تقليد مشترك كان يجمع كل الناس
إحتفالات عيد الميلاد في بيروت كانت على الدوام تقليداً مشتركاً لكل المواطنين بغض النظر عن دينهم، بلا تمييز بين طائفة وأخرى، حيث كان الميلاد يجمعهم جميعاً على المحبة والفرح والسعادة…
كان الجميع يترقبه ويتحضر له ليحتفل به، إذ كان عيد الميلاد كغيره من الأعياد والمناسبات الدينية جامعاً لكل الناس صغاراً وكباراً، في مدينة المحبة والتعايش والتعدد والتنوع، التي تضج بالحياة، وسط فرحة عارمة لا توصف.. ففي بلد الثماني عشرة طائفة، كان عيد الميلاد في بيروت عيداً لكل اللبنانيين…
قبل حلول العيد بأسابيع كانت أسواق بيروت وشارع “الحمراء” وواجهات محلاتها التجارية تكتسي بحلة العيد وزينته التي يطغي عليها اللونين الأحمر والأخضر التي كنا ننتظرها من عام لعام لنتمتع بزهوها وألوانها وأضوائها، فتصبح مشعة متلألئة بالأنوار المختلفة التي تضفي أجواءاً من الفرح والمحبة في النفوس المبتهجة بالعيد وإحتفالاته…
شجرة الميلاد المزينة والمضاءة بالألوان والأجراس، تبدو سيدة الموقف، متأهبة دائماً أينما حطت الأنظار، يرافقها صوت فيروز في أغنية “ليلة عيد” كأنه يحاول أن يخفف من سرعة المدينة وناسها الذين يبدون على عجلة من أمرهم لإستقبال المناسبة المجيدة بأفضل ما لديهم…
في موسم الميلاد تكون المحلات التجارية على إختلافها من ألبسة وعطور وهدايا متأهبة للمناسبة، لأن العادة جرت أن يتبادل الأهل والأصدقاء الهدايا إحتفالاً، فتراها مزدحمة بالزبائن الذين يحرصون على شراء أجمل الهدايا وأكثرها تمايزاً، لإهدائها إلى أعزائهم، وإستعداداً لوضعها تحت شجرة الميلاد في المنازل للإيحاء للأطفال بأن “بابا نويل” أحضرها لهم ليلة العيد.
كما أن محلات الحلويات الأجنبية (الباتيسري) كانت تشهد حركة غير مسبوقة، خصوصاً لجهة الطلب على ال (Buche وMorron Glace) حلوى المناسبة، وهذا ما ينسحب أيضاً على المطاعم التي تعد للمآدب العائلية في المنازل حبش العيد، الذي يتسيد المأدبة الميلادية…
وخلال فترة الميلاد، كان الأهل يصطحبون أولادهم إلى وسط بيروت التجاري لرؤية ومشاهدة الزينات، فتكون “كزدورة” مشياً على الأقدام في سوق “الطويلة” حيث المحلات الفاخرة وشارعي “فوش” و”اللمبي” و”باب إدريس” إمتداداً حتى شارع “جورج بيكو” التي ترفع فيها كافة أنواع الزينة المضاءة التي تتخذ من أشكالها الرموز الميلادية كالنجوم والكرات الملونة والذهبية وشخصية “بابا نويل”، تبهر الأنظار، لا سيما الإضاءة التي تشتعل وتنطفئ تباعاً بشكل إنسيابي ومنتظم (كان أمراً غريباً بعض الشيء في ذلك الزمن).
كذلك كان شارع “الحمراء” أيضاً يكتسي كأسواق وسط “البلد” بحلة العيد، الذي كان بدوره له حصة للأولاد بزيارته للتمتع بمشاهدة زينته المميزة، لا سيما ليلاً حيث كان يتلألأ بالأضواء المشعة.
ونزولاً بإتجاه شارع “بلس” كان لا بد من التوقف عند سور الجامعة الأميركية، التي كانت تحرص إدارتها سونياً على تزيين إحدى الشجرات العملاقة والمعمرة بزينة الميلاد مستعينة بسيارة إطفاء للتمكن من الوصول إلى أعلاه. فكانت محطة للفِرْجِة ولإلتقاط الصور لها…
ليلة العيد، ينسى الجميع همومهم ومشاكلهم وهواجسهم في تلك الليلة المجيدة. فرحتهم لا توصف.. يتجهزون، يبتهجون، ويحتفلون عشية العيد كمناسبة للحب والفرح وتجدد الصداقات.. تهان متبادلة، فرح، رقص، وهدايا كثيرة…
وأجمل مظاهر ليلة الميلاد، عندما تلبي العائلات المسلمة دعوات أصدقائها وجيرانها المسيحيين، لإحياء الليلة المجيدة في منازلهم حيث يجتمعون على مأدبة العشاء، ويقومون بترتيل الأغاني الميلادية،
حيث تسمو على الفوارق الدينية والإختلافات الطائفية”…
هكذا كانت بيروت أيام الخير تحتفل بالميلاد وأجوائه الرائعة،
حيث كان يتحول إلى تقليد إجتماعي وطقس سنوي يضم جميع أطياف المجتمع البيروتي…
________
*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت