“طنبر الكاز” في بيروت كان مشهداً مألوفاً في شوارعها ومناطقها بكل تفرعاتها، بل كان جزءاً من نمط حياتها اليومية، تماماً كبائع الحليب والخبز والخضار المتنقلين…
وبقدر ما كانت ربّات البيوت تنتظر قدومه، كذلك كان الأولاد يترقبونه، ليس لشيء، سوى لمشاهدته، ولسماع البائع وهو يصرخ بصوته الجهوري مع تنغيمة: “حااا.. حااا..”، (التي تعني أن يكمل سيره)، مع لسعة من سوط يحمله بيده اليمنى ينهال به على ظهر الدابّة، فيصل لكل الآذان، فإذا ما إستوقفه زبون صرخ البائع: “هيييش” (وهي الكلمة المضادة ل “حااا”)، فتتوقف الدابّة، كي يملأ البائع وعاء الزبون، ثم يصرخ به مجدداً: “حاااا”، فتمتثل للأمر تنطلق بسيرها مجدداً، على وقع أصوات حوافرها التي تملأ الأرجاء.
وكان لكل منطقة “طنبرها”، وكأن ثمة إتفاق بين أصحاب “الطنابر” على خارطة سيرها، فلكل واحد منهم منطقة “نفوذه”،حتى أن كل واحد منهم كان يعرف كلّ أهالي وسكان منطقته عن ظهر قلب، ربما يتفوّق بذلك على مختارها (!)
“طنبر الكاز” هو عبارة عن عربة ذات دولابين أو أربعة دواليب، تجرها دابّة، إما “بغلاً” (وهو ذلك الحيوان الناتج عن تزاوج “تهجين” ذكر الحمار مع أنثى الحصان) أو “نغلاً” (وهو نتاج تزاوج “تهجين” أنثى الحمار مع ذكر الحصان)، حيث ينسدل على أطراف “السرج” حبلين ضخمين يتعلق بهما عامودان خشبيان يتصلان بالعربة، ويوضع عليها خزان كبير معبأ بمادة “الكاز”، مصنوع من الحديد بلونه الأخضر أو المائل للصفار، وعلى أسفل الجهة الخلفية من الخزان توجد حنفية (غالباً يوضع تحتها وعاء بلاستيكي لتجميع ما يتساقط منها من قطرات “الكاز”)، يستخدمها البائع لتعبئة اوعية الكيل الحديدية، قبل تفريغها في مجاميع الزبائن.
كانت مادة “الكاز” حينذاك تعتبر مادة أولوية للمنازل، وذلك قبل إختراع طباخ الغاز (البوتاغاز)، حيث أن ربّة المنزل كانت تستعملها كوقود في البيوت لإشعال “بابور الكاز”، الذي كان يستخدم لطهي الطعام، وتسخين الماء للحمام والغسيل.
وكان يسمى “بابور الكاز” ب “البريموس”، نسبة إلى إسم بلدة في السويد إشتهرت بأنها أول وأشهر من قام بصنع “بابور الكاز” في العالم.
وكان “الكاز” يستخدم في ذاك الوقت، إضافة إلى إشعال “البريموس” وقوداً لإنارة أسرجة المصابيح والقناديل وال “لوكسات”، للإنارة والإضاءة الليلية، التي كانت الوسائل المتاحة لذلك، قبل أن تعرف بيروت الكهرباء، رغم ما كان يخلفه دخانه من “شحبار”، ومن رائحة غالباً ما كانت تتسبب ب “عبقة” وموجات سعال عند الصغار والمسنين، قد تصل لحد الإختناق أحياناً. كذلك كان يستخدم “الكاز” لتنظيف المنازل، ولإزالة الصدأ عن “مفاصل” الأبواب، وكذلك لمكافحةالحشرات والنمل.
أما الإستخدام الأغرب له، فكان عندما كان يعتمد كعلاج لمعالجة فروة رؤوس الأطفال، عندما يغزوها “القمل”!!!لذلك، كان بائع “الكاز”، حاجة وضرورة للناس، فيطوف الشوارع والأزقة والحارات، دون تعب، إذ كان بمثابة محطة وقود متنقلة لتوفير مادة “الكاز” إلى الزبائن، على طريقة “الديليفري” في أيامنا، وهو ينادي: “كيز، كيز”..(بكسر الألف، تماشياً مع اللكنة البيروتية)، مستعيناً ببوق يضعه جنبه، لإعلام الناس بوصول العربة التي تبيع “الكاز”، مصحوباً بقرع الجرس المعلق على رقبته، فتلتم الزبائن حول “الطنبر” كل واحد يحمل وعاء مختلفاً بحسب حاجته أو قدرته…
وكان بائع “الكاز” يستأجر “الطنبر” من الإسطبلات القريبة من “أرض جلول” في منطقة “الطريق الجديدة”، وذلك لقاء بدل أسبوعي، لأن تكلفته عالية، فالدابة تحتاج لمربط، وعلف “تبن، شعير، ونخالة”، وماء للشرب، إضافة إلى الإهتمام والعناية والمبيت.
وكان مالكو “الطنابر” يتعاقدون مع متعهدين لإحضار مادة “الكاز” فجراً من “كاز خانات” الدورة، لتعبئة خزانات “الطنابر”، قبل إنطلاقها في رحلة سيرها المعتادة.
بات “طنبر” إذ وجد، ورنين جرسه، وصوت بائع “الكاز” وبوقه، مجرد تراث في شوارع بيروت، بعدما ولّى زمانه، مع دخول التكنولوجيا! ولكن يبقى السؤال في هذه الأيام الصعبة، وإزاء أزمة الوقود وغلائها الجنوني، هل نعود لمشاهدة “طنبر الكاز” في شوارع بيروت!؟
________
*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت