نتناول في هذه الحلقة مواضيع الحياة الاجتماعية وحياة الناس, كما قرأناها في صفحات دراسة الباحث التركي “فرات كوسكو” تحت عنوان “مدينة بيروت من خلال عيون الرحالة المسلمين (1890-1914)”.
يشير الباحث الى ان كتب السفر والرسائل واليوميّات والذكريات والمذكّرات, هي أعمال فريدة ومصادر مباشرة تتضمن معلومات مهمة حول الحياة الاجتماعية للمنطقة. و لكن, يجب التعامل معها بحذر. لأن ما هو مكتوب فيها يستند على الخبرة الشخصية, و هي أحكام ذاتية تتأثر بالعوامل العاطفية والسياسية و الثقافية والشخصية, وإذا حُققت بشكل صحيح, فستكون قيّمة لفهم هذه المراحل الزمنيّة بشكل كبير.
هكذا يمكن استنتاج وادراك بعض مكنونات شخصية أهل بيروت, التي كتب عنها “بابان زاد إسماعيل حقي بك” في كتابه : ” ما يُذهل, انه لا يمكن انكار الاجتهاد الرائع الظاهر بوضوح لأهل بيروت, والذكاء المُذهل في توجيه هذا الاجتهاد. ففيهم يمكن رؤية موهبة خاصة لكل نوع من التجارة, وهذا هو السبب في أن بيروت بلد تجاري أكثر منه بلد صناعي “.
اما ملاحظات “شبلي نعماني” فركزت على المظهر الخارجي للناس فكتب:”اللغة الغالبة هنا هي العربية. وقواعد اللباس قريبة جدا من النمط العربي. لكن السراويل على غرار النوع الكابولي في أفغانستان, الذي يتدلى بين قدميه ما يشبه خرطوم الفيل. و يحتاج هذا السروال لصنعه الى حوالي عشرة أمتار من القماش. المسلمون والمسيحيون والدروز يرتدونها جميعا. اما المتعلمون حديثًا فقد بدأوا في ارتداء السترات والسراويل الغربية”.
“شرف الدين ماغومي”, أكد على ما ذكره الآخرون عن اجتهادِ اهل بيروت, وأضاف في ملاحظاته امرا حول اللغة فكتب: “أهل بيروت مجتهدون واذكياء للغاية. وعلى الرغم من أن اللغة المحلية المحكية هي العربية, إلا أن الفرنسية والإنجليزية شائعتان جدًا. حتى عمال المراكب والرسامون يفهمون إحدى هاتين اللغتين. اما اللغة التركية فلا تجدها في أي مكان آخر غير الدوائر الحكومية”.
ينتقل بعد ذلك الباحث الى الحديث عن النفوذ الأجنبي القوي في بيروت العثمانية الإسلامية, والتي رأى ان البرجوازية المسيحية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر وجدت في بيروت مستقرّاً لها حول المدينة وقريب من الميناء, واصبحت ذات قوة اقتصادية ومؤثرة سياسيا واقتصاديا وفكريا. ولهذا السبب ، كان لمظاهر الحياة الاجتماعية الأوروبية انتشار واسع في حياة الناس.
ومن مظاهر الحياة في بيروت ايضا, يذكر “القيلولة” ظهرا وهي النوم وقت الغداء, حيث تفرغ الشوارع من المارة. هذا التقليد الذي يتكامل مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قِيلُوا؛ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ”.
فيما يتعلق بالنقل, يوضح الباحث, إن المعلومات التي قدّمها الرحالة ليست كثيرة. فقد تحدثوا عمومًا عن الأماكن التي زاروها, واغفلوا جزء الرحلة وحرصوا على عدم إطالة الموضوع. لذلك, على الرغم من عدم وجود معلومات مفصلة حول النقل, الا اننا نفهم ان بيروت, المدينة التجارية, كانت من أوائل المدن التي أدخل اليها السلطان عبد الحميد الثاني شبكة نقل متطورة , وخطوط الترام, ومصابيح الشوارع, وابراج الساعات وكذلك العمارات على الطراز الغربي.
“شرف الدين ماغومي”تحدث عن عربات “الديليجانس” الأوروبية الطراز, و”فايتون”, والحافلات العامة, والسكك الحديدية التي تربط بيروت بدمشق.
ونبقى اخيراً مع ملاحظة “يوسف أكشورا”, عن التجارة و ازدهارها الكبير في بيروت فيكتب:”إنهم يحبون المال كثيرًا, إنهم تجار جيدون جدًا, ولأن دماء الفينيقيين القدماء تسري في عروقهم, فهم ما زالوا يمارسون التجارة بنفس الطريقة التي فعلها الفينيقيون, ولا يأخذون في الحسبان آلاف السنين التي مرت”.
خاتمة
يتضح لنا بحسب الباحث, ومن خلال قراءة ما “اقتبسناه من الرحّالة, فمدينة بيروت تختلف عن غيرها من مدن شبه الجزيرة العربية في كثير من النواحي”. الناس هنا يعملون بجد و نشاط وبها أناس يجيدون العديد من اللغات الغربية الى جانب العربية, ولها هوية مختلفة عن المدن العربية الأخرى من حيث التعددية اللغوية والحضارية, و بها تصدر معظم المطبوعات العربية.
يوجد في بيروت ميناء تطور بشكل خاص في النصف الثاني من القرن التاسع عشر, و كان يشهد نشاطا كبيرا في نقل البضائع والركاب, اما الناس فكانوا مشغولون بجميع أنواع التجارة ومنها الخدمات المصرفية.
أثّر التطور الكبير في فرص التجارة والنقل على الحياة الاجتماعية في المدينة, وجذب نماذج الحياة الاجتماعية الأوروبية اليها.
أصبحت بيروت بتنوعها الديني والثقافي, مدينة تعكس التركيبة الفسيفسائية العرقية للإمبراطورية العثمانية بأممها المختلفة وبنيتها العالمية.
الأنشطة التعليمية في بيروت كانت متطورة للغاية, وبيروت كانت المدينة الوحيدة في الجغرافيا العثمانية, التي نافست اسطنبول.
وآخر الكلام عن بيروت, سيكون كما وصفها الشعراء و الادباء:
أحلام وآمال وأفراح. واليأس لا يكون فيها دائمًا أيضًا.
متعبة, ومملة, لكنها جميلة بشكل لا يوصف. انها بيروت الجميلة.
________
*باحث في التاريخ/ عضو جمعية تراثنا بيروت.