مقدمة (بقلم الدكتور سهيل منيمنة)
في مثل هذا اليوم 13 شباط (فبراير) سنة 1910، جرى أول بث إذاعي تجريبي من قاعة المتروبوليتان للأوبرا في برودواي بمدينة نيويورك الأمريكية من خلال عرض نقل شارك فيه عدد من أشهر مغني الأوبرا في ذلك الوقت.
أما في لبنان فقد ابتدأ البث الإذاعي في عهد الإستعمار الفرنسي ، وبعد الإستعانة بتكنولوجيا الغرب انطلقت “إذاعة الشرق ” عام 1938 التي تحوّلت بعد الإستقلال إلى “إذاعة لبنان” وكانت الإذاعة العربية الثانية بعد الإذاعة المصريّة. وكان الدكتور فيليب حتي كتب في مجلة الهلال سنة 1925 مقالاً وصف فيه الراديو بأنه “جهاز صغير بحجم الصندوق، في مقدمته بضعة مفاتيح بسيطة تعالجها، فتنقل إلى مسامعك عن طريق تموجات الأثير ومن مسافة مئات أو آلاف الأمتار، نغمات خاصة وألحاناً شجية وخطباً ومواعظ”.
هذه الآلة السحرية لم تدخل بيروت إلا سنة 1928. فتحت عنوان “غنت في أوروبا فأطربت في بيروت” كتبت “لسان الحال” في 23 أيار سنة 1928 تخبرنا أن شركة نجار اخوان، صاحبة المحلات التجارية في بيروت، استحضرت آلة راديو ركزتها في بيت أحد أعضاء الشركة السيد سعيد نجار في محلة رأس بيروت قرب الجامعة الأميركية. وأنها دعت إلى الاحتفال بتدشين دخول الراديو إلى بيروت نخبة من أفاضل البلد ورجال الصحافة، لسماع الحفلات الغنائية والخطابية التي أقيمت قبل ذلك بأسبوع في مسارح موسكو ومدريد ولندن وباريس وبرلين والآستانة، وشنفت آلة الراديو آذان المدعوين ساعتين انصرفوا بعدها شاكرين معجبين.
ومن الطريف أن اقتناء أجهزة الراديو قديما كان يخضع لتصريح ولدفع رسم سنوي.
***
كتب الأستاذ نبيل شحاده:
في عام 1938 انشأ الاحتلال الفرنسي في عهد المفوض غابريال بواو ( Gabriel Puaux ) , خدمة معلومات لمكافحة ما اسماه الدعاية الاجنبية المعادية لفرنسا وخاصة من الإذاعة النازية في برلين , وأيضا , محاولة التقرب من السكان المحليين في لبنان وسوريا والشرق عموما, وكلفت السلطات الفرنسية شركة “راديو اوريان” بتأسيس و إدارة اذاعة “راديو الشرق” كأذاعة رسمية للبنان و سوريا , وكانت تفتتح برامجها بنشيد المارسلياز الفرنسي.
كانت الاذاعة تبث من مبنى السراي الكبير في بيروت , يوميا لمدة اربع ساعات , ساعتان في الظهر و ساعتان في المساء,على الموجة المتوسطة ( AM ) , وبقوة نصف كيلو وات, وقيل ان عامود الارسال كان ينتصب على برج الساعة تحديدا, أما جهاز البث الرئيس فكان في منطقة خلدة , وغطى ارسالها معظم دول الشرق الأوسط, وفي اواخر عام 1940 بدأت البث ايضا على الموجة القصيرة ( SW ) بعد تركيب أعمدة ارسال في منطقة خلدة بهدف ايصال صوتها الى بلاد بعيدة.
في عام 1941 , دمرت قوات فيشي اجهزة الارسال اثناء دخول قوات الحلفاء الى لبنان, وبعد استتباب الوضع, استقدمت جهاز ارسال من فلسطين بقوة عدة كيلوات و عاودت البث المعتاد.
في عام 1946 , أي بعد ثلاث سنوات من نيل لبنان استقلاله , سلمت فرنسا الاذاعة الى الحكومة اللبنانية بعد فرضها اتفاقا لاستخدام بث الاذاعة لمدة 145 دقيقة يوميا , ومنحت ايضا بريطانيا والولايات المتحدة أوقاتا أيضا تراوحت بين نصف ساعة و ساعة كاملة لكل منهما, و كلفت الحكومة اللبنانية مديرية الاعلام و النشر في وزارة الداخلية إدارة الإذاعة والبث باللغة العربية.
توقف بث البرنامجين البريطاني والأميركي في عام 1960 بقرار من الحكومة اللبنانية , بعد بث برنامج مؤيد للحركة الصهيونية , وأخضعت بعد ذلك كل البرامج الأجنبية لاشراف الدولة اللبنانية.
وفي كانون الثاني 1958 وفي عهد الرئيس كميل شمعون , وُضِع حجر الاساس لدار الإذاعة اللبنانية الكبرى في الصنائع , وانتهت أعمال البناء و تركيب الاجهزة الجديدة و في عام 1962 , ليصل صوت الاذاعة اللبنانية الى كل دول الشرق الأوسط وأوروبا و افريقيا و الأمريكيتين وباللغات العربية والفرنسية والارمنية والاسبانية.
نذكر هنا , انه خلال الاحداث التي حصلت في عام 1958 , انطلقت اذاعتان خاصتان تؤيدان أطرافا سياسية , و هذه الإذاعات كانت , صوت العروبة لحزب النجادة , وصوت لبنان لحزب الكتائب, وكانت هذه الإذاعاتين تعملان بطريقة بدائية و عشوائية وانحصرت ببث الأناشيد الوطنية وبث الأخبار عن اخر التطورات الجارية والمتلاحقة على المستويين السياسي والأمني.
عملت هذه الإذاعات لمدة تسعة شهور , و أقفلت بعدها نتيجة التسوية السياسية التي حصلت في البلاد.
في عام 1965 , بدأت الاذاعة اللبنانية بث منوعات موسيقية فقط على الموجة القصيرة جدا ( FM ) بجهاز قدمته شركة ارامكو (السعودية الأميركية) و تطور بعد ذلك في عام 1973 للبث بطريقة ستيريو.
في عام 1972 , تغير اسم الاذاعة اللبنانية الى “اذاعة لبنان”.
وعرفت الإذاعة اللبنانية بعد ذلك عصرًا ذهبيًا بكل المعايير، وتخطى نجاحها وصوتها حدود الوطن، ليشّع في العالم العربي, وشكّل العاملون فيها من ادباء و فنانين وموسيقيين ومذيعين وتقنيين مدرسة راقية في الاعلام والثقافة والفنون والالقاء والاداء.
وكانت هذه الاذاعة منبرا أدبيا و ثقافيا لمجموعة من ألادباء والشعراء اللبنانيين و العرب واشتهرت ايضا بالبرامج الدرامية و لمعت اسماء أبطالها ومخرجيها وكتابها..
وكان من مذيعيها , شفيق جدايل عميد المذيعين العرب وناهدة فضلي الدجاني، ورياض شرارة و عرفات حجازي وحكمت وهبي وسعاد قاروط العشي وايضا إدفيك شيبوب وبرنامجها البث المباشر الذي جذب الجمهور وأحدث ضجة في أسلوب تقديمه الحديث..
وكانت هذه الإذاعة مختبراً صوتياً، إذ لم يكن يحق لأي صوت جديد او مطرب, الغناء أو الحصول على رخصة فنان إلا إذا نجح في اختبار لجنة تحكيم صارمة تألفت من زكي ناصيف وتوفيق الباشا وحليم الرومي ومحي الدين سلام ووليد غلمية والاخوين الرحباني وغيرهم.
وقد وصلني من موقع أوروبي متخصص في تأريخ الإذاعات وخاصة الفرنسية, كنت قد طلبت منه بعض المعلومات عن إذاعة الشرق الأدنى. وصلني بريد الكتروني من نفس الموقع , يؤكد لي ان البث كان فعلا من السراي الكبير في بيروت , لكنه , اتحفني بمعلومات قيّمة عن إذاعة تجريبية عملت في بيروت قبل ثمانية أعوام لبدء البث الرسمي في إذاعة الشرق الأدنى.
يقول مدير الموقع “فرديريك فايّان” , انه في عام 1930 كان هناك محطة تجريبية صغيرة , يمكن اعتبارها أول محطة إذاعية في لبنان , بدأت البث في الأول من أيار \ مايو من عام 1930 ، وبقوة حوالي عشرة واط.
ويتابع , كانت هذه إذاعة مدرسة الفنون والمهن ، التي كانت تقع في حي الرمول (هكذا اسماها) ويردف اسمها الآن الصنايع . (الصورة البارزة للمقالة أعلاه).
أعلنت هذه الإذاعة عن نفسها باسم “محطة الاذاعة الكهربائية للمدرسة اللبنانية للفنون والمهن في بيروت” و كانت تبث على موجة 428 مترًا أو 700 كيلوهرتز ( أي كانت تبث على الموجة المتوسطة ).
كانت معدات هذه الإذاعة محلية الصنع ، وكانت برامجها تُبث في السادسة مساءً من تسجيلات باللغتين العربية والفرنسية. وارتفعت قوة البث بعد حوالي ثمانية شهور الى واحد كيلوواط.
________
*باحث في التاريخ/ جمعية تراثنا بيروت