بيروت الأمينة سنة 1610م
في هذه السنة وفد إلى بيروت سائح أجنبي يدعى “ساندس”، وكانت المدينة تحت حكم الأمير فخر الدين المعني في أوائل العهد العثماني. كتب ساندس في مدونته:
” أما التجار في بيروت فكان أغلبهم من الانكليز، وكان الأمير يعاملهم بالحسنى ويؤمن لهم حرية التنقل في إمارته دون أي خطر والدراهم على أكفهم…”
يذكر أن إمارة فخر الدين في تلك السنة كانت تمتد من أسفل جبل الكرمل محتضنة غزير وبيروت وصيدا وصور وعكا وصفد ودير القمر والشقيف وبانياس والحولة وبحيرة طبرية ومدينة الناصرة.
***
وصف قصر الأمير فخر الدين سنة 1637
في هذه السنة زار بيروت سائح أوروبي يدعى “بوكوك” Bewcock دون في رحلته وصفاً جميلاً لقصر الأمير فخر الدين المعني الثاني في بيروت (كان موقعه في ساحة الشهداء أو البرج اليوم). كتب بوكوك:
“… وقد وزع الأمير على كل أقسام القصر أقنية للمياه مخبأة في باطن الجدران. ومن آثار البعثة التوسكانية التي استقدمها إلى بيروت نرى السبيل الذي أقامه تخليداً لذكرى كنته (هي زوجة ابنه الأمير علي التي توفيت صبية). وقد أدخلت هذه البعثة إلى بيروت والجبل فن أسطحة القرميد وواجهات المنازل الزجاجية المرتكزة على أعمدة رشيقة مفتوحة على صحن الدار لإمدادها بهواء البحر العليل صيفاً وأشعة الشمس شتاءً.”
أنظر: فخر الدين المعني الثاني حاكم لبنان للأب بولس قرالي، جـ2
*
كنائس بيروت سنة 1643
في هذه السنة، مر في بيروت رجل دين كاثوليكي يدعى الأب فيتالي Vitali، ودون مشاهداته في بيروت التي اقتصرت على الأماكن الدينية المسيحية في ذلك الوقت، جاء فيها:
“… ومما يزيد في مكانة بيروت كنيستان قديمتان، تقع الأولى خارج السور، والثانية داخله. أما الأولى فهي خاصة بالطائفة المارونية ومقامة على اسم السيدة العذراء (كنيسة السيدة)، وفي مكانها ظهرت الأعجوبة التي ذكرها مؤرخ روماني قال فيها أن الكفار اليهود بلغت بهم الجسارة أن صلبوا صورة سيدنا يسوع المخلص فتدفق منها الدم الغزير، لدرجة أن جميع كنائس الشرق والغرب نالت قسطاً منه.”
أنظر: فخر الدين المعني الثاني حاكم لبنان للأب بولس قرالي، ج2
تابع فيتالي تدوينه في مذكراته بذكر الكنيسة الثانية وهي كنيسة القديس جرجس الشهيد، مشتركة بين الموارنة والملكيين وهي مشيدة كما يقول في المكان الذي قتل فيه هذا القديس التنين الهائل… وعلى بعد ربع ميل من البحر مغارة هائلة مرعبة للناظرين، فما بالك بالداخلين إليها! فإن زرتها لا تشك أبداً بأنها مقام التنين وغيره من الحيوانات والمسوخ الفتاكة…”
ولا شك أن الأب فيتالي يعني كنيسة القديس جاورجيوس المجيد التي كانت تعرف بكنسية النهر (لوقوعها على ضفة نهر بيروت) والتي أصابها الخراب بعد الخلاف على ملكيتها بين الموارنة والروم الأرثوذكس وهجرها لفترة طويلة من الزمن.
***
مدونات الرحالة هنري ماندريل
الوصول إلى بيروت:
في سنة 1697 زار رحالة إنكليزي شهير يدعى ريتشارد كريزويل الأصغر مدينة بيروت برفقة رحالة أقل شهرة يدعى هنري موندريل Henry Maundrell. دون كيزويل مذكراته في كتاب أسماه “يوميات رحلة من حلب إلى القدس مع هنري موندريل Journal of a voyage from Aleppo to Jerusalem in company with Henry Maundrell in 1697
اما موندريل فقد دون ما يلي في كتاب عنونه A journey from Aleppo to Jerusalem at Easter
.. ودخلنا بالمركب الى بيروت مبتلين ثم نزلنا في خان قرب البحر.. ان مدينة بيروت لقبت بـ “يوليا السعيدة” في عهد أغسطس قيصر [نسبة لابنته يوليا]، ولكن لم يبق من سعادتها غير موقعها، فانها قائمة على شاطىء البحر في بقعة طيبة والبلاد حولها كثيرة الخصب وماؤها زلال، يأتيها من التلال المجاورة لها، وله فيها عيون جميلة البناء… ولا شيء تفخر به الآن!
المصدر: A journey from Aleppo to Jerusalem at Easter, A.D. 1697
وصف سور بيروت:
” ولم يزل سور المدينة قائما ً الى الجنوب منها، وهو مبني من أنقاض مبانيها القديمة، فترى فيه قطعا ً من أعمدتها الرخامية. ورأينا خارج السور كثيرا ً من أعمدة الغرانيت والأرض المرصوفة بالفسيفساء وقطعا ً من الرخام الصقيل والتماثيل القديمة ونحو ذلك من الآثار التي تدل على ما كان لهذه المدينة من العظمة. وعلى شاطىء المدينة عند البحر قلعة قديمة متخربة وآثار مرفأ قديم”.
موندريل يصف قصر الأمير فخر الدين:
“… ذهبنا الى مشاهدة هذا القصر، وهو في الساحة الى الشمال الشرقي من المدينة فوجدنا أمام بابه فسقية ونوفرة من الرخام لم نر أجمل منها في بلاد الترك، والقصر دون مختلفة، أمسى أكثرها خرابا ً ولعلها لم تكتمل أصلا ً. وهناك اصطبلات للخيل وبيوت للأسود ونحوها من الوحوش مما لا مثيل له الا في قصور الملوك. وأجمل ما رأينا هناك بستان كبير مربع مقسوم الى ست عشرة حديقة من شجر البرتقال. والأشجار كلها كبيرة ناضرة لم تر العين أجمل منها، تكاد أغصانها تتكسر من كثرة حملها. وحول هذه الحدائق مماش من الحجر فيها مجار للمياه يروى بها البستان كله. ولو كان فيه بستاني انكليزي ما نظمه بأحسن من تنظيمه. لكن، واأسقاه، فاننا لما رأيناه كان قد صار كله حظيرة للغنم والماعز، وزبلها فيه يعلو عن الأرض أكثر من ذراع.
وفي الجانب الشرقي من هذا البستان ممشيان عاليان، الواحد منهما فوق الآخر، يوصل الى كل منهما باثنتي عشرة درجة وفوقهما أشجار البرتقال تظللهما، وهما يوصلان الى مصيف بهيج في الجهة الشمالية، كان فخر الدين يجلس فيه في ساعات أنسه”.
وقد لاحظ موندريل أن الأمير فخر الدين أراد أن ينقل الحضارة الغربية الى امارته الشرقية فقال: “فانه – أي الأمير- أراد أن يقلد ملوك ايطاليا الذين زار بلادهم. وقد رأينا في بستان آخر نصبا ً للتماثيل وفي احدى زواياه برج عال ارتفاعه 60 قدما ً بناه مرقبا ً وأحكم بنيانه، فان سمك جدرانه 12 قدماً”.
—
ملاحظة: ذهب بعض المؤرخين المحليين إلى أن ما ذكر عن عظمة قصر الأمير مبالغ فيه لأنه لم يمكث في بيروت سوى سنتان من سنين حكمه، وهذا الزعم يدحضه ما دونه الرحالة القدماء في وصفهم للقصر ومحيطه، منهم خسرو الفارسي وأولدنبرغ وموندريل كما ورد في الحلقات السابقة من هذه السلسلة، مع الإشارة إلى أخطأ عديدة جسيمة أورها موندريل في تأريخه لحياة الأمير فخر الدين وما ذكره عن بعض الأماكن الدينية البيروتية، ربما لاعتماده على مصادر غير موثوقة!
سور بيروت:
تابع موندريل: “ولم يزل سور المدينة قائما ً الى الجنوب منها، وهو مبني من أنقاض مبانيها القديمة، فترى فيه قطعا ً من أعمدتها الرخامية. ورأينا خارج السور كثيرا ً من أعمدة الغرانيت والأرض المرصوفة بالفسيفساء وقطعا ً من الرخام الصقيل والتماثيل القديمة ونحو ذلك من الآثار التي تدل على ما كان لهذه المدينة من العظمة. وعلى شاطىء المدينة عند البحر قلعة قديمة متخربة وآثار مرفأ قديم..”
تجدر الإشارة إلى أن الأعمدة الغرانيتية التي ذكرها موندريل لا تزال موجودة إلى يومنا هذا في موقع الآثار الرومانية وسط بيروت، أما الفسيفساء وقطع الرخام فقد ضاع معظمها (أو تم نهبه… كالعادة!)
________
*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت