كان “يتمخطر ويتغندر” في ساحات بيروت، يصول ويجول في شوارعها، يربط مناطقها بعضاً ببعض، يمضي بثقة ما بعدها ثقة، متسيداً الطرقات بلا منازع، وكأنه ملك متربع على ما عداه من وسائل النقل… إنه “الأوتوبيس” (حافلات النقل العام)، الذي ظلمه الناس، عندما أطلقت عليه منذ بدء تشغيله لقب “جحش الدولة”، رغم خدمات التوصيل التي كان يقدمها لهم، وبأسعار مخفضة، حيث أن تعرفة التوصيلة كانت تتراوح ما بين١٥ و٢٥ قرشاً، فضلاً عن الإشتراكات الشهرية المدعومة للطلاب والموظفين!
فكيفما نظرت، وفي أي مكان وجدت، يتراءى أمامك “الأوتوبيس” منتصب القامة، بعيداً كان أو قريباً، بلونيه “البيج” والأحمر، وبحجمه الضخم، حيث كان طوله عشرة أمتار، وعرضه متران، وإرتفعه أقل من ثلاثة أمتار بقليل. كانت الناس تنتظر طلته المهيبة عند المحطات المخصصة لتوقّفه، وهي عبارة عن خيمة أو مظلة حديدية، لحمايتهم من الشمس صيفاً ومن المطر شتاءً، وتحتها مقعد للمنتظرين قدومه.
ما أن يصل المحطة، حتى يفتح السائق بابين بشكل آلي بواسطة “أزرار” تحكم كهربائية، واحد لنزول الركاب وآخر لصعودهم. فيتهافت ويتسابق الركاب المنتظرون بالدخول إليه، طمعاً بإيجاد مقعد للجلوس. أما الركاب الذين ينزلون منه من الباب المخصص لهم، فهم أكثر هدؤاً وإنتظاماً من الصاعدين، كونهم وصلوا إلى مكان وجهتهم. عند دخولك الحافلة، تجد غريفة أشبه ب”كابين” صغيرة من الزجاج، يجلس خلفها قاطع التذاكر للركاب، تدفع له الأجرة، فيقتطع لك تذكرة تحتفظ بها، لإظهارها في حال جال”المفتش” على الركاب، للتأكد من الدفع، ثم تبحث عن مكان للجلوس على المقاعد الجلدية، في حال لم يكن مزدحماً، وإلا ستضطر للبقاء واقفاً، ممسكاً بمسكة جلدية مسدلة من عامود حديدي أفقي أشبه بجسر يمتد من أول “الباص” لآخره، وعليك أن تبقى مثبتاً بتحكم، خصوصاً عندما يستخدم السائق المكابح، خوفاً من الإنزلاق، (كان يتسع ل 42 راكباً جالساً و23 راكباً واقفاً).
ولأن “الأوتوبيس” كان يعمل في زمن كانت “الدنيا بألف خير، وكانت الأخلاق والفضيلة سائدة بين الناس، فإن ثمة عرفاً كان معمولاً به، أنه في حال صعد إليه رجل أو إمرأة كبيرين في السن، ولم يكن يوجد مقاعد شاغرة، على الفور يتسابق الجالسون على إعطاء مقاعدهم لهم، إحتراماً لسنهم الذي يجعلهم غير قادرين البقاء واقفين طيلة الرحلة…
يذكر أن كثيراً من الناس كانوا يستخدمون “الأوتوبيس” بهدف الترفيه وتمضية الوقت، إذ كانوا يركبونه (خصوصاً الخط البحري)، دون أن تكون لديهم وجهة معية، سوى التنزه ومشاهدة بيروت الجمال والرقي من خلف زجاج نوافذه…
وفي سياق الحديث عن “الأوتوبيس”، لا بد من أن نروي قصته، التي تتمثل أنه وفي محاولة لتحسين قطاع النقل العام والحد من زحمة السير في المدينة، أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً، في ايار عام 1964 بوقف العمل كلياً “بالترامواي” ورفع عرباته عن السكك الحديدية في الشوارع بذريعة أن معداته وعرباته وخطوطه أصبحت قديمة وعاجزة عن خدمة المواطنين ولا تواكب التطور الذي تعيشه بيروت، وطلبت 150 حافلة Saviem-Chausson جديدة حلت مكان “الترامواي”. ومنذ ذلك الحين، تمت عملية التسلم والتسليم بين “الترام” و “الأوتوبيس” الذي أطلق عليه “جحش الدولة”.
أما عن أسباب تسمية “الأوتوبيس” ب “جحش الدولة”، ما زالت حتى يومنا هذا مبهمة وملتبسة، وتتضارب حولها الروايات، التي لا يمكّن إحداها على أخرى! مع الإشارة أن هذا اللقب، لا يمت يصلة لمعنى ومدلول تعبير “جحش الدولة” في عدد من البلدان العربية، الذي يطلقه الموظفون على يوم الخميس، وهو اليوم الذي يسبق العطلة الرسمية لديهم.
الرواية الأولى لا تخلو من الطرافة والبساطة، … فكما هو معروف، وقبل عربات الخيل و”الترامواي”، كان محظياً من يملك من الناس “جحشاً”، حيث كان دالاً على حسن حاله، إذا كان يُستخدم للتنقل، وللبيع، ولنقل كل الأحمال، لذلك سمت عامة الناس حافلات “الأوتوبيس” بهذه التسمية، لأن “الجحش” كان وسيلة التنقل في الزمن الغابر!
بدورها تعتبر الرواية الثانية، أن قصّة “جحش الدولة”، بدأت عندما لم يتمكّن “البيارتة” من إيجاد ترجمة لبنانية حرفية لكلمة “أتوبوس” الفرنسية أو “باص” الإنكليزية، فأطلقوا تسمية “جحش الدولة” على الحافلات التي بدأت تقلّ الناس في العاصمة بيروت وضواحيها!
أما الرواية الثالثة، فترى أن “الأوتوبيس” أطلق عليه لقب “جحش الدولة”، لكثرة ما يتحمل من أثقال، على غرار “الجحش” الحقيقي!
قد تكون أسباب التسمية في محلها وقد لا تكون، وربما تكون من مخيلات العامة، سواء كانت جدية أو على سبيل الطرافة، ولكن “جحش الدولة” بقي ينغل في شوارع العاصمة المليئة بالحياة، يربط شرقها بغربها، وينقل أهلها وزوّارها، ويعرّف الغرباء على أحيائها وشوارعها وساحاتها وأسواقها حتى العام 1975، فتغيرت وظيفته من قبل الأطراف المتحاربة، التي حولته إلى متاريس ودشم، فإذا به يستلقي مرغماً “بالعرض” على جنبه في شوارع بيروت، ليقطع أوصالها ومواصلاتها ويفرّق أهلها، بعدما كان صلة التواصل والتوصيل بينهم!
________
*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت.