رمضان في التراث البيروتي

زياد سامي عيتاني*

كانت مدينة بيروت التي ترسّخت جذورها منذ القدم على التعبّد والتديّن تُعَدّ في الماضي خلال شهر رمضان المبارك من المدن الزاهية، إذ كانت تزدان شوارعها وزواياها وتضاء فيها المصابيح ويغلب على أجوائها الطابع الرمضاني.

وقد كان لشهر رمضان المبارك تقاليد وعادات دينية واجتماعية متعددة الجوانب والمنافع الحسنة المتوارثة من جيل إلى جيل، حتى أصبحت هذه التقاليد والعادات جزءاً من المظاهر المحببة والمألوفة التي ارتبطت بتاريخ بيروت وتراثها الشعبي…

سيبانة رمضان

إذا كان الاستعداد الروحي والديني لصيام شهر رمضان المبارك يبدأ قبل شهرين من حلوله، بصيام يومي الإثنين والخميس من كل أسبوع طلية أشهر “الهلّة” إقتداءً بالسنة النبيوية الشريفة، وبالتالي الإحتفال بليلة النصف من شعبان، فقد اعتاد البيارتة أيضاً التحضّر له نفسياً من خلال نزهات كانوا يقومون بها أواخر شهر شعبان،(غالباً ما يكون آخر يوم أحد قبل حلول الشهر الفضيل)، ليودّعوا حياتهم المعتادة  بكل مباهجها ومسراتها وسرورها، ويتحضروا  للدخول في شهر رمضان والإنصراف خلاله للتعبد والصيام والقيام.

فكان الناس يخرجون آخر يوم عطلة أسبوعية من شهر شعبان إلى الحقول والبساتين والمنتزهات مع عائلاتهم وأولادهم وأصحابهم، لا سيما المناطق الحرجية البعيدة عن بيروت ذات الطبيعة الخلابة للتفيؤ بظلال الأشجار المعمرة، وبجانب الأنهر والشلالات وأعين المياه، فيعدون “التبولة” ويشوون اللحمة،  ويقضون النهار في أكل ولهو ولعب وغناء، في شكل من أشكال “السيران” كما كان يسميها البيارتة، التي باتت تعرف اليوم بـ “البيك نيك”، وذلك إشباعاً للنفس ليتسنى لها الإخلاص في العبادة.

عائلة بيروتية في حرش بيروت

تسميات مختلفة

وهذه النزهة التي إعتاد البيارتة منذ القدم على تسميتها “سيبانة”، فإنها تختلف من بلد إلى بلد، على الرغم من أن تقاليدها ومظاهرها متشابهة في كثير من المدن الاسلامية. إذ تسمى  هذه العادة “الشعبنة” في أرض الحجاز و”الشعبانة” في المغرب و”حق الليلة” في الإمارات وعُمان و”قريش” في الكويت و”الشعبونية” في فلسطين، و”ليلة الناصفة” في بعض أجزاء الجزيرة العربية.

أصل “السيبانة”

يشير  المؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري أن ظاهرة التنزّه قبل حلول شهر رمضان عرفت قديماً في المغرب بإسم “شعبانة”، لأنها كانت تقام في الأيام العشرة الأخيرة من شهر شعبان، خصوصاً وأن المغاربة يسمون ليلة التاسع والعشرين من شعبان “الليلة الكذابية” لأن رؤية هلال رمضان ليست مؤكدة في تلك الليلة. ويرجح المحامي فاخوري أن كلمة “سيبانة” باللهجة البيروتية، هي تصحيف لكلمة “شعبانة”، لأن قسم كبير من العائلات البيروتية أتت من المغرب العربي.

“الشعبانة” المغاربية

أما إذا إنتقلنا إلى بلاد المغرب العربي، فإن لـ”الشعبانة” مظاهرها وطقوسها. فالمغاربة يحرصون على إحياء “ليلة شعبانة”. فتقام الإحتفالات بالمناسبة التي يتخللها الأناشيد والمدائح والموشحات، فتراهم بزيهم التقليدي، جلباب وطربوش أحمر يشاركون في تلك الإحتفالات ينشدون وهم ينطربون لسماع الطرب الأندلسي الذي يتميزون به.

“الشعبنة” الحجازية

وتستمد تسمية “الشعبنة” من شهر شعبان. وإحتفال “الشعبنة” هو تراث شعبي حجازي بدأ بعد دخول قريش في الإسلام. فـ”الشعبنة” لا تزال حتى أيامنا هذه تفرض وجودها وتحول أواخر شعبان إلى ليلة لجمع شمل الأسر وذوي القربى والأصدقاء والأحباء والجيران وأبناء الفريج الواحد (الحي) لتوديع الفطر وإستقبال الصيام والقيام، وذلك من خلال إقامة المآدب وتقديم الأكلات الخاصة بالمناسبة، فضلاً عن مزاولة الألعاب والرقصات الشعبية والغناء الحجازي.

وكانت الأسر الحجازية تتحضر في تلك الأيام لإقامة المآدب في النهار أو ما تعارف عليه أهل الحجاز بـ”القيل”، حيث “تمتد سفر الطعام على الأرض بعد فرشها بالحنابل الحمراء في المزارع القريبة والمتاخمة لمكة”، وذلك هربا من حرارة الشمس اللاهبة.

“القريش”

ومع مرور الزمن تطورت هذه الإحتفالية في عدد من دول الخليج فصار يحتفل بالإستعداد لبدىء صيام رمضان بيوم “القريش”. وكلمة “القريش” في اللغة العربية تعني السخاء، (فيقرقش الإنسان) أي يسمع صوت النقود في جيبه، ومن هنا جاءت التسمية حيث كانت كل أسرة تجود أو “تقرقش” بما لديها من طعام وشراب، حيث إعتادت كل الأسر على حمل جميع أنواع الأطعمة المتوافرة في المنزل والذهاب بها إلى بيت كبير العائلة، للإحتفال بقدوم الشهر الفضيل.

“التكريزة” السورية

أما في سوريا يسمون هذه النزهة بـ”تكريزة رمضان”، وهي التسمية نفسها المستخدمة عند بعض المصريين، فيودعون شعبان إستسعدادأً للصيام ويقضون نهارهم بالأكل والشرب واللعب، وتختلف نوعية الطعام عما يؤكل في رمضان، ويفضلون الأكلات التي تحتوي على زيت الزيتون.

وكانت “التكريزة” تمتد أسبوعاً ويقومون باستئجار بيوت في الغوطة يقضون فيها الأيام الأخيرة من شعبان، وبعضهم كان يبدأ “التكريزة” في منتصف شعبان، ولا سيما إذا كان له أقارب في مناطق الإصطياف.

بهذه الأجواء المفعمة بالمحبة والمرح والسعادة كان الناس يودعون الأيام الأخيرةمن شهر شعبان، قبل حلول شهر رمضان المبارك، مستعدين لإستقباله بقلوب مملوءة بالتقوى والإيمان.

رؤية هلال رمضان

قلتُ والنـاسُ يـرقبونَ هــلالاً                        يُشبه الصَّبَّ مَنْ نحافةِ جِسْمِهْ

مَنْ يَكُنْ صائماً، فذا رمضانُ                        خَطَّ بالنُور للورى أول اسـمِه

في التاسع والعشرين من شعبان، يترقب المسلمون بشوق ولهفة السماء الرحبة الفسيحة، علّهم يلمحون تولد هلال شهر رمضان المبارك، فيتحقق أول شهر الصيام ويحق الصوم، والليلة التي يترقب فيها هلال رمضان تُسمى ليلة الرؤية. وما ان يشاهد المسلمون تولد هلال رمضان المبارك، حتى يبادروا بالدعاء إلى ربهم عز وجل، إسوة بنبيهم قائلين، “اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، اللهم إنا نسألك خير ما في هذا الشهر وخير ما بعده”…

ترقب الهلال

إن ثبوت شهر رمضان المبارك بالوجه الشرعي يقتضي إلتماس ولادة هلاله (الذي يعني أول ليلة والثانية والثالثة، قبل أن يتحول إلى قمر بعد ذلك حتى آخر الشهر)، وفقاً لتقويم الأشهر القمرية، وذلك عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين”.

لذلك، جردت العادة منذ العصور الإسلامية الأولى على خروج المسلمين في آخر شهر شعبان لرؤية هلال رمضان، حيث أن رؤية الأهلة إعتبرها الفقهاء من فروض الكفاية، لما يترتب عليها من الأحكام الفقيهة والشرعية، وكان الرسولۖ لا يأمر بصوم رمضان إلا بعد رؤية هلاله على التحقيق، أو بشهادة الواحد العدل.

يوم الشك

ومثلما هو معروف فإن الثلاثين من شعبان هو يوم شك، فإما أن يكون مكملاً له، أو يكون غرة رمضان، الأمر الذي دفع إبن الوردي إلى رسم هذا الموقف شعراً بقوله:

قلتُ هِلالُ الصيام ليس يُرى

 فلا تصُوموا، وارْضَوْا بقولِ ثِقهْ

فغالطوني حقَّقوا فرَأوا

وكل هذا من قوة الحَدَقَهْ

وعلى سبيل المداعبة نشير إلى هذه الواقعة الطريفة عن هلال رمضان، إذ أنه في ليلة ٢٩شعبان صعد الناس لرؤية هلال رمضان دون أن يروه، فلما همّوا بالإنصراف، شاهده صبي صغير وأرشدهم إليه، فقال له أحدهم: “بشّر أمك بالجوع المضني”…

الرؤية في بيروت من الأماكن المرتفعة

وكانت رؤية هلال رمضان تتم قديماً في ظاهر بيروت، أي خارج سورها، وتحديداً من المناطق  العالية والمرتفعة كمحلة رأس بيروت والأشرفية ورمل الزيدانية وشوران. فيتوجه الناس من أصحاب الإختصاص الذين يفقهون في عملية الإحتساب وفقاً للقواعد الشرعية والفلكية إلى تلك المناطق لتحري ولادة الهلال، فإن شاهده أحدهم يتوجه إلى المحكمة الشرعية للإدلاء شهادة الرؤية أمام قاضي بيروت الشرعي، الذي بدوره وبعد التأكد من صحة الشهادة، يسطر محضراً شرعياً بذلك، ويرسله إلى والي المدينة إعلاماً وإيذاناً ببدء شهر الصوم.فيأمر الوالي بإطلاق المدفعية التي كانت تنصب على تلة “القشلة”  (السرايا الحكومي حالياً) ٢١ طلقة إحتفالاً بالضيف العزيز الذي يحمل تباشير الخير وجليل الرحمات، ولإبلاغ من ينتظر تنسم أريجه بحلوله بعد إثبات رؤية هلاله، كما كانت ترفع البيارق على مآذن المساجد وتضاء مصابيحها.

بيت آل الخياط سنة 1933 على التلة التي كان يتحرى منها رؤية هلال رمضان (تلة الخياط). مائية بريشة عميد الرسامين اللبنانيين مصطفى فروخ

اللقاء العلمائي في دار الفتوى

أما في العصر الحديث، وبعدما إنتقلت سلطة إثبات رؤية هلال شهر رمضان إلى دار الفتوى، بعدما كان مناطاً بالمحكة الشرعية، وبعد أن ساهمت التكنولوجيا المتطوّرة والحديثة في عملية تحري وإثبات ولادة هلال شهر رمضان وفقاً لحسابات فلكية بواسطة الأقمار الاصطناعية المنتشرة في الفضاء الكوني، أو بواسطة المناظير المتطورة، وبالتالي تبادل المعلومات بين مختلف المرجعيات الدينية في سائر بلاد المسلمين بواسطة شبكات الإتصالات الحديثة، فإنه إستعيد عن الطرق والأساليب التقليدية التي كانت سائدة لترقب الهلال، بأن يجتمع سماحة المفتي في التاسع والعشرين من شعبان في بهو دار الفتوى يحيط به مفتتي المناطق ورؤساء المحاكم الشرعية والقضاة الشرعيين والعلماء الأجلاء، ويبقى على إتصال مع المراجع الإسلامية، لا سيما الأزهر الشريف في مصر المحروسة وهيئة كبار العلماء في بلاد الحرمين، إستبياناً لثبوت رؤية الهلال من عدمه، فيصدر عنه بيان رسمي بتحديد موعد الصيام.

إحتفالات الرؤية مصرية النشأة

لا بد من الإشارة إلى أن مصر الكنانة كانت السباقة في تنظيم إحتفالات الرؤية، حيث كانت الإحتفالات في مصر برؤية هلال رمضان تبدأ في يوم التاسع والعشرين من شهر شعبان وكانت الإحتفالات كبيرة وعظيمة على مدي التاريخ الإسلامي في مصر يحضرها وجهاء الناس وكبار رجال الدولة في العاصمة والمدن الكبري .

ويؤكد المؤرخ ابراهيم عناني  (عضو اتحاد المؤرخين العرب)، أنه في عام ١٥٥هـ خرج أول قاض لرؤية هلال رمضان وهو القاضي أبو عبدالرحمن عبدالله بن لهيعة الذي ولي قضاء مصر، لنظر الهلال، وتبعه بعد ذلك القضاة لرؤيته، حيث كانت تعد لهم “دكة” علي سفح جبل “المقطم” عرفت بـ “دكة القضاة”، يخرج إليها لإستطلاع الأهلة، فلما كان العصر الفاطمي بني قائدهم بدر الجمالي مسجداً له علي سفح “المقطم” إتخذت مئذنته مرصداً لرؤية هلال رمضان، كما سن الفاطميون أيضا ما يعرف “بموكب أول رمضان” أو “موكب رؤية الهلال”.

 وهذه العادة الحميدة إستمرت في العصر المملوكي، فكان قاضي القضاة يخرج لرؤية الهلال ومعه القضاة الأربعة كشهود ومعهم الشموع والفوانيس، ويشترك معهم المحتسب وكبار تجار القاهرة ورؤساء الطوائف والصناعات والحرف.

 وتم في هذا العصر نقل مكان الرؤية إلي منارة مدرسة المنصور قلاوون “المدرسة المنصورية” بين القصرين لوقوعها أمام “المحكمة الصالحية”، أي  “مدرسة الصالح نجم الدين” بالصاغة، فإذا تحققوا من رؤيته أضيئت الأنوار على الدكاكين وفي المآذن والمساجد، ثم يخرج قاضي القضاة في موكب تحف به جموع الشعب حاملة المشاعل والفوانيس والشموع حتي يصل إلي داره, ثم تتفرق الطوائف إلي أحيائها معلنة الصيام.

أما في العصر العثماني، فعاد موضع إستطلاع الهلال مرة أخرى إلي سفح “المقطم” فكان يجتمع القضاة الأربعة وبعض الفقهاء والمحتسب بالمدرسة “المنصورية” في بين القصرين, ثم يركبون جميعاً يتبعهم أرباب الحرف وبعض دراويش الصوفية إلي موضع مرتفع بجبل “المقطم” حيث يترقبون الهلال، فإذا ثبتت رؤيته عادوا وبين أيديهم المشاعل والقناديل إلي المدرسة “المنصورية”، ويعلن المحتسب ثبوت رؤية هلال رمضان ويعود إلي بيته في موكب حافل يحيط به أرباب الطرق والحرف بين أنواع المشاعل في ليلة مشهودة. 

وإستمر الأمر على ذلك حتي أمر الخديو عباس حلمي الثاني بنقل مكان إثبات رؤية الهلال إلى المحكمة الشرعية بباب الخلق.

هكذا كان يتم ترقب ورؤية هلال شهر رمضان المبارك في آخر شعبان من كل عام، فيمتزج الجانب الشرعي مع ما هو ذات طابع إحتفالي، فيعز الناس على إستحضارِ النَّوايا لاستقبالهِ استقبالَ الغائبِ المنتَظر، والحبيبِ العائدِ من سفر…

الإحتفال بقدومه

ينتظر العالم بأسره، بكثير من الشوق والحنين، قدوم شهر رمضان المبارك، ليحل عليهم ضيفاً عزيزاً، ويُدخل البهجة والسكينة إلى قلوبهم، وخصوصاً وانه يكتسب مذاقاً خاصاً، حيث تمتزج فيه الروحانيات والنورانيات مع عبق وقبس العادات والتقاليد والذكريات الرمضانية ذات الطابع التراثي.

لذلك يُستقبل شهر رمضان المعظّم في كافة البلدان والمدن العربية والإسلامية بحلة زاهية، وتُقام له الإحتفالات إبتهاجاً، وتنطلق المواكب ترحيباً…

قدم الإحتفال برمضان

وللدلالة على قدم الإحتفاء والإحتفال تعظيماً بالشهر العظيم يفيدنا الرحالة إبن جُبير عن إحتفالات المكييّن بقدوم شهر الصوم في وصف رحلته كيف كان أهل مكة يستقبلون رمضان المعظّم بقوله: “…وقع الإحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر المبارك، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نوراً وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقاً… وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارىء يصلّي بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعاً تخلع له النفوس خشية ورقة”…

من جهته إبن بطوطة وصف في رحلته إستقبال أهل مكة لشهر رمضان بقوله: “وإذا أهلّ هلال رمضان تُضرب الطبول والدباب عند أمير مكة، ويقع الإحتفال بالمسجد الحرام من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعل حتى يتلألأ الحرم نوراً، ويسطع بهجة وإشراقاً، وترّق القلوب وتهمل الأعين”…

الإحتفالات في بيروت

وبالعودة إلى مدينة بيروت، فإنها كانت تستقبل قدوم شهر رمضان الفضيل بحلّة زاهية، فتزدان شوارعها وزواياها وتضاء فيها المصابيح وتطلق الأسهم النارية ابتهاجاً وتشعّ أنوار مساجدها ترحيباً واحتفالاً بقدوم شهر الصوم والعبادة.

كذلك ما أن يعلن ثبوت شهر رمضان حتى كانت تنطلق الفرق والأفواج الكشفية بمسيرات استقبال للشهر الكريم، وكانت تطوف أحياء العاصمة تتقدمهم حملة الأعلام والمشاعل المضيئة ويرتدي أفرادها الزيّ الكشفي الموحّد على وقع الخطوات المنتظمة. وكان الأهالي ينثرون عليهم الزهور والأرزّ وماء الزهر والورد. وفيما بعد أصبحت المسيرات الكشفية أكثر رونقاً وبهجة في نفوس الأهالي، بعدما صارت تصاحبها الفرق الموسيقية، فتمتزج مشاعر الغبطة بقدوم شهر رمضان بين مختلف شرائح الناس في واحدة من أبرز المظاهر الاحتفالية التي كانت تتكرر كل سنة مع إطلالة شهر الخير والبركة. 

الألعاب النارية

من العادات والتقاليد التي جرى عليها الناس إحتفالاً بشهر رمضان المبارك وبأعيادهم المجيدة في بيروت ظاهرة إطلاق الأسهم النارية وإستخدام المفرقعات، تعبيراً عن سعادتهم وبهجتهم برمضان والأعياد وللفت الأنظار بإحتفالهم به على طريقتهم الخاصة ولإعطاء العيد نكهة وخصوصية تميزه عن باقي أيام السنة.

وللدلالة على قدم عادة إطلاق الأسهم النارية خلال العيد نشير إلى ما ذكره الرّحالة الفرنسي بيروكيه الذي زار بلادنا عام 1433 ووصف الإحتفال بالعيد بقوله:

رأيت في بيروت المسلمين يحتفلون بعيدهم على  طريقتهم التقليدية، فيبدأ الإحتفال مساءً عند الغروب بالأناشيد وتطلق مدافع القلعة قذائفها والناس يطلقون عالياً في الفضاء صواريخ يفوق حجم الواحد منها حجم أكبر فانوس عرفته.

تفجير “الديناميت” في الهواء

بالإضافة إلى إطلاق الأسهم النارية، جرت العادة في الماضي عند الإعلان عن ثبوت شهر رمضان وعيد الفطر أن يعمد عدد من “قباضايات” بيروت أصحاب الشهرة الواسعة على تفجير أصابع من “الديناميت” في الجو، خصوصاً في المناطق المطّلة على البحر لخلوها من المارة، وذلك للتعبير عن مشاركتهم بالعيد على طريقتهم ولإعطاء الإنطباع للناس على مكانتهم المميزة بالمجتمع، لأن تفجير “الديناميت” لا شك هو من المحظورات. ويروى في هذا المجال إلى أن أحد “القباضيات” في محلة عين المريسة كان يصعد إلى مئذنة مسجدها لإطلاق وتفجير أصابع “الديناميت” من أعلاها.

المواكب السيارة

إلا أنه ومع مرور الزمن، إندثرت الإحتفالات الكشفية لتحل مكانها خلال الأعوام الماضية المواكب الرمضانية السيارة التي تجوب الشوارع والمناطق على متنها مجسمات تمثل معالم تاريخية وتراثية مُطلقة العنان للأغاني الخاصة بالشهر الكريم، لا سينا أغناني المبدع أحمد قعبور، وتقلُّ الأطفال الذين يرتدون ثياباً تراثية جميلة كثياب المسحراتي والعروس المكللة بتاج من الورود والأزهار ويحملون الأعلام ملوحين بها ويوزعون إبتساماتهم البريئة على المواطنين المنتشرين على الأرصفة وشرفات المنازل، فيضيفون أجواء البهجة والفرح والتنفاؤل بقدوم شهر الخير والمبرات. ويعود الفضل لهذه الظاهرة الرمضانية في أرجاء العاصمة بيروت لمؤسسة الرعاية الإجتماعية دار الأيتام الإسلامية، مما يضفي على المدينة طابعاً رمضانياً زاهياً، يعود بذاكرة أهلها إلى الماضي الجميل، ويحفظ هويتها التراثية الخلابة.

تاريخ المواكب الإحتفالية

والمواكب الإحتفالية بقدوم رمضان التي تُعرف “بمواكب الرؤية” أو “مواكب الركبة” والتي غدت من العادات الرمضانية، ترجع إلى عهد الخلفاء الفاطميين في مصر، وتحديداً سنة (362 هـ – عام 972 م) مع قدوم الخليفة المعز لدين الله.

وكان موكب الخليفة يبدأ من بين القصرين (شارع المعز بالصاغة الآن) ويسير في منطقة الجمالية حتى يخرج من باب الفتوح (أحد أبواب سور القاهرة الشمالية) ثم يدخل من باب النصر عائداً إلى باب الذهب (بالقصر)، وفي أثناء العودة توزع الصدقات على الفقراء والمساكين.

وكانت تُصاحب الموسيقى المواكب وتصدح بأنغام قوية وتحوي بين آلاتها أبواقاً خاصة لا تعزف إلا بمصاحبة الخليفة، كما انتشر في كل مكان الأعلام التي تحمل عبارات النصر على أسنة الرماح، وكان الناس يحتشدون على جانبي الطريق لمشاهدة موكب الخليفة وإلقاء التحية عليه وتهنئته بشهر الصوم.

 التهاني بقدوم رمضان

ومن المظاهر المحببة أنه وفور الإعلان عن وقوع شهر الصيام حتى يُقبل الناس على تهنئة بعضهم بعضاً ويتبادلون التبريكات. حتى أن الأدباء والشعراء كانوا يهنئون الأمراء والولاة بنظم الأبيات الشعرية والقطع النثرية التي تتضمن التهاني بالشهر الفضيل. ومن هذه الأبيات نختار ما نظمه الصقيلي لأحد الأمراء:

صُمتَ للهِ صَومَ خَرْقِ هُمَامٍ مُفطّر الكَفايا بالعَطايا الجِسًامِ

أطلعَ اللهُ للصـيامِ هِـلالاً ولنا منْ عُلاكَ بـدرَ تَـمَـامِ

كذلك نختار من ينابيع الأدب العربي هذه الأبيات التي بعث بها أحد الشعراء مهنئاً صديقه:

شهرُ الصيام جرى باليُمْنِ طائرُهُ ودامَ قصرُكَ مرفوعاً مجالسُهُ

عليكَ ماجـدً باديهِ وحاضـرهِ لزائـريهِ ومنصوباً موائـدهُ

إنارة المساجد والزينة في رمضان

من المظاهر الإحتفالية بشهر رمضان المبارك التي تصاحب إعلان ثبوت رؤية هلاله أن يزيد ويُكثر المسلمون من إنارة المساجد، حيث كانت الأنوار تتصل بين مآذن ومنارات المساجد والجوامع وتُضاء المصابيح والأنوار والفوانيس، مما يُدهش الناظر ويسر الخاطر، وتُصبح ليالي شهر النور بالضياء باهرة وبالعطور ساحرة، مثل النجوم الساطعة في السماء الصافية…

بيروت كانت تتلالأ بالأنوار الرمضانية:

 بيروت كسائر المدن العربية والإسلامية كانت تكتسي الحلة الرمضانية، حيث تضاء مساجدها وزواياها الشريفة بالمصابيح والقناديل، فيصبح ليلها الرمضاني مشعاً متلألئاً  كالقمر المكتمل ليلة التمام. كما كانت تتزيّن الساحات العامة والأحياء بالأعلام والأضواء  وسعف النخيل الأخضر، وتنصبّ على مدخل دار الإفتاء وأبواب المساجد أقواس النصر، وترفع يافطات الترحيب برمضان والمتضمنة بعض الآيات القرآنية الكريمة من وحي المناسبة.

© Beirut Heritage Society

 ويشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري في هذا السياق الى أنه في بيروت أذنت الأوقاف سنة 1909 لمدير أوقاف ولاية بيروت الحاج عبد اللطيف حمادة إبن عبد الفتاح آغا، بتنوير الجامع العمري الكبير وجامع السارايا وجامع النوفرة بالغاز الهوائي.

 جدير ذكره أيضاً إلى أنه درجت العادة أيضاً خلال الحقبة العثمانية أن تزدان دار الولاية والسرايا والقشلة والمؤسسات الرسمية بكافة أنواع الزينات، حيث يشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري الى أنه في بيروت فقد أذنت الأوقاف سنة 1909 لمدير أوقاف ولاية بيروت الحاج عبد اللطيف حمادة إبن عبد الفتاح آغا، بتنوير الجامع العمري الكبير وجامع السارايا وجامع النوفرة بالغاز الهوائي.

وأحد أبرز أشكال الإحتفال بشهر رمضان التي كانت سائدة قي بيروت  هو تزيين المناطق والشوارع  بسلاسل وحبال اللمبات المضيئة والتي تضم الكثير من الألوان والحركات الضوئية التي تمتد لمئات الأمتار، وتتصل من منزل لآخر ومن شارع لشارع، ويتشارك أبناء “الحي” بمبادرة فردية منهم وعلى نفقتهن في تحضير زينة رمضان وتركيبها كإحدى أشكال التعاون التي كانت سائدة بين أبناء المنطقة الواحدة.

أول زينة رمضانية في عهد الخطاب:

إن الخليفة عمر بن الخطّاب حينما شرع بصلاة التراويح، كان أول من أمر بإنارة الجوامع وتزيينها بالقناديل بدءً من اليوم الأول من الرمضان، حتى يتمكن المسلمون من إقامة صلاة التراويح وإحياء شعائرهم الدينية بشكلٍ سلس من جهة، وإستقبالًا للشهر الكريم بحلّةٍ جميلة من جهةٍ أخرى، حيث كانت الأنوار تتصل بين مآذن ومنارات المساجد والجوامع إلى أن تصبح ليالي رمضان ملآى بالأضواء البراقة.

وقد ذكر أنّ عمر بن الخطاب أول من علق القناديل على سور ساحة الكعبة للإنارة ليلا.

الرشيد يحث على إكثار المصابيح:

وقد ذكر أحمد بن يوسف الكاتب العباسي أن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد أمره بأن يكتب ليحثّ الناس بالإكثار من المصابيح في شهر رمضان، وتعريفهم ما في ذلك من فضل.

السلطان أحمد يأمر بإنارة المساجد في العهد العثماني:

أما في العهد العثماني، فيُشار إلى أنّ أول من أمر بإنارة الجوامع والمساجد احتفالًا برمضان، كان السلطان أحمد، وذلك في عام 1617 للميلاد، فأضاء أنوار المصابيح والمشاعل التي اعتلت مختلف قبب ومآذن جوامع إسطنبول على كثرة عددها، حتى بدت المدينة وكأنها مرشوشة بالنجوم النيّرات.

ليالي الوقود في مصر:

أما عن تاريخ زينة رمضان فإنها وجدت طريقها إلى الإحتفالات الدينية فى مصر منذ العصر الإسلامى، حيث كان يطلق عليها “ليالى الوقود”، ويقوم الناس برفع القناديل والفوانيس فوق المآذن ساعة الإفطار ويتم إنزالها يومياً عند ساعة الإمساك.

وكان المحتسب “راعى شئون الشارع” يأمر أصحاب المحلات بوضع قناديل على محلاتهم لإضاءة الشوارع، كما يأمر بتنظيف الشوارع حتى يجتمع الأهالى بها بعد الإفطار ليشهدوا الأغانى الدينية فى حب رسول الله.

كما عرف عن حاكم مصر “ابن طولون” حين بنى مسجده الضخم في القطائع، علّق بسقفه السلاسل النحاسية المفرغة والقناديل المحكمة، وأن الحاكم الفاطمي بأمر الله أمر سنة 403 هـ/1012م أن يزين مسجد عمرو بن العاص بقناديل فضية، عددها 700 قنديل، زنة تلك المصابيح خمسة وعشرون قنطاراً من الفضة، كل قنطار وزنه مئة رطل، وكل رطل زنة 144 درهماً فضياً، حتى ان العمال حينما حاولوا إدخال هذه القناديل إلى المسجد لم يتسع لها أي باب من أبواب المسجد لعِظَمها، فهدموا أحد الأبواب توسيعاً للمصابيح ثمّ أعادوا الباب إلى مكانه الأول.

فما أن يحلّ الشهر الكريم، فذلك يعني أن تضاء القلوب بنور الرحمة، وأن تصير الليالي المباركة موئلاً للأنس والفرح، وأن تتلون الأماسي الزاهية ببهجة اللقاء، فتخرج الفوانيس والقناديل والزينات من مخابئها إلى الملأ، لتزيل عن الليل عتمته المقيمة، وتنقي القلوب من ظلمة مستبدة، ولتتنور النفوس والقلوب بنور الإيمان.

فوانيس رمضان

ونجم من الفانوس يشرق ضوؤه

ولكنــــه دون الكواكــــب لا يسري

ولـــم أر نجمًا قـــط قبل طلوعـه

إذا غاب ينهى الصائمين عن الفطر

الفوانيس هي واحدة من أبرز الملاح الإحتفالية التراثية التي تميز شهر رمضان المبارك. لدرجة أنه يمكن القول أن رمضان والفانوس هما توأمان لا ينفصلان، لا سيما أنه يضيء ليالي الشهر الكريم بالأنوار الساطعة والأضواء المتلألئة، ويبدد جيش الظلام، ويبعث الفرحة والبهجة في نفوس الصغار والكبار على حد سواء.

فرمضان بيروت كغيره من المدن العربية والإسلامية، يجعل من فانوس رمضان رمزاً فولكلورياً  وتراثياً للشهر الفضيل، حيث يشكل أساساً للزينة الرمضانية في الساحات والشوارع والمطاعم والمنازل، فضلاً عن أن الأطفال كانوا يعتبرونه بمثابة “بابا نويل رمضان” يحملونه ويطوفون به مرددين الأغاني الرمضانية في جو إحتفالي ولا أروع..

معنى الفانوس:

معنى كلمة فانوس وأصلها يعود إلى اللغة الإغريقية التي تعني أحد وسائل الإضاءة، كما يطلق على الفانوس في بعض اللغات اسم “فيناس”، ويذكر أحد المؤلفين ويدعى الفيروز أبادي مؤلف كتاب القاموس المحيط إلى أن أصل معنى كلمة فانوس هو (النمام) لأنه يظهر صاحبه وسط الظلام.

وهناك بعض المؤرخين يؤكدون أن الفانوس كلمة فارسية تعني المشاعل. ففي صدر الإسلام لجأ الناس إلى الفانوس لإنارة الطريق أثناء الذهاب إلى المساجد ليلاً ولتسهيل التزاور.

إرتباط الفانوس برمضان:

بحسب كتاب «الأنامل الذهبية» للفنان الدكتور عز الدين نجيب، فإن أغلب المؤرخين ذهبوا بأن بداية الفانوس كعادة رمضانية، ارتبطت بفترة حكم الفاطميين لمصر، التى استمرت لقرنين من الزمان بداية من القرن الرابع الهجرى.

وتذهب بعض الآراء، إلى أن الاحتياج لاستخدام الفوانيس، نشأ  أثناء الحكم الفاطمى لمصر، الذى شهد مزيدا من الترابط الاجتماعي بين المصريين ،وأنه نظرا لارتباط الشهر الكريم بتبادل الزيارات بين العائلات فكان يسمح للسيدات بالخروج فى لياليه للقيام بزيارات لأقاربهن أو أقارب أزواجهن والعودة فى ساعة متأخرة من الليل، وكان لابد للسيدات من سراج ينير لهن الطريق عند الذهاب والعودة، فكان الأطفال يرافقونهن بالفوانيس إلى مكان الزيارة بدلا من المشاعل التى تتعرض للإنطفاء فى مواجهة الريح، ثم يبدأ الأطفال بعد ذلك ألعابهم على أضواء هذه الفوانيس فى الشوارع والساحات، حين يحين وقت العودة مع أهلهم إلى المنازل.

فيما تقول آراء أخرى إن بداية استخدام الفوانيس كانت مع قدوم الخليفة المعز لدين الله الفاطمى لأول مرة إلى القاهرة ليلا فى الخامس من رمضان عام 358هـ، فاستقبله أهل القاهرة بالمشاعل والفوانيس فبهرته هذه الاحتفالية وأوصى بأن تتكرر مع مقدم رمضان من كل عام، وأن تقام فى لياليه حلقات الذكر والاحتفالات الشعبية التي كان الفاطميون يشجعونها، وهكذا أصبح الفانوس رمزا ثابتا لدخول رمضان كل عام منذ ذلك الحين.

وتشير بعض المراجع إلى أن أول استخدام دائم للفوانيس في شهر رمضان كان فى أيام الوزير بهاء الدين قراقوش، القائم بأعمال قصر السلطان فى عهد صلاح الدين الأيوبى، حيث أمر الناس أن يعلقوا الفوانيس على بيوتهم كل ليلة ابتهاجا بالشهر الكريم.

وهناك رواية أخرى تعود باستخدام الفانوس إلى عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، وقد كان مُحرَّماً على نساء القاهرة الخروج ليلًا، فإذا جاء رمضان سُمِحَ لهن بالخروج بشرط أن يتقدّم السيدة أو الفتاة صبي صغير يحمل في يده فانوساً مضاءً ليعلم المارة في الطرقات أنّ إحدى النساء تسير فيُفسحوا لها الطريق، وبعد ذلك اعتاد الأطفال حمل هذه الفوانيس في رمضان.

لكن الدكتور عز الدين نجيب أكد أن وجود الفانوس كنوع فنى كان فى الحقيقة سابقا لعهد الفاطميين فى مصر، إذ أنه كان عنصرا ملازما للعمارة الإسلامية، مثل مسجد أحمد بن طولون وقصور الأمويين بالقاهرة بأشكال مختلفة ما بين القنديل الزجاجى المنقوش بالآيات القرآنية، والفانوس النحاس المحفور أو المفرع بالوحدات الزخرفية، كما كان يستخدم فى الإضاءة المنزلية بأشكال مبسطة.

صناعة الفوانيس وأسماؤها:

وتتم صناعة الفانوس بخامات معينة لم تتغير مع تعاقب السنوات هي الزجاج، الصفيح، القصدير، النحاس الأحمر، الصباغ والألوان وبإستخدام أدوات رئيسية هي القونية للحام وكاوية النحاس، ولكل فانوس شكل معين واسم يميزه فهناك نوع السهارى، المقريض، البرلمان، تاج الملك، بولاد، وأيضاً فانوس الملك فاروق لأنه صُنع بهدف الإحتفال به. وتختلف أحجام الفوانيس وفقاً لنوعها واستخداماتها، إذ يبدأ الحجم من 10 سم، وهو الحجم الذي يناسب الأطفال، بينما تصل بعض الأنواع إلى 7 أمتار “كنوع بولاد” وتعلق هذه الأحجام عادة في واجهة المطاعم والفنادق والمتاجر الكبيرة.

ومثلما تتنوع الأنواع والأحجام تتنوع الأشكال أيضا، فهناك المربع والمدور والمسدس، وجميع الأشكال تحمل الروح نفسها والحس الإسلامي والزخرفي نفسه، أما الألوان فتكون عادة الأحمر والأزرق والبنفسجي والأخضر.

أَحبِبْ بِفَانُوسٍ غَدا صاعِداً وَضْوؤُهُ دانٍ مِنَ العينِ

 ففي رمضان يجد الضوء مرتعه، تزهو الفوانيس التي تخرج من مخابئها إلى الملأ، لتزيل عن الليل عتمته المقيمة، وتنقي القلوب من ظلمة مستبدة، ويتَقد نورها مرحبة بالضيف الكريم، وترتفع فوق الأيدي الحانية لتبعث ظلالاً مشرقة في الأرجاء وفي النفوس أيضاً…

مدفع رمضان

مدفع رمضان المصاحب لآذان المغرب والفجر، هو أشبه بلوحة تراثية تختزل حنيناً وشوقاً إلى زمن جميل وأيام الخوالي.

فأبناء هذا الزمن يطربون لسماع دوي مدفع رمضان، لأنه يحمل الكثير من المعاني الإنسانية والتاريخية، بإعتبار أنه أصبح تقليداً رمضانياً، تحرص غالبية الدول العربية والإسلامية على التمسك به، خصوصاً وأن دويه يدخل الفرح إلى قلوب المؤمنين المجتمعين قبيل موعد الإفطار حول المائدة، وألسنتهم تدعو ربهم بتقبل صيامهم وقيامهم.

مدفع بيروت:

خلال القرن الماضي وفيما كان عدد سكان بيروت يزيد ويكثر برزت حاجة ملحة الى وسيلة ليعرف الناس حلول شهر رمضان المبارك للتهيؤ لفريضة الصوم، إضافة الى تعريفهم أيضاً بموعدي الإفطار والإمساك، لا سيما أن بيروت في تلك الحقبة لم تكن قد عرفت بعد جهاز “الراديو” الذي دخلها أول مرة سنة 1928.

لذلك ارتأت الدولة العثمانية أيام إبراهيم باشا إستحداث مدفع في ولاية بيروت،  وأن غرض إطلاق المدفع هو إعلام الناس أن حلول شهر رمضان المبارك ثبت بالوجه الشرعي.

فمساء يوم 29 شعبان أو مساء الثلاثين، كانت تطلق من فوهة المدفع 21 طلقة تبشيراً برؤية الهلال وكان يطلق العدد نفسه من الطلقات عند ثبوت هلال شهر شوال إحتفالاً باستقبال عيد الفطر السعيد. كذلك كان يطلق منه 21 طلقة مساء التاسع من ذي الحجة إجلالاً لحلول عيد الأضحى المبارك، لذلك أطلقت على هذا  المدفع تسمية “مدفع رمضان والعيدين”.

موقع ومواصفات المدفع:

وكان موقع المدفع أيام الدولة العثمانية بحسب ما يشير المؤرخ عبد اللطيف فاخوري في الثكنة العسكرية الواقعة على الرابية المطلة على بيروت، عند ما يعرف اليوم بمجلس الإنماء والإعمار. وكان يشرف على إطلاق المدفع ميقاتي من الأوقاف آنذاك، فيسحب من جيب سترته ساعة معلقة “بكستك” ذهبي، تبين إشارة إطلاق المدفع، فيحدث دوياً ترتج له المدينة الصغيرة.

ومدفع رمضان كان له دولابان كدواليب العربات، وقذيفته حشوة قماش كتان محشوة باروداً. وكان هذا النوع من المدافع تجره البغال من مركزه في ثكنة مار الياس (ثكنة الحلو الآن) ودام هذا الأسلوب حتى العام 1923.

كان الجيش العثماني يتولى مهمة إطلاق المدفع من أعلى ربوة في بيروت آنذاك وكانت تعرف بمنطقة “الثكنات” أي ما بين السرايا الحكومية ومجلس الإنماء والإعمار الآن.

وكما أشرنا، كان المدفع طوال شهر رمضان المبارك يطلق طلقة وقت الغروب، فور شروع المؤذن في رفع الأذان من أعلى مآذن المساجد، قبل أن تكون قد تزودت مكبرات الصوت كما في زمننا، إعلاناً بحلول وقت الإفطار، كذلك كانت تطلق من فوهة المدفع طلقة حين موعد الإمساك قبيل مطلع الفجر.

وعند انفجار قذيفة المدفع بعد إطلاقها باتجاه البحر، كانت تحدث دوياً قوياً ترتج له بيروت المدينة الصغيرة آنذاك.

نقل المدفع إلى تلة الخياط:

لكن بعد العام 1935، أي بعد 17 سنة على دخول جيوش الحلفاء وانقضاء الدولة العثمانية اتسعت مدينة بيروت جنوباً وغرباً، وظهرت أحياء جديدة كانت تعرف خلال الحقبة العثمانية بظاهر بيروت أي الأحياء الواقعة خارج السور.

وعليه، قررت المفوضة العليا الفرنسية التي كانت تشرف على هيئة شؤون الإفتاء والأوقاف الإسلامية بصفتها جزءاً من الدولة، وبعد مشاورة مفتي بيروت وعلمائها نقل مدفع رمضان والعيدين الى منطقة تراعي المتغير، فآختارت  محلة تلة الخياط التي كانت تطل على معظم أحياء بيروت بسبب إرتفاعها عن باقي المناطق، فأشرف على المدفع وإطلاقه رجال القناصة اللبنانية (جيش الشرق)، وعُين المايجور المتقاعد غيناردي مسؤولاً عنه، ومن بعدهم الجيش اللبناني بعد الاستقلال.

وبقي إطلاق مدفع رمضان والعيدين قائماً قبيل الحوادث اللبنانية عام 1975، ولكن من منطقة تلة الخياط، التي تعد أعلى مرتفع في بيروت.

ولكن خلال الحرب التي عصفت بلبنان ، لأنه كان يتعذر التمييز بينه وبين المدافع التي كانت تستخدم للأغراض العسكرية!

بعد نهاية الحرب الأهلية العام 1990، أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً قضى بإعادة العمل بمدفع رمضان في الأول منه العام 1995، ولأن المدافع الحديثة يجب إبعادها عن تجمعات السكان كون مساحة بيروت وضواحيها قد تضاعفت، جرى استحداث مربض خاص لأحد مدافع الجيش اللبناني قرب السفارة الكويتية في بئر حسن، وتم توجيه المدفع ناحية البحر.

أصل مدفع رمضان:

وإذا أصبحت طلقات مدفع رمضان التي هي أشبه بنجمات غروبه وليله وفجره، مجرد إحياء لواحدة من التقاليد الرمضانية المحببة عند الناس، فإنها كانت في الماضي حاجة وضرورة ملحتين لإعلام الصائمين بمواعيد الإفطار والسحور والإمساك، لأنه كان في ذلك الوقت الوسيلة الوحيدة المتاحة للإستدلال على تلك المواقيت.

وبالرغم من تضارب الروايات التاريخية حول أصول نشأة تقليد مدفع رمضان، إلا أن المؤكد أن بداية الفكرة كانت مصرية المنشأ.

فهنالك دراسات تاريخية تشير إلى أن تقليد مدفع رمضان بدأ عام 1811 في زمن والي مصر محمد علي باشا، حينما إمتلك جيشه مدافع حديثة الصنع، فأمر بإحالة القديمة إلى المستودعات ووضع واحد منها في القلعة كتذكار لإنتصاره. وصودف في أحد أيام رمضان أن أطلقت من القلعة طلقة مدفعية مع آذان المغرب، فظن المصريون أن هذا كان لإبلاغهم بحلول موعد الإفطار، فابتهجوا لذلك وسيّروا المواكب لشكره. ومنذ ذلك الحين أمر والي مصر بإطلاق المدافع مع آذان المغرب وعند الإمساك، حتى أصبح تقليداً متبعاً خلال شهر رمضان المبارك.

في مقابل ذلك هناك رواية تشير أن فكرة مدفع رمضان قد سنها الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت حينما كان يحتل مصر، حيث أراد أن يقوم بعمل ما يرضي به أهلها، فأمر بنصب المدافع على قلعة القاهرة وتطلق منها قنابل البارود، إيذاناً بحلول شهر رمضان المبارك، ليصبح فيما بعد تقليداً متبعاً في رمضان.

وثمة رواية أخرى تشير إلى أن ضرب مدفع رمضان ولدت مصادفة في مصر في عهد المماليك، حيث أنه مع غروب أول أيام شهر رمضان من عام 865 للهجرة رغب السلطان المملوكي “خوش قدم” في تجريب مدفع كان تلقاه كهدية من صاحب مصنع ألماني، وتصادف ذلك وقت الغروب، فظن الناس أنه تنبيه لهم بدخول وقت الإفطار، فخرجوا بعد الإفطار لشكره. ولما رأى سرورهم، قرر المضي بإطلاق المدفع كل يوم إيذاناً بالإفطار.

كما أن هناك رواية أخرى، فتعود إلى عصر الخديوي إسماعيل، حيث كان جنود الخديوي يُنظفون المدافع الحربية الموجودة بالقلعة، فانطلقت بالخطأ قذيفة من المدفع وقت غروب الشمس في رمضان، فاعتقد الشعب أنه تقليد حكومي جديد واستحسنوه.

وعندما علمت ابنة الخديوي الأميرة “فاطمة” بالأمر، أعجبت بالفكرة، وأصدرت أوامرها بأن تُطلق قذيفتين يوميا: الأولى وقت الإفطار، والثانية لحظة الإمساك، ومنذ ذلك الحين ارتبط المدفع بنجلة الخديوي إسماعيل فسُمِّي “مدفع الحاجة فاطمة”.

بالرغم من أن وسائل الإعلام والمساجد المنتشرة والمزودة بالأجهزة الصوتية تُدخل الآذان إلى كل بيت، فإن الإستماع إلى دوي مدفع رمضان بكل شغف هو من الأجواء الرمضانية المحببة، لأن لهذا المدفع حضوره الإنساني الحميم في الذاكرة الشعبية وجزءاً من تراث رمضان المتوارث.

السحور

الصائمون  ما إن يسمعوا نقرة طبلة “المسحراتي” ومناداته لهم: “قوموا على سحوركم إجا رمضان يزوركم”، حتى يستجيبوا لندائه ويستيقظوا من نومهم لتناول وجبة السحور، التي هي عبارة عن “وقعة” من الطعام الخفيف تساعدهم ليوم تالي من الصوم يحبسون فيه شهواتهم ورغابتهم عن الطعام والشراب. 

وأكثر ما كان يسر ويفرح لسماع صوت “المسحراتي” هم الأطفال، خصوماً إذا ما سمعوه يناديهم بأسمائهم (بطلب من أهاليهم) لتدريبهم على الصيام، حينما كانت بيروت بمناطقها وأحيائها وحارتها يلتم فيها أهلها وأبناؤها، فينهضون من فراشهم، رغم أن النعاس مخيم عليهم، ويتوزعون مسرورين وفريحين إلى جانب أهاليهم ويشاركونهم سحورهم، وسط حالة من الألفة العائلية، التي هي من ميزات الشهر الكريم…

فالسحور إذن، من العادات والتقاليد الرمضانية التي إعتاد عليها الصائمون، لا سيما وأنها مناسبة وفرصة لإلتئام أفراد العائلة، لذلك ما زالوا حتى يومنا هذا يحرصون عليها طيلة الشهر الفضيل المفعم بالتقوى والإيمان والطاعات والحرص على صلة الرحم…

عائلة بيروتية في شهر رمضان سنة 1935 لمصطفى فروخ

‏‎معنى السحور:

أصل الكلمة من سَحَر، والسحر هو آخر الليل، ويمسك عن الطعام في وقت السحر، إذا تبين المسلم الفجر الصادق لقول الله تبارك وتعالى:

( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) 

والسحور كمصطلح ما يتسحر به، وهو الأكل والشرب في السحر إستعداداً للصوم، وكذلك السحور هو الأكل قبيل الإمساك.

‏‎وقد حدد المسلمون في عهد النبي فترة السحور، أي جواز الأكل والشرب بآذان بلال، وعرفوا الإمتناع عنهما بآذان أم مكتوم، فالسحور والإمساك هما بين صوتي بلال وإبن أم مكتوم.

‏‎والسحور ورد في الحديث الشريف بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: “تسحّروا ولو بجرعة ماء”.

‏‎وورد في حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “فعل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور”. الفطور والسحور كلمتان تذكران طيلة أيام رمضان المبارك، إذ هما موعد بدء الإفطار والإمساك عن تناول الطعام قبيل صلاة الفجر بعد أن يستيقظ الصائمون في آخر الليل ليسدوا به رمقهم لليوم التالي من صيامهم.

بركة السحور:

‏‎وسبب حصول البركة في السحور، أن هذه الوجبة تقوي الصائم وتنشطه وتهون عليه الصيام، إضافة إلى ما فيه من الأجر والثواب بامتثال هدي رسول الله “صلى الله عليه وسلم”.

‏‎ومن المهم تأخير هذه الوجبة قدر الإمكان إلى قبيل أذان الفجر حتى تساعد الجسم والجهاز العصبي على تحمل ساعات الصوم في النهار، كما أن ذلك هو السنة، وقد كان أصحاب النبي “صلى الله عليه وسلم” يؤخرون السحور، كما روى عمرو بن ميمون حيث قال: “كان أصحاب محمد “صلى الله عليه وسلم” “أعجل الناس إفطاراً وأبطأهم سحوراً”.

‏‎ومن بركات السحور أن فيه تقويةً على الطاعة، وإعانةً على العبادة، وزيادةً في النشاط والعمل؛ ذلك لأن الجائعَ الظامئَ يعتريه الفتور، ويَدِبُّ إليه الكسل.

سحور المكيين:

‏‎الرحالة العربي الأندلسي ابن جبير الكناني وفي معرض حديثه عن شهر الصيام بمكة المكرمةأشار  إلى سحور أهلها مكة، ونقل أيضاً ما كان يؤديه المؤذن الزمزمي من نداءات لتسحير صائمي مكة المكرمة للإمساك عن طعام السحور في صومعته بالحرم الشريف فيصفها بقوله: “والمؤذن الزمزمي يتولّى التسحير في الصومعة “المنارة” التي في الركن الشرقي من المسجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعياً وذكراً ومُحرِّضاً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عُود كالذراع، وفي طرفيه بَكرتَانِ صغيرتانِ يُرفَع عليهما قنديلانِ من الزجاج كبيران لا يزالانِ يَقِدَانِ مُدّة التسحير”. ثم يضيف ابن جبير: “فإذا قرُبَ تبين خيطي الفجر ووقع الإيذان ـ الأذان ـ بالقطع مرّة بعد مرّة حطّ المؤذن المذكور القنديلينِ من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان، وثوّبَ المؤذنون من كل ناحية بالأذانِ. وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممّن يبعد مسكنه من المسجد يُبْصِر القنديلينِ يَقِدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يبصرهما عَلِمَ أنّ الوقت قد أنقطعَ”.

وجبة السحور:

وجبة السحور تكون وجبة خفيفة، خالية من المأكولات الدسمة، حتى لا تتسبب في اليوم التالي بالإزعاج والظمأ للصائم. فهي في الغالب تعتمد على الأجبان والألبان مع كوب من الشاي وبضعة قطع من الخيار والبندورة والزيتون البلدي، ومن الممكن أن يتخللها “الخشاف” الذي هو عبارة عن المشمش الجفف المنقوع مع شراب “القمر الدين” وفيه القوبات من لوز وصنوبر وكذلك الزبيب، في حين بعض الصائمين يتعمدون تناول الفول المدمس بزيت الزيتون، بحجة أنه يزودهم بالطاقة لليوم التالي.

‏‎وبعد وقعة السحور يشربون جرعة ماء ويمتنعون بعدها عن تناول أي شيء وينوون الصيام لوجه الله تعالى يوم غد من رمضان إيماناً وإحتساباً مع إطلاق مدفع الإمساك إيذاناً ببدء الصيام، ثم يرفع آذان الفجر فيؤدون صلاتهم إما في المنازل أو في المساجد التي تبقى مضيئة أنوارها ومصابيحها حتى إتمام الصلاة لتطفأ بعدها حتى غروب اليوم التالي.

على هذا النهج البديع المحبب يمر شهر رمضان بأيامه ولياليه على طاعة الله ومغفرته، مكرساً الجذور الإيمانية عند الصائمين ومرسخاً أواصر الألفة والمحبة بين الناس على قاعدة الترابط والتواصل الإجتماعي القائمة على الفضيلة والعمل الصالح.

المسحراتي

“يا نايم وحد الدايم، يا نايم وحد الله…

قوموا على سحوركن، اجا رمضان يزوركن…

رمضان كريم… رحمن رحيم…

يا صايم… بتلقى السعادة، بتلقى النعيم…

رمضان كريم… رحمن رحيم..

من منا لا تسحره هذه العبارات التي كان يرددها “المسحراتي” بصوته الجهوري الجميل في حارات وأزقة بيروت وهو ينقر على طبلته التي لاتفارقه، موقظاً الناس للسحور، لتعيده إلى ذلك الزمن الذي كنا نشعر فيه حقيقة بأجواء رمضان بنورانياته ونفحاته وأجوائه الإيمانية الساحرة؟

ف”المسحراتي” ظاهرة، رمضانية قديمة، وتقليد تراثي عريق بين العصور والأجيال منذ زمن بعيد، إرتبط بشكل وثيق بشهر رمضان المبارك وصار ملازماً له.

فبمجرد ذكر رمضان، على الفور يجول في الأذهان “المسحراتي”، خصوصاً وأن طبلة “المسحراتي” لها إيقاع خاص في ذاكرة المعمرين، لأنه يعيدهم إلى أيام خلت عندما كانوا يتسحرون على أنغام طبلته وصوته الشجي.

****

قدم المسحراتي من عهد الرسول:

إرتبطت مهنة المسحراتي بالصيام في شهر رمضان، وكان الصحابي الجليل بلال بن رباح ، أول مؤذن في الإسلام ، وابن أم مكتوم، يقومان بمهمة إيقاظ المسلمين للسحور، فكان بلال يطلق صوته بالآذان، فيبدأ المسلمون في تناول السحور، ومع إقتراب الفجر، يتولي ابن أم مكتوم النداء مرة أخرى، ليعلن الناس بالإمساك.

ومع تطور الدولة الإسلامية وإتساع رقعتها، إستخدم أهل الدول العربية، من العرب والموالي، وسائل متعددة لإيقاظ الناس للسحور، فكان أهل بلاد اليمن والمغرب العربي، يدقون الأبواب، وفي الشام كانوا يطوفون عل البيوت ويعزفون علي العيدان والطنابير، وينشدون أناشيد خاصة برمضان، وفي مصر إستخدموا الطبلة لأول مرة، لإيقاظ الصائمين.

المسحراتي في بيروت:

تأثرت بيروت وتفاعلت خلال الحقبة الماضية وفي عصرنا الحاضر بظاهرة “المسحراتي”، الذي صار مع مرور الزمن يشكل جزءاً أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليداً ملازماً له. فما أن يهل هلال رمضان حتى يتطوّع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة “المسحراتي”، بعدما يكون ارتدى زياً خاصاً، فيجول في الشوارع ليلاً ضارباً على طبلته بقضيب من “الخيزران” ومرسلاً صوته الشجي بأناشيد دينية ومناداته للناس بأسمائهم ودعوتهم لتناول طعام السحور.

المسحراتي البيروتي الشهير عبد الرحمن الألطي رحمه الله

فقبل الإمساك بحوالي ساعتين، يبدأ المسحراتي جولته الليلة في الأحياء الشعبية، ينادي علي الأهالي بأسمائهم، وينتظره الأطفال في النوافذ، ويقذفون له الحلوى، لينادي عليهم بالاسم.

فرقة مسحراتية:

جرت العادة قديماً في كثير من أحياء بيروت أن تجول جوقة من “المسحراتية”، هي عبارة عن مجموعة من المنشدين ينشدون أشعار التسحير على أنغام الرق والمزاهر، فتخرق أصواتهم سكون الليل لتُسمع مناجاتهم في كل الأرجاء.

مواصفات “المسحراتي”:

كان يُفترض بـ “المسحراتي” أن تتوافر فيه شروط ومواصفات لا بد من أن يتمتع بها حتى يحظى بشرف تولي أمر التسحير. يجب أن يكون ذا ثقة عند الناس وحسن السمعة وأن يتمتع بصوت جميل وأن يجيد الإنشاد وشعر التسحير وأن يعرف كل سكان المحلة التي يجول فيها.

فمن المعروف أنه لم يكن يتولى أمر التسحير إلا من يجد في صوته رقة تجعل إنشاده محبباً وبيانه حسناً وإشارته لطيفة.

وكان “المسحر” في بيروت القديمة يعرف كل سكان الحي، لذلك فأنه في جولاته بطبلته كان ينادي كل صاحب دار باسمه أو بكنيته “يا أبا فلان” فإذا أجابه قال له: وحد الله. 

اذلك، جرت العادة قديماً وفي الأسبوع الأخير من شهر شعبان، عندما يتطوع أحد أبناء المحلة بأخذ المبادرة للقيام بمهمة “المسحراتي”، أن يطوف على البيوت والمنازل ليكتب أسماء من إستجد من الأطفال والسكان، حتى يذكر أسماءهم ويدعوهم للسحور، عندما يبدأ شهر رمضان.

ولم يكن المسحراتي خلال الشهر الكريم، يتقاضى أجراً، بل كان ينتظر حتى أول أيام العيد فيمر بالمنازل منزلاً منزلاً ومعه طبلته المعهودة، فيوالي الضرب على طبلته، فيهب له الناس المال والهدايا والحلويات، ويبادلونه عبارات التهنئة بالعيد السعيد.

ومن تقاليد التسحير أن لكل “مسحراتي” منطقة نفوذ لا يتخطاها زميله في هذه المهنة المؤقتة، لأنه سوف يحصل من أبناء المنطقة على أجر تسحيره.

وقديماً كانت تحدث مشاجرات بين مسحراتي وآخر يتعدى على منطقة نفوذ زميله، فيقال في المثل: “إنت لح تطبل في المطبل؟!”، أي أن هذه المنطقة تم التطبيل وتسحير الناس فيها فلا داعي لإعادة التطبيل.

“المسحراتي”، هو كروان شهر رمضان ونجمه من الزمن الجميل ما يزال ظاهرة رمضانية راسخة تقاوم كل أشكال الحداثة والتطور لتضفي على رمضان أجواءه التراثية المحببة…

تاريخ وتطور المسحراتي:

التسحير أخذ أشكالاً ووسائل مختلفة، تبعاً للتطور والتقدم الزمني. ولكن أولى هذه الأشكال والوسائل تمثلت بالأذان والفوانيس من على مآذن ومنارات المساجد والجوامع الشريفة. ومن ثم إعتمدت الطلقات المدفعية المدوية في سماء المدن العربية والإسلامية لإيقاظ الصائمين.

التسحير في مكة:

وبدايات التسحير تعود إلى عهد النبيۖ، حيث كان الصائمون يعرفون جواز الأكل والشرب بآذان بلال، ويعرفون الإمساك عنه بآذان إبن أم مكتوم.

وفي الحديث الشريف: “إن بلالاً كان ينادي بليل، فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم”… وبذلك يُعتبر مؤذن الرسولۖ الأكرم الصحابي بلال بن رباح أول من نادى للسحور.

ويُذكر في هذا المجال أن الرحالة إبن جُبير قد وصف التسحير في مكة المكرمة عند زيارته لها في شهر رمضان المعظم للعام 578 هـ إذ كتب:

… “إن التسحير خلال شهر رمضان كان يتم من خلال المئذنة التي في الركن الشرقي للمسجد الحرام، وذلك بسبب قربها من دار شريف مكة، فيقوم المؤذن الزمزمي بأعلاها وقت السحور داعياً وذاكراً على السحور ومعه أخوان صغيران يجاوبانه”.

أضاف: … “كانت تُنصب في أعلى المئذنة خشبة طويلة يُرفع عليها قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يوقدان مدة التسحير، فإذا قرب تبين خطا الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة، حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالآذان”…

والي مصر تولى التسحير بنفسه:

ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية تعددت أساليب تنبيه الصائمين، حيث ابتكر المسلمون وسائل جديدة في الولايات الإسلامية من أجل التسحير.

فيذكر المؤرخون أن “المسحراتي” ظهر إلى الوجود عندما لاحظ والي مصر “عتبة بن إسحاق” أن الناس لا ينتبهون إلى وقت السحور، ولا يوجد من يقوم بهذه المهمة آنذاك، فتطوع هو بنفسه لهذه المهمة فكان يطوف شوارع القاهرة ليلاً لإيقاظ أهلها وقت السحر، وكان ذلك عام 238 هجرية، حيث كان يطوف على قدميه سيراً من مدينة العسكر إلى مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط منادياُ للناس: ” عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة”.

مسحراتي بيروت (الطبال) في القرن الماضي. لوحة لفروخ

التسحير بالدق على الباب:

وفي عصر الدولة الفاطمية أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمي أمراً لجنوده بأن يمروا على البيوت ويدقوا الأبواب بهدف إيقاظ النائمين للسحور، ومع مرور الأيام عين أولو الأمر رجل للقيان بمهمة المسحراتي كان ينادي: ” يا أهل الله قوموا تسحروا”، ويدق على أبواب البيوت بعصاً كان يحملها في يده.

•إبتكار الطبلة “البازة”:

وقد تطورت بعد ذلك ظاهرة التسحير على يد أهل مصر، حيث ابتكروا الطبلة ليحملها “المسحراتي” ليدق عليها بدلاً من إستخدام العصا. هذه الطبلة كانت تسمى “بازة” وهي صغيرة الحجم يدق عليها “المسحراتي” دقات منتظمة، وهو يشدو بأشعار شعبية وزجل خاص بهذه المناسبة، ثم تطور الأمر بأن صارت تجول ليلاً فرقة يحمل أفرادها “الطبل البلدي” و”صاجات” يتقدمها المسحراتي، ويقومون بالتسحير من خلال الإنشاد، حيث شارك الشعراء في تأليف القصائد التي كان ينشدها المسحراتي كل ليلة.

•إبن نقطة مسحر الخليفة العباسي:

أما في العصر العباسي في بغداد كان “ابن نقطة” شيخ طائفة المسحرين وأشهر من عَمِلَ بالتسحير، حيث كان موكلاً إليه إيقاظ الخليفة الناصر لدين الله العباسي، فقد كان ابن نقطة يتغنى بشعر يسمى “القوما” مخصص للسحور، وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان ولا يلتزم فيه باللغة العربية، وقد أُطلق عليه اسم القوما لأنه كان ينادي ويقول: “يا نياما قوما… قوما للسحور قوما”، وقد أُعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته.

وعندما مات أبو نقطة خلفه ولده الصغير وكان حاذقاً أيضاً لنظم “القوما”، فأراد أن يُعلم الخليفة بموت أبيه ليأخذ وظيفته فلم يتيسر له ذلك، فانتظر حتى جاء رمضان ووقف في أول ليلة منه مع أتباع والده قرب قصر الخليفة وغنى القوما بصوت رقيق رخيم فاهتز له الخليفة وانتشى، وحين همّ بالإنصراف انطلق ابن أبي نقطة يُنشد: (يا سيد السادات لك في الكرم عادات، أنا ابن أبي نقطة، تعيش أنت أبي قد مات). فأُعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته وحُسن بيانه مع إيجازه، فأحضره وخلع عليه ورتب له من الأجر ضعف ما كان يأخذه والده.

•آلات موسيقية مختلفة للتسحير:

بعد ذلك، أخذت شخصية “المسحراتي” بالتطور، وأُدخلت الآلات الموسيقية في أساليب التسحير، لحث الناس على الصيام والقيام، كما إعتمدت الأناشيد، والمدائح، والأدعية في نداءات التسحير، لإطفاء جرعة روحانية عليها، بالإضافة إلى القصص المرتبطة بروح شهر رمضان المبارك.

وقد تنوعت الأساليب التي إستخدمها “المسحرون” على مر الزمن. حيث إختلفت بين دولة وأخرى. فمنها من إستخدمت “البوق”، ومنها من إستخدