من يغوص بذاكرته في أرجاء بيروت، ووسطها التجاري قبل الحرب المدمِّرة، وينبش تلك الصور العالقة في مخيلته، لا بدّ من أن يحضر في مخيلته بائعو أوراق “اليانصيب” المتجولون الذين يملأون الأرجاء لكثرتهم، والأجواء بأصواتهم منادين: “بكرا السحب.. آخر ورقة.. جرب حظك.. ركبوا الدواليب”…
كانوا جزءاً من النسيج الإجتماعي للمدينة ومن حركتها التجارية، رغم تواضع دخلهم والمردود الربحي لأوراق الحظ… منهم من إعتاد الوقوف الدائم في أماكن محددة، كأنهم حجزوها لأنفسهم، كمداخل المباني الرسمية والشركات، أو داخل الأسواق، وأمام دور السينما والمسرح.. ومنهم لم يعرف مكاناً ثابتاً، بل يجولون في الشواراع والأزقة والساحات، حتى أن بعضهم إعتاد دخول المحال التجارية والمكاتب في أيامٍ محددة، بعدما بات لديهم زبائن ثابتين من الموظفين والعاملين فيها، خصوصاً وأن بعضهم كانوا يتفاءلون ببائع معين، ظناً منهم أنه جالب للحظ، في حين أن البعض الآخر كان دافعه الإنساني يجعله يشتري من بائع بعينه، على سبيل الدعم والتشجيع…
وبائعو أوراق “اليانصيب” في ساحات وأسواق بيروت، والأماكن العامة، كانوا يشكلون مظهراً من مظاهر الحياة اليومية في بيروت، كغيرهم من البائعين المتجولين التي تعجّ بهم المدينة، من الذين يبحثون عن قوت يومهم. وكان بائعو “اليانصيب” يتوزعون على عدة شرائح: الشريحة الأوسع هي فئة المهمشين إجتماعياً، من الأميين وممن لا يتقن أي مهنة أو حرفة، وفئة من شريحة الأحداث والأطفال، الذين ودّعوا المدرسة باكراً، وربما لم يدخلوها قط، وفئة محدودي الدخل المنخفض الذين يجهدون لتعزيز دخلهم، أما الفئة الأخيرة فهم من العجزة وأصحاب العاهات…
لا بدّ من الإشارة في هذا السياق أن “اليانصيب” كان محظوراً في عهد المتصرفية، وبعد إنحسار ظل السلطنة العثمانية وحلول الإنتداب الفرنسي محلها، عادت أوراق اليانصيب الأجنبية إلى الأسواق اللبنانية، لكنّ مصدرها تغير. فمصارف “هامبورغ” لم تعد تُغرق الأسواق بها، بل جهات رسمية وخاصة أخرى، وتحديداً فرنسية كـ”كريدي ليونة” و”اليانصيب الوطني الفرنسي” وسواهما.
ظلت هذه الأوراق تغزو المدن والبلدان الرئيسية حتى سنة 1942 حين قدّم مغترب لبناني إقتراحاً للرئيس سامي الصلح لإنشاء إدارة لليانصيب في لبنان ذات إمتياز، على أن يساهم المهاجرون في المشروع تنمية لإقتصاد الوطن الأم. وقد عرض الصلح الفكرة على مستشار المالية الفرنسية “المسيو بنوا” فارتأى أن تكون الإدارة تابعة للدولة، وبدأت الترتيبات تُعدّ لذلك. وما أن فرغ منها حتى صدر مرسوم الخاص بها– رقم 103 في 24/12/1942 قاضياً بإنشائها.
يذكر أن أول مركز إتخدته إدارة “اليانصيب” الوطني كان بناية “دعبول” ثم بناية “الشرتوني”.. أما أول إصدار فظهر في أول كانون الثاني 1943، خمسمئة ألف ورقة وُزّعَت في لبنان والبلدان المجاورة وعليها رسم لوعاء طافح بالفواكة اللبنانية.. وأول إصدار نزل إلى الأسواق بعد نيل لبنان إستقلاله كان في مطلع عام 1944 وقد حمل رسم العلم اللبناني الجديد…
ليلة دوران دواليب “اليانصيب” تتسمر الأنظار على الشاشة الصغيرة ترقباً للرقم الذي سيشكل على مرأى من الجميع، وهو رقم يمكن أن يكون من نصيب صاحب حظ سعيد واحد، إذا كانت ورقة “اليانصيب” مباعة لشخص واحد أو يمكن أن تكون من نصيب أكثر في حال بيعت نصفين. من هنا بات “الدولاب” يرمز إلى الحظ، فعندما تقول العامة عن شخص “إن دولابه قد برم” أو “برم معه الدولاب”، فإنهم يعنون بذلك أن حاله أخذ يتحسّن وأن الثروة أخذت تتجمع لديه. لذا صاروا يشبهون الدنيا بالدولاب ويقولون: “الدنيا دولاب”.
وكان كلّ من يربح الجائزة الكبرى أو ما عداها من جوائز أخرى يقولون عنه: “حظه يفلق الصخر” أو يقولون عنه أيضاً: إرمي بالبحر بيطلع بتمو سمكة”، في المقابل الذي يواظب على السحب دون الربح يقولون عنه: “يلي ما إلو حظ لا يتعب ولا يشقى”، ومن يتحسر على نفسه يقول:”حظ أعطيني وبالبحر رميني”…
ومواظبة الناس على شراء أوراق “اليانصيب”، أملاً أن تحمل بشائر التغيير الإيجابي، أو ضربة حظ تغير مجرى الحياة، دفع المطربة الراحلة صباح في حينه إلى تناول “اليانصيب” من خلال أغنية بعنوان: “يانصيب شد وصيب”…
في الختام، المفارقة الغريبة أن بائع “اليانصيب” قليل الحظ (!) كان يبيع الأمل بالحظ المحروم منه إلى زبائنه، مراهناً أن يربح أحدهم الجائزة الكبرى، والبعض الآخر الجوائز الأدنى، لعل الرابحون يكرمونه بمبلغ من المال، كعرفان له بالجميل أنه كان وجه السعد بالنسبة له!!!
________
*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت