خلال الستينيات من القرن الماضي، تنافست الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في مجال السيادة على الفضاء، لكن كان هناك منافس آخر عربي في هذا السباق، هو لبنان المتمثل ب “جمعية الصواريخ اللبنانية”، وهو نادي علمي بجامعة “هايكازيان” في بيروت.
فقد انطلقت مغامرة «النادي اللبناني للصواريخ» في بدايات الستينيات من القرن الماضي، في جامعة هايكازيان ببيروت. حيث نجحت مجموعة من الطلاب تحت إشراف أستاذ الرياضيات في الجامعة مانوغ مانوغيان، في إطلاق صاروخ إلى الفضاء هو الأول من نوعه في المنطقة.
بين عامي 1960 و 1967، نجحت هذه المجموعة في تصميم وإنتاج وإطلاق أكثر من عشرة صواريخ فضائية، وحملت كلها اسم «صاروخ أرز». واستطاعت بعض هذه الصواريخ قطع مسافة 600 كلم في الفضاء. إذاً، بجهودٍ متواضعة، مقرونة بأملٍ وتصميمٍ نجح فريق لبناني صغير على رأسه البروفيسير اللبناني مانوغ مانوغيان في “اختراق” سمت الغلاف الفضائي!
في تلك الفترة، كان العالم مُنشغلاً بالسباق المحموم لاستكشاف الفضاء بين العملاقين الدوليين الإتحاد السوفياتي (آنذاك) والولايات المتحدة، فبعدما أرسل السوفيات الكلبة “لايكا” عام 1957 إلى الفضاء الخارجي، استطاع رائد الفضاء السوفييتي الشهير يوري غاغارين السباحة في الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض عام 1962، هذا ما جعل الأميركيين يعلنون سنة 1969 أن رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ تمكّن من وطء سطح القمر!
الصواريخ بلغت ٤٠٠ كلم
إن “نجاح التجارب المُتعدّدة بين 1960 و1967 والوصول إلى مدارات ارتفاعها 400 كلم كانت تبشّر بمستقبلٍ علمي باهرٍ حيث تعتبر هذه المدارات المجال الفضائي لوضع الأقمار الصناعية لمُراقبة الأرض”.أن “الـ 400 كلم كان إنجازاً كبيراً”، إذ إنّ ما يُميّز البرنامج اللبناني هو أنه كان برنامجاً علمياً وفضائياً غير سرّي بعكس بعض البرامج الصاروخية البالستية لبعض الدول العربية مثل مصر والجزائر وغيرها ذات الأهداف العسكرية” في تلك الحقبة.
التجارب الأولى بإشراف الجيش
أوكلت الحكومة اللبنانية النقيب يوسف وهبي للإشراف على أنشطتها بعد إطلاقها عدّة صواريخ بلغ طولها 3 أقدام (91 سنتيمتراً تقريباً) باتجاه الجبال اللبنانية، فخُصّصّ لها موقعاً آمناً ومطلاً على البحر الأبيض المتوسّط.كان مندوب الجيش اللبناني يرى أن إطلاق هذه الصواريخ بهذه الطريقة فيه هَدْر للوقت والمال، وبالتالي كانت وجهة نظره أنه يجب تسليحها، أمّا وجهة نظر مانوغيان فكانت علمية بحتة، فقد كان يرى أن تحميلها قمراً اصطناعياً إلى المدار أجدى، فكانت هذه أحد الأسباب لمُغادرته المشروع.
الرئيس شهاب يتبنى المشروع
هذه الخطوة حازت على اهتمام رئيس الجمهورية آنذاك فؤاد شهاب، فخصَّص دعماً مالياً للجمعية في تلك الفترة، وأعيدت تسمية “HCRS” فبات يُعرَف بـ”صاروخ الجمعية اللبنانية للصواريخ”، وأُطلِق صاروخان من طراز “أرز”، وصُمِّم صاروخ “أرز 3” ذو الـ3 مراحل الذي بلغ طوله 22 قدماً (6.7 أمتار) الذي أُطلِق في 21 تشرين الثاني/ نوفمبر العام 1963 احتفالاً بعيد الاستقلال.
وبعد سنة، أُطلق صاروخ “أرز 4” ذو الـ 3 مراحل احتفالاً بعيد الاستقلال في العام 1963 ومن ثم وُضِعَت صورته على الطوابع البريدية.
صاروخ كاد يصيب بارجة بريطانية
كاد إطلاق صاروخ باتجاه البحر الأبيض المتوسط يتسبب بأزمة، وأوقع ما يشبه أزمة ديبلوماسية عالمية! وذلك عندما حدث خطأ في توجيهه فسقط في المياه الإقليمية القبرصية بالقرب من بارجة حربية بريطانية (يقال إنها كانت تراقب ما يجري)، حيث أعرب سفير لندن في بيروت آنذاك عن قلقه من هذه التجارب، كما طالبت الحكومة القبرصية بجلسة استماع في الأمم المتحدة!
ضغوط إسرائيلية وغربية أوقفت المشروع
في أوائل الستينيات أنشأ العدو الإسرائيلي اللجنة الوطنية للفضاء، التي أعدَّت برنامجها الفضائي والذي يتضمَّن بالطبع برنامجاً صاروخياً ، حيث قامت بالعديد من التجارب أولها عام 1961 (Shavit 2)، حيث كان دافيد بن غوريون (أول رئيس وزراء إسرائيلي) خائفاً من النجاح الروسي في إطلاق أول قمر صناعي “سبوتنيك” عام 1957 ومن التقارُب الروسي المصري خلال عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وبالطبع كانت “إسرائيل” تنظر بخوف من جميع البرامج العربية حولها كالبرنامج اللبناني والمصري”.
وفي هذا السياق، كشف موقع “المونيتور” الأميركي عن تقرير سري يتحدث عن البرنامج الصاروخي اللبناني الذي جذب اهتمام الدول الكبرى التي كانت في تحد لإطلاق أولى بعثاتها إلى الفضاء الخارجي.هذا الأمر لفت انتباه المخابرات السوفياتية والأمريكية يقول مانوغيان، حيث باتت الملحقيات الثقافية للبلدين بمتابعة أمر الجمعية ونشاطاتها وطالبوا مقابلة الخبير اللبناني.
كما لم يستبعد الموقع مراقبة إسرائيل للأنشطة الصاروخية اللبنانية، وكشف أيضاً أن مانوغيان رفض عرضا سوفييتيا وآخر كويتيا، مفضلاً إبقاء مشروعه ذي طابع علمي بحت.
وبعد رفض هذه العروض، لفت الموقع إلى أن مانوغيان قرر الانتقال إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراساته حيث حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة تكساس…
وهكذا دفن المشروع الصاروخي اللبناني، الذي كاد أن يكون أول صاروخ عربي يصل إلى الفضاء الخارجي، ولو قدر للبنان في حينه الإستمرار بهذا المشروع المتقدم والسباق، لكان لبنان دخل ستينات القرن الماضي نوادي الدول المنافسة لآقتحام الفضاء الخارجي…
________
*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت.