والخلاَّقة التي يتحلَّى بها كثير من النَّاشئة في تلك السِّن؟ ثمَّ هل يعقل أن يمرَّ هذا المشهد، الذي يتكرَّر ستَّ مرَّات في اليوم الدِّراسيِّ الواحد، من غير ما أن يتعرَّض بعض الأساتذة فيهِ لشيءٍ من العَبَث البريء؛ يمارسه قسمٌ من هؤلاء الأولاد، انتقاماً من درسٍ مُتعِبٍ، أو امتحانٍ صعبٍ؛ أو من عقابٍ مُجْحِفٍ سَبَقَ لهذا الأستاذ أو ذاك أن أوقعه على بعضهم.
كُنَّا نُخَططُ لهذا كُلَّه، بل نسعى لأن يصاحب رحلات الصُّعود والنُّزول، على الدَّرَج الداخلي للــ «الزِّينُّوريْن»، كمٌّ لا بأس من الهرج والمرج والصُّراخ؛ لكن قّلَّما كُنَّا ننجح في تنفيذ كامل لما نخطط له، أو لما كنا سنفرح به، إذا ما تمكنا من تنفيذه. كنَّا نفشل، بل نصاب بإرباك مرعب، لحظة أن يخرج «الشَّيخ الغَزال»، من مكتبه المواجه لمطلع ذلك الدَّرَج. كان يكفي أن يَطلُّ «الشيخُ» من باب مكتبه هذا، وقد وضع عمامته على رأسه، وانعقدت تقطيبةٌ مرعبة بين عينيه البرَّاقتين في صفحة وجهه المُشربة بالحمرة، حتَّى ينتهي كلّ ما كنَّا نقوم به أو خطَّطنا له؛ ولم نكن نعرف أبداً كيف يجمد كل شيء فينا.
نُصابُ بالصَّدمة، نتحوَّل إلى ما يشبه التَّماثيل الخرساء المنحوتة من صخرٍ أصمّ؛ فلا حركةٌ تحصل، ولا صوت يصدر؛ ولا حتى نظرة تسعى، ولو خفية، إلى استكشاف ما يحيط بنا من أشخاص أو تحرُّكات. «الشَّيخ مُحَمَّد» صامتٌ، الأستاذ المُناوب، المكلَّف بمرافقتنا على الدَّرَج ومراقبة وجودنا عليه، يقف مثلنا صامتاً، والسكون يفترس المكان، كلّ المكان؛ بل لعلَّنا نعتقد أنّ ذلك السُّكون بات مُنْسحباً حتَّى على الزَّمَن. تَتّجّمَّدُ الدنيا برمَّتها؛ لا يُعيدُها إلى حركتها سوى صوت «الشيخ مُحَمَّد»، وقد تَمْتَمَ بكلمات، خرجت بغير وضوح من فمه؛ كلمات ما كانت أبداً من نوع الكلمات الواضحة، فما كان لأحدٍ منَّا أن يقدر على فهم معظم ما كان يتلفَّظ به «الشَّيخ مُحَمَّد» في مثل تلك الحالات. واقع الأمر، لقد كانت كلماته، ههنا، وربَّما عن عَمَدٍ، من نوع «الكلمات الوجود»، ولم تكن، أبداً، من باب «الكلمات المعنى»، هكذا، وبهذه البساطة الرَّائعة في عبقريَّتها، كانت السَّكون يفترس الدَّرَج الدَّاخلي للـ «الزَّينُّوريْن»، وكلُّ من على هذا الدَّرَج من ناس: أكانوا تلاميذاً مثلنا، أو كانوا من الأساتذة أو حتَّى لو كانوا من الزُّوَّار الطَّارئين. كنَّا ننسحب، كلٌّ إلى قاعة درسه، حيث كان النَّاظر، الأستاذ «مُحَمَّد المصري»، يستقبلنا في الطَّابق الأوَّل، والأستاذ «أحمد اللَّبَّان» يُشرفُ على دخولنا إلى قاعات الدَّرس في الطَّابق الثَّاني.
مع كلِّ هذه الهالة، من الحضور الحازم، التي كان تمتَّع بها المدير «الشَّيخ الغزال»؛ فإنَّ ثمَّة حضوراً آخر له، فاجأني وأذهلني. كان الأستاذ «عبد الحفيظ اللادقي»، رحمه الله، مدَّرِّس الدِّين لتلاميذ المدرسة، في مختلف صفوفهم. وكان رجلاً شديد الطِّيبة؛ لا زلتُ للَّحظة، أذكره، وقد اعتمر طربوشاً، قلَّما كان يفارق رأسه، وارتدىً بذلة بُنِيَّة اللَّون، بأناقة بسيطة لا تَكَلُّفَ فيها. كان الأستاذ «عبد الحفيظ»، يعتمد، في تدريسنا، كتاب «المُسْلِم الصَّغير»، من وضع الأستاذ «محمَّد طاهر اللاَّدقي». صدف مرَّةً، أنِّي غفلتُ عن تحضير الدَّرس المقرَّرِ علينا، والأنكى أنِّي نسيتُ إحضار الكتاب معي، إلى قاعة الدَّرس؛ وإذ بغضب الأستاذ «عبد الحفيظ» يَنْصَبُّ عليَّ، وما كان من الأستاذ إلاَّ أن أمرني بالوقوف، طيلة وقت الدَّرس، في زاوية القاعة، عقاباً لي. تأثَّرتُ كثيراً من عقاب الأستاذ؛ وإذ بي، استغلُّ «فرصة الظُّهر»، لا لأعود إلى منزلنا في «برج أبي حيدر»، بل لأتوجَّه إلى منزل جدَّتي القريب من المدرسة، شاكياً لها همِّي. ولم يكن، لحظتذاك، من جدَّتي، إلاَّ أن توجَّهت بي إلى مبنى المدرسة، طالبة مقابلة «المدير». وما أن أُذِن لنا بدخول مكتب المدير، حتَّى انفجرتُ، بالبكاء الشَّديد، رُعباً مِمَّا أعرفه من مهابة «الشَّيخ الغزال» وقوَّة شخصيَّته وحزمه، إذ كانت المرَّة الأولى التي اقتربُ فيها إلى هذا الحد من المدير «الشَّيخ مُحَمَّد»، والمرَّة الأولى التي يخاطبني فيها مباشرة. وكانت المفاجأة، أنَّ المدير «الشَّيخ محمَّد الغزال»، أقبل عليَّ ملاطِفاً، ومستفسراً عن ما حصل؛ وهنا كانت مفاجأة المفاجآت، حين قال لي «الشَّيخ محمَّد»، رحمه الله، «أعرف أنَّك من التَّلاميذ المجتهدين، وأنا سأتمنَّى على «الأستاذ عبد الحفيظ»، أن يسامحك هذه المرَّة، على أن لا تعود إلى مثلها أبداً».
ما بَرِحت تلك اللَّحظات، التي كان يكتفي فيها المدير «الشَّيخ مُحَمَّد الغَزال» بالوقوف مُتَمْتِمَاً بما هو أقرب إلى الصَّمتِ؛ يُعيد، بِصَمْتِهِ هذا، الهدوء، والسُّكون، وحُسن الانتظامِ، إلى ثلاثمائة ولدٍ، وعددٍ كبيرٍ من المعلِّمين؛ ماثلةٌ في بالي، ذكرى استطاعت أن تقوى على مرِّ الزَّمان. وما برح أسلوب «الشيخ مُحَمَّد»، المعتمِد على قوَّة الشَّخصيَّة، متمثِّلة بحضور لا يمكن إلغاؤه، يحوِّل هذه اللَّحظات إلى قيمة تربويَّة أساس؛ فالتَّربية، كما تعلَّمتها من مسلكيَّة «الشيخ مُحَمَّد الغَزال»، هي في قوَّةِ الحضور الشَّخصيِّ، وفي عمق الثِّقة بالنَّفس، وفي وعيّ قدرة الذَّات القائدةِ على حقيقة فعاليَّة وجودها.
ليست التَّربية في وهنٍ سقيمٍ، يقال عنه إنَّه لُطف؛ وليست التَّربية في تَشَدُّدٍ عقيمٍ، يوصفُ بأنَّه حرص، وليست التربية في كلام لا طائل منه ولا علم حقيقي وراءه، يسعى إلى تصوير نفسه على أنَّه تنظير. إنَّ التربية، وهكذا رأيتها، وتذكًّرتها، وما زلت أؤمن بها، من خلال تلك اللَّحظات الصَّامتة لـ «الشَّيخ الغَزال»: حضور ينطلق من وجود، هو فعلٌ تربويٌّ بحدِّ ذاته؛ ومن عِلْمٍ، هو معرفةٌ حقيقيَّةٌ للوجود. فالمُربِّي، قيمةٌ تنطلقُ من ذاتيَّةِ وجوده أوَّلاً، ثمَّ تنمو وتتعاظم عَبْرَ العِلم والتَّجربة.
28/1/2020
________
*رئيس المركز الثقافي الإسلامي