أقدم رسم لإسم بيروت
إن أقدم رسم لاسم عاصمتنا ورد في رسائل تل العمارنة التي تعود إلى النصف الثاني من القرن الرابع عشر قبل الميلاد. وقد ذُكرت تحت مسمى بيروتا، وذلك بالكتابة المسمارية الأكادية، وهي اللغة التي كانت تُعتبر بمثابة لغة التخاطب الدولية في ذلك العصر (lingua franca)
هذا وقد ورد اسم مدينتنا مرات عديدة في تلك الألواح، خاصة في طلبات العون المتكررة التي وجهها ملك جبيل ريب أدي Rib-Addi إلى الفرعون أخناتون، كما في الرسائل الثلاث التي أرسلها ملك بيروتا عمونيرا (أو أمونيرا) إلى الفرعون طلبا للنجدة من الغزاة المتربصين بمدينته.
تجدون في الرسم المرفق أعلاه اسم بيروتا باللون الوردي (من اليسار إلى اليمين) be-ru-taمعطوفا إلى رمز “أورو” الذي يسبق في الأكادية أسماء المدن (باللون الاخضر) URUوالرسم مأخوذ من ظهر الرسالة. (الرسالة رقم 101 السطر 25)
**
الحقبة الهللينية
خلال الحقبة الهللينية (من موت الإسكندر المقدوني عام 323 إلى بداية الحكم الروماني عام 64 ق. م.) عُرفت بيريتوس اليونانية BHPYTOΣ كذلك باسم “لاذقية فينيقيا” (Λαοδίκεια ἡ ἐν Φοινίκῃ أي Laodikeia he en Phoinike لاوذيكيا هي إن فوينيكي) وذلك لتمييزها عن مدن هللينية أخرى كانت تحمل نفس الاسم، مثل لاذقية سوريا أو لاذقية البحر (وهي مدينة اللاذقية السوريّة) ولاذقية لبنان (الواقعة على نهر العاصي، بين القصير وحمص) ولاذقية ليكوس (وهو نهر في آسيا الصغرى، في تركيا الحالية) واللاذقية المحروقة (وهي مدينة لادك التركية).
وLaodikeia عبارة عن اسم نسبة لاسم العلم المؤنث لاوديكي Laodike (ويعني “عدالة الشعب”) الذي عُرفت به ملكات وأميرات عديدات من الأسرة السلوقية الحاكمة، فيكون اختياره من جانب تلك المدن بمثابة تبجيل لوالدة أو زوجة ملك معيّن أو ابتغاءً لرضاه.
في ما يخصّ بيروت هناك خلاف بين العلماء حول الفترة التي تبنّت فيها المدينة هذه التسمية، فهناك من يحدّد بدايتها أيّام الملك أنطيوخوس الرابع (حكم من 175 إلى 164 ق. م.) حيث كانت أمه وزوجته تحملان اسم لاوديكي، وهناك من يرى أنّ بيروت تخلّت عنها لفترة معيّنة ثم استعادتها حوالى العام 110 ق. م. بعد حصولها على بعض الامتيازات. الطريف في الأمر أنّ عبارة Laodikeia he en Phoinike التي وُجدت على القطع النقدية المسكوكة في بيروت في عهد بعض الملوك السلوقيّين قد وردت أحيانا مصحوبة بترجمتها الفينيقية على الشكل التالي: “لادكا أم بكنعن”، أي اللاذقية حاضرة كنعان.
ويبدو من بعض الآثار أنّ سكان بيروت قد تبنّوا في فترات معيّنة من الحكم السلوقي هذه التسمية، ففي جزيرة ديلوس اليونانية عُثر على نقش (الصورة المرفقة) يعود إلى حوالي العام 175 ق. م. أقامته جالية من التجّار البيارتة المقيمين في الجزيرة قاموا فيه بالتعريف عن أنفسهم كـ “لاذقيّي فينيقيا”.
الحقبة الرومانية
خلال الحقبة الرومانية (الممتدّة من عام 64 ق. م. حتى تقسيم الإمبراطوريّة عام 395 م.) عُرفت بيروت باسمها اللاتيني بيريتوس BERYTUS المأخوذ بالطبع عن الاسم اليوناني BHPYTOΣ لكنّ المدينة شهدت حوالي العام 15 ق.م. حدثًا هامًا وضعها في مرتبة أرفع تجاه المدن الفينيقيّة الأخرى، ألا وهو إعلانها مدينة ينطبق عليها القانون الرومانيّIUS ITALICUM، فاعتمدت بيروت في مسكوكاتها ونقوشها لقبًا جديدًا هو COLONIA IULIA AUGUSTA FELIX BERYTUS الذي سنستعرض مدلولات كلّ كلمة منه على حدة.
COLONIA
لا تفي ترجمة “مستوطنة” بالمعنى المقصود منه في العهود القديمة. فالمستوطنات كانت بمثابة “بنات” لـ “المدينة الأمّ” (وهذا هو بالضبط معنى METROPOLIS أي “حاضرة” بالعربيّة) التي قامت بتأسيسها، كما كان الحال ما بين صور والمدن العديدة التي أسّستها على سواحل المتوسّط. لم يقم الرومان بالطبع بتأسيس بيروت، لكّنهم اعتبروا اختيارها لسكن قدامى المحاربين من أنصار أوكتافيوس (الذي سيُلقّب في ما بعد بأوغسطس قيصر) بعد انتصاره سنة 31 ق. م. على أنطونيوس وكليوباترا بمثابة إعادة تأسيس للمدينة بعد الخراب الذي لحق بها عام 143 ق. م. على يد القائد السلوقيّ تريفون، وذلك رغم الفارق الزمنيّ الكبير. ويرجّح المؤرّخون أن يكون القدامى من الفرقتين الرومانيّتين الخامسة المقدونيّة (LEGIO V MACEDONICA) والثامنة الغاليّة (LEGIO VIII GALLICA) قد باشروا استيطان بيروت ما بين عام 30 و27 ق. م. كما نستدلّ من شاهدة لضريح أحد الجنود اكتُشفت في برج حمود. وهكذا سرى على سكّان المدينة من رومان وغيرهم القانون الرومانيّ، وهو أمرٌ كان محصورًا حينها بمدن قليلة خارج إيطاليا. ونتج عن ذلك إعفاءات ضريبيّة لسكّان المدينة عدا عن توسيع منطقة سيطرة بيروت لتشمل، كما ذكر الجغرافيّ اليونانيّ سترابون، “أجزاء واسعة من ماسياس (أي سهل البقاع) وصولا إلى منابع العاصي”.
IULIA
نسبة ليوليا (أو جوليا باللفظ الحديث) ابنة أوغسطس الوحيدة وزوجة ماركوس أغريبّاMarcus Agrippa ، صديقه وشريكه في الانتصارات على خصومه، حيث عُيّن أغريبا مرّتين حاكمًا على ولاية سوريا (23 ق.م. و17 ق. م.) ونال لقب “مُصلح سائر الشرق” Corrector totius Orientis. وفي عام 21 ق. م. طلّق أغريبّا زوجته كلاوديا ليتزوّج من يوليا، التي كانت قد ترمّلت وهي لا تزال في الثامنة عشرة من عمرها وكانت تصغره بخمس وعشرين سنة، وذلك نزولا عند طلب أوغسطس الذي كان يرغب برؤية أحفاد له يخلفونه من بعده.
AUGUSTA
لم تحصل يوليا البتّة من مجلس الشيوخ الرومانيّ على لقب Augusta أي “الجديرة بالاحترام والتقدير”، على غرار والدها الذي لُقّب بـ Augustus منذ العام 27 ق.م.، وقد يكون مردّ ذلك إلى سيرتها غير العطرة. لكنّ إضافة “أوغسطا” على اسم بيروت إنّما يدلّ على مخطّط بهذا الخصوص حيث أنّ يوليا كانت الوحيدة القادرة على نقل دماء أوغسطس إلى أحفاده. أنجبت يوليا من أغريبّا خمسة أولاد (ثلاثة ذكور وابنتين) لكنّ أوغسطس فُجع بموت حفيديه المحبوبَين في مطلع شبابهما، في حين قُتل ثالثهم الطائش في ظروف غامضة بعد موت القيصر بقليل.
FELIX
أي السعيدة أو المحظوظة لوقوع الخيار عليها من بين كافة المدن. وقد حملت هذا اللقب في الفترة نفسها مستوطنات رومانيّة أخرى، مثل لوسترا وكرمنينا الواقعتين في آسيا الصغرى، كما مُنح في عهد الإمبراطور كلاوديوس (41ـ54 م.) لمدينة عكا قبل أن يتمّ تجاهله لعقود طويلة إلى أن حازت عليه مدينة صور في عهد سبتيموس ساويروس (193ـ211 م.) ولو بشكل غير رسميّ.
