نتابع معكم القراءة في صفحات دراسة الباحث التركي “فرات كوسكو” تحت عنوان “مدينة بيروت من خلال عيون الرحالة المسلمين بين العامين 1890و 1914”. ونتوقف عند امر لفت انتباه معظم المسافرين الذين وصلوا الى بيروت وشغل بالهم أحيانا, وهو انشطة التعليم في المدينة, التي كانت في الغالب بيد الأجانب, فيما المدارس الإسلامية كانت متأخرة في العدد والجودة.
ومن ذلك ما كتبه شبلي نعماني :” على الرغم ان التطور العلمي في بيروت بدأ منذ وقت قصير, الا انه وصل الى مرحلة لا يمكن أن تكون مدينة أخرى في البلدان الإسلامية غير اسطنبول مساوية لبيروت. وفي بعض الجوانب, كانت بيروت تتقدم على إسطنبول”.
اما “بابان زاد إسماعيل حقي بك” الذي زار المنطقة نفسها بعد حوالي خمسة عشر عامًا من نعماني, فأكد على رقي مستوى التعليم في بيروت, مضيفاً :”بفضل المدارس التي افتتحها الأميركيون والفرنسيون هنا, يتحدث نصف سكان المدينة تقريبًا الفرنسية وبعضهم يتحدث اللغة الإنجليزية. وبفضل المدارس الأجنبية, فإن مستوى التعليم وصل إلى درجة عالية جدًا, لدرجة أنك لا تجد هذا المستوى من الثقافة العامة في إزمير في الأناضول, او حتى البلاد الرومية”.
يتابع نعماني: “الذوق الأدبي شائع جدًا بين الناس في بيروت, لدرجة أن الأطفال يحبون الشعر ومتحمسون له. وكثير من الناس لديهم كتب شعر. وهناك العشرات بل المئات أو حتى الآلاف ممن يستطيعون تأليف خمس او عشرة قصائد من الشعر”. وهذا ما أكده ايضاً “بابان زاد “, فقال:”المتعلمون هنا يعتبرون الجهل بالشعر والأدب امر يدعو الى الإزدراء”.
تضيء هذه الدراسة أيضا على وضع غير عادي و حالة تململ محلية من سيطرة الأجانب وافكارهم على التعليم, وما رافق ذلك من دعوات من عدة اطراف الى ضرورة التحرك لإنقاذ الآخرين من هذا “الخطر”. ومن التفاصيل المثيرة للاهتمام أن مدرسًا أرمنيًا في مدرسة ثانوية ببيروت يُدعى مهران بوياسيان, قدّم كتابا حول الخطر الذي تشكله المدارس المسيحية.
وأوردت الدراسة جدولا كشف ان عدد المدارس والطلاب غير المسلمين في المدينة مرتفع للغاية, حتى ان المسلمين غير موجودين في مراحل التعليم العالي.
لام “بابان زاد” التعليم الأجنبي على النحو التالي: “إذا أردنا إنقاذ جميع الطبقات الشعبية في بيروت من التعليم الديني المسيحي, فيجب أن نفتح مدارس تفوق جودة المدارس الأجنبية الموجودة حاليًا. وليس مقبولا ان نتوقف, فيما فرنسا نفسها تحاول جاهدة الإفلات من التعليم الكاثوليكي؟ “.
أما “نعماني” فأورد شيئا يصب في نفس المعنى فقال: “ما يحزننا هو أن هذه المدينة وهي مركز الإدارة الإسلامية (ولاية بيروت) وعلى الرغم من أن المسلمين هم من يحكمون هنا, فإن المسلمين هم في الخلفية مقارنة بالمسيحيين في الثقافة والحضارة”.
أقول, ان هذه النصوص الصريحة والتي لا يسرّ لها البعض, تُظهر وجها ايجابياً حاول الكثيرون طمسه و اخفاءه لاهداف سياسية, الا و هو تسامح الدولة العثمانية مع الطوائف غير الإسلامية, ومنحها لهم الحريات الكاملة في مجالات العلم و الثقافة و الفكر, و لو كان ذلك على حساب المسلمين وتقدمهم و تطورهم.
الصورة بشكلها الأكبر يقدمها لنا الرحالة الطبيب و عضو حزب الاتحاد والترقي “شرف الدين ماغومي” حول المدارس الإسلامية في بيروت:”التعليم العام متقدم للغاية وهناك مدرسة ثانوية مدنية, ومدرسة الرشدية الثانوية العسكرية, ومدرستان للطب افتتحهما الأمريكيون ومدارس القساوسة الفرنسيين ومدارس بروتستانتية وكاثوليكية, وثمانية عشرة مطبعة ومكتبة. والمحزن أنه في المدارس الابتدائية الإسلامية,لا يزال التعليم يتم بالطريقة القديمة “.
هذه الطريقة القديمة, يصفها لنا “يوسف أكشورا” هو كاتب وسياسي ومؤرخ ونائب ومفكر عثماني من التتار, وشغل منصب رئيس الجمعية التاريخية التركية, فيذكر في كتابه “رسائل سوريا وفلسطين” ملاحظات مفصّلة حول المدارس التي زارها شخصيًا في بيروت وتوضح الفروق الكبيرة بين المدارس الأجنبية و مدارس المسلمين, ويقول:”بعيداً عن الأكواخ المؤقتة المصنوعة من سعف النخيل, حيث يجلس الأطفال على الأرض ويصرخون وكأنهم في مدرسة, فلا يوجد مدرسة للعرب في بيروت غير الكلية العثمانية. وعندما نلقي نظرة على مخطط مدينة بيروت, فكل المباني الكبيرة هي مدارس أجنبية.
في بيروت, يوجد مدارس عديدة قام الفرنسيون والأمريكيون والبريطانيون والألمان واليونانيون والأرمن واليهود وحتى الأتراك ببنائها. مدارس بمستويات متوسطة ودنيا, و لكن الأقل تعليمًا هم العرب المسلمون!”.
________
*باحث في التاريخ/ جمعية تراثنا بيروت.