أليزابيث بوين طومبسون (1812-1869)

سهيل منيمنة*

هَذِهِ كَانَتْ مُمْتَلِئَةً أَعْمَالاً صَالِحَةً وَإِحْسَانَاتٍ كَانَتْ تَعْمَلُهَا (الكتاب المقدس؛ أعمال 36:9)

ولدت أليزابيث بوين طومبسون Elizabeth Bowen Thompson في إنكلترا سنة 1812 (ويقال 1813) لمبشر ومترجم إلى بلاد الشام يدعى هانيبال إيفانز لويد Hannibal Evans Lloyd وزوجته الألمانية لوسي فون شوارزكوف Lucy von Schwartzkopff. كان شعار العائلة “تجرّأ وحافظ” Dare and Preserve وهو الشعار نفسه الذي تبنته في بيروت كشعار لمدارسها.

كانت قريبة إلى التدين منذ نعومة أظفارها، فالتحقت بالعديد من المؤسسات الدينية، تعرفت في إحداها ((the Syro-Egyptian committee على مدير المستشفى الإنكليزي السوري في دمشق المبشر جيمس بوين طومبسون  James Bowen Thompson وتزوجا في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1850. انتقل الزوجان بعد ذلك إلى إسطنبول لرعاية مشروع الزوج المتعلق بافتتاح خط قطار يربط المدينة بالهند عبر وادي الفرات.

في مطلع العام 1853 انتقل الزوجان إلى بلدة السويدية السورية قرب أنطاكيا (تسمى اليوم سامانداغ) حيث كان للدكتور طومبسون أملاك هناك واستقرّا بها حوالي سنتان ونصف. تعودت في تلك الفترة على العادات والتقاليد الشرقية فافتتحت مدرسة داخل منزلها للنساء والأطفال لتعليم الإنجيل ودروس أولّية في القراءة والكتابة. وقد كتبت في رسائلها أن النسوة هناك كنّ يأتين إليها ليتعلمن الخياطة والتطريز وكان هي أيضاً تقوم بزيارات إلى بيوتهن للغرض نفسه. ولكن مع اندلاع حرب القرم في الخامس من شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1853، وجد الزوج أن من واجبه تقديم العون لكتائب جنود بلاده فارتحل مع زوجته إلى بلدة بالاكلافا Balaclava في شبه جزيرة القرم حيث أصيب بحمى خبيثة فور وصوله إليها نقل بعدها إلى إسطنبول حيث فارق الحياة في مستشفى كولولي في 5 آب/ أغسطس 1855، انتقلت بعدها اليزابيث إلى لندن حيث عاشت مع أختها أوغستا Augusta.

خلال إقامتها في لندن قامت السيدة طومبسون بمشاركة عائلتها بالقيام بمشاريع خيرية كثيرة، لفتت انتباه الملكة فيكتوريا نفسها خاصة لنشاطها المتفاني في صندوق الإغاثة السورية المؤقت Syrian Temporal Relief Fund، مما استدعى سفرها إلى بيروت يوم 27 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1860 خاصة بعد ورود أنباء عن مذابح طائفية تجري في جبل لبنان ودمشق، واتخذت سكناً لها في منزل يدعى “بيت أيوب بك” على أن تبقى في المدينة ستة أشهر، ولكن تعرضها لحمى روماتيزم شديدة منعتها عن العمل لغاية شهر كانون الأول/ ديسمبر من تلك السنة حين باشرت العمل مع ثلاثين أرملة (نتيجة أحداث حاصبيا) وكذلك مع 16 طفلاً من الأيتام. ويبدو أن وصولها إلى بيروت لم يكن مرحباً به في بادىء الأمر إلى أن تعرف على مدرّس لغة عربية دمشقي يدعى سليم كساب لم تأت أكثر المصادر على ذكره لكنها كتبت في رسالة لها “لولا دعمه وعلمه لما أُنجز الكثير”.

منظر عام لبيروت سنة 1860 التقطها المصوّر البريطاني بيتر برغهايم Peter E. Bergheim

لم يتوانى أصدقاء أليزابيث في أنكلترا عن مساعدتها مادياً من خلال جمعية أسسوها تحت إسم “جمعية النهوض الاجتماعي والديني للمرأة السورية” Society  for the Social and Religious Improvement of Syrian Females. هذه الجمعية تطورت في بيروت لتصبح “جمعية السيدات للتحسين الاجتماعي والديني للأنثى السورية” Ladies’ Association for the Social and Religious Improvement of the Syrian Females.

في العام 1876 تغير إسم الجمعية المذكورة إلى “المدارس البريطانية السورية وإرسالية الكتاب المقدس للتحسين الاجتماعي والديني للأنثى السورية” British Syrian Schools and Bible Mission for the Social and Religious Improvement of the Syrian Females، وتغير أيضاً عام 1882 إلى British Syrian Schools  and Bible Mission ليستقر الإسم أخيراً على “الإرسالية البريطانية السورية” British Syrian Mission.

طالبات داخل المدرسة البريطانية السورية في بيروت

يذكر أن علاقة السيدة طومبسون بالجهات الرسمية في لبنان توصدت بعد زيارة أمير ويلز إلى بيروت سنة 1862، وكان منهم داود باشا الذي رافها يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر 1867 إلى بلدة عين زحلتا في قضاء الشوف بجبل لبنان لافتتاح مدرسة Palm Branch School فيها.

وبعد أن أسست العديد من المدارس وورش العمل للنساء والبنات في بيروت، قامت بإنشاء مدرسة في حاصبيا في شهر أيلول/ سبتمبر 1863 تلقت بعدها طلبات كثيرة للقيام بخطوات مماثلة في زحلة ودير القمر ودمشق وأماكن متعددة أخرى.

يذكر أن العاصمة شهدت إنشاء العديد من المدارس الأهلية النصرانية مثل مدرسة أسعد يعقوب الخياط في منزله سنة 1840 ضمت سبع بنات، ولكن لم تستمر سوى فترة وجيزة، ومدرسة “مار يوسف الضهور” سنة 1847 وكانت مخصصة للبنات في أول عهدها، ومدرسة “راهبات المحبة” للبنات سنة 1856، ثم المدرسة الوطنية (مدرسة المعلم بطرس البستاني) سنة 1863 التي لا تزال قائمة إلى اليوم في منطقة زقاق البلاط ولكن مهملة وفي حالة يرثى لها، رغم أن البناء مصنف كمبنى تراثي منذ أكثر من ثلاثين عاماً!  أما المدرسة الإنجيلية البريطانية  في محلة زقاق البلاط فكانت من أهم المراكز التربوية.

المدارس البريطانية السورية في بيروت سنة 1875. الصور: مبنى المدرسة الابتدائية والروضة، مدرسة العمي، مدرسة الصبيان ومدرسة البنات. المصدر: The Illustrated London News, July 3, 1875
المدرسة البريطانية السورية في بيروت سنة 1924 التي تغير اسمها إلى الكلية البريطانية اللبنانية للتدريب British Lebanese Training College ثم مدرسة الحريري الثانية.

كان هدف هذه السيدة الأساسي بناء مؤسسات لا تتأثر بأية مؤسسة حكومية رغم معارضة شديدة لها من قبل رعية الروم الكاثوليك مما تسبب في إقفال المدرسة التي أنشأتها في دير القمر. ولكن بعد هذه المعاناة انتصرت في التحدي بعد صدور فرمان عثماني سنة 1868 يعطيها كامل السلطة، مع الحماية والدعم، لفتح مدارس في زحلة ودير القمر. وكان ذلك نتيجة جهود أمير ويلز خلال لقاءه بالسلطان عند زيارة الأخير إلى لندن قبل ذلك بعام. وفي نفس تلك السنة 1868 تم افتتاح مدرسة للعميان في بيروت. وكانت تكتب في رسائلها أنها تجد ما تقوم به أقرب للعمل الاجتماعي منه للعمل التبشيري، ويمكن ملاحظة أنها كانت، من خلال هذه الرسائل، أقرب إلى فهم المجتمع الشرقي وعاداته وتقاليده من بعض المبعوثين التبشيرين في تلك الفترة من أمثال الأمريكي جيمس هنري جيسوب (1832-1910) الذي شن حملة عشواء من الحقد والكراهية على الديانة الإسلامية لا تزال تؤثر في كثير من العقول حتى يومنا هذا. ووما لا شك فيه أن سلوك السيدة طومبسون وهمتها العالية كانت حافزاً لتحرر مسلمي بيروت من القيود السياسية والاجتماعية التي كبّلتهم فترة طويلة من الزمن، فقام الشيخان محمد الحوت وعبد الله خالد بافتتاح أول مدرسة نظامية في غرف جامع الأمير منذر في وسط بيروت (جامع النوفرة) سنة 1860 ومن بعدها مدارس جمعية المقاصد الخرية الإسلامية، فكانت انطلاقة النهضة التعليمية للفتاة البيروتية.

تلقت السيدة طومبسون الدعم المالي من أمير ويلز والسيدة فرانسيس إيجرتون Lady Francis Egerton التي كان لها الفضل بتأسيس مدرسة ايلمسير Ellsmere School في دير القمر. ولم تغب النخوة اللبنانية في دعم مسيرة هذه السيدة التربوية فقام السيد تابت بتقديم منزله في بيروت لإنشاء مدرسة، وقام شخص آخر من زحلة بالشيء نفسه. ومع أن توجّهها كان العمل مع سيدات فقدن أزواجهن في الأحداث الطائفية، إلا أنها لم تمانع في تعليم أولاد الأمراء الدروز والوجهاء المسلمين حيث تلقت دعماً كبيراً من الست نايفة جنبلاط في المراحل الأولى لإقامتها في حاصبيا.

الطريق إلى حاصبيا. لوحة لـ Charles William Meredith van de Velde سنة 1857 (Swedish National Library)

لم تترك السيدة طومبسون مؤلفات لها سوى نسخة مبسطة لكتاب “تناغم الأناجيل الأربعة” للأب إدوارد جريزويل Edward Greswell كانت مناسِبة لمواد التعليم في المدارس، وقام الأستاذ سليم البستاني بترجمتها لاحقاً للعربية.

بعد رحلة قاسية من زحلة إلى دمشق خلال الثلوج، أصابها المرض. فتوجهت إلى إسطنبول ومنها إلى أنكلترا حيث توفيت في منزل أختها سوزيت في 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 1869 ودفنت إلى جانب أبيها وأمها في مقبرة منعزلة في Modern College، وأتمت شقيقاتها عمل الإرسالية من بعدها.

ويقال أن أختها Mrs. Mott كانت أول من سكن أحد قصور منطقة زقاق البلاط وهو القصر الذي اشتراه فيما بعد الدكتور إيبوليت دي برون Dr. Hippolyte De Brun أستاذ الصيدلة في جامعة القديس يوسف، والذي آلت ملكيته إلى إرسالية اللاييك الفرنسية French Laic Mission سنة 1929 ليكون مدرسة للبنات تحت إسم مدرسة كلية عبد القادر High School Abdel Kader والتي اصبحت مختلطة سنة 1974. وفي التسعينات صارت المدرسة ملكاً لمؤسسة الحريري لغاية سنة 2019.

بعد وفاة هذه السيدة المتفانية، تم نشر كتاباتها وجمعها سنة 1872 في كتاب حمل عنوان “أخوات سوريا”

The Daughters of Syris صدرت منه عدة طبعات كان آخرها نسخة HardPress في 2018.

________

المراجع:

Nadim Shehadi: Thompson, Elizabeth Maria Bowen (1812/13-1869), Oxford University Press, 2004.

Jean Said Makdisi: Elizabeth Bowen Thompson and the Teacher Training College. Archeology & History in Lebanon. Issue22: Autumn 2005. Pp. 84-89

The Daughters of Syria: A Narrative of Efforts by the Late Mrs. Bowen Thompson, for the Evangelization of the Syrian Females. Seeley, Jackson, & Halliday, 1872

Deanna Ferree Womack: Protestants, Gender and the Arab Renaissance in Late Ottoman Syria (Alternative Histories). 1st edition. Edinburgh University Press, 2020.

Henry Harris Jessup, Fifty-Three Years in Syria; Volume 1, Franklin Classics, 2018.

***

*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website