تجدر الإشارة إلى أنّ بيروت أضافت في بداية القرن الثالث إلى ألقابها لقب ANTONINIANA وذلك تكريمًا منها للإمبراطور ماركوس أوريليوس ساويروس أنطونينوس، الملقَّب بكراكلا (211ـ217). وينسب بعض المؤرّخين القرار إلى توسّط كراكلا لدى والده سبتيموس ساويروس من أجل إصلاح ذات البين مع أهل بيروت الذين كانوا قد انحازوا إلى خصمه نيجر خلال الصراع على العرش، فنتج عن ذلك الموقف حرمان بيروت من بعض الامتيازات لصالح صور، منافستها على الصدارة، كما سُلخت عنها مدينة بعلبك لتصبح مستوطنة قائمة بذاتها. ومن المرجّح أن تعود بداية استخدام لقب أنطونينيانا إلى سنة 215 خلال تواجد كراكلا في الشرق، وذلك بعد استئثاره بالسلطة عقب وفاة والده وتخلّصه من أخيه وشريكه جيتا Geta. غير أنّ هذا الاستعمال لم يدم طويلا، إذ تخلّت عنه بيروت بُعيد اغتيال كراكلا عام 217 وذلك اتقاءً لشرّ خليفته ماكرينوس.
تبيّن هذه الصورة رسمًا لبعض المسكوكات البيروتية تظهر عليها ألقاب المدينة وفق الطريقة الرومانية في اختصار الكلمات على النقوش
COL(ONIA) IUL(IA) AUG(USTA) FEL(IX) BER(YTUS)
الحقبة الصليبية (الفرنجة)
كان من عادة الصليبيّين (أوالفرنجة) تحريف أسماء المدن التي سيطروا عليها في بلاد الشام بما يتناسب ولهجاتهم المحلّيّة التي كانت قد بدأت تبتعد عن أصلها اللاتينيّ، فأطلقوا اسم باروت Barut أو باروث Baruth على إقطاعيّة بيروت التي ألحقوها بمملكة بيت المقدس وبقوا مسيطرين عليها لمدّة مائة وإحدى وسبعين سنة (من 1110 إلى 1291) إذا ما استثنينا منها السنوات العشر (من 1187 إلى 1197) التي عادت فيها بيروت إلى الحكم الإسلاميّ على إثر انتصار صلاح الدين الأيّوبي في معركة حطّين الشهيرة.
وترد تسمية باروت في الكثير من المخطوطات والوثائق المعاصرة، بخاصّة تلك المكتوبة باللغة الفرنسيّة القديمة، حيث تتكرّر عبارة “sire de Barut” وأحيانًا “seignor de Barut” أو “senyor de Baruth” وكلّها تعني سيّد أو صاحب بيروت، وهو اللقب الذي حمله العديد من أعضاء أسرتي بريزبار Brisebarre وإيبلين Ybelin, Ibelin اللتين تعاقبتا على حكم المدينة ومقاطعتها خلال تلك الفترة الطويلة التي انتهت عام 1291 بسيطرة المماليك.
كما يذكر الراهب الألمانيّ ثيوديريك (Theoderich) في “كتيّب الأماكن المقدّسة” (Libellus de locis sanctis) أنّه توقّف خلال رحلة حجّه إلى فلسطين عام 1172 في “بيريتوس الواقعة إلى الجنوب، على الساحل، والتي يدعوها معاصرونا باروث، وهي مدينة محصّنة غنيّة واسعة ومأهولة”.
وهاكم أيضًا مقتطفات باللهجات السائدة آنذاك ممّا يُعرف بـ “حولياّت الأراضي المقدّسة” ورد فيها اسم بيروت بالصيغتين المذكورتين آنفا:
“En l’any de MCCXLI d’Ebelì, fill del senyor de Baruth, començà a ffermar lo castell de Sur”
“et alerent dont les gens d’Acre et li sires de Barut, et cacierent les Lumbars de Sur et de la Surie, et prirent le bail de Sur et la nave où il estoit comme il estoit ”
“et si y avoient chastelein Felipe de Cafran et y estoit Arneis de Gybelet que li sires de Barut avoit laisse cheveteine de le terre qui moult poi y mist”
“assez en i a qu’il fist d’une grant guerre qu’il vit a son tens antre l’ampereor Fredri et le seignor de Barut, mon seignor Jehan de Belin le viel”
“messire Johan de Yblin, seignor de Barut, fis quy fu de Balian de Yblin, seignor de Barut, quy prist Sur des longuebars”
________
*صحافي وكاتب باحث لبناني. عضو جمعية تراثنا بيروت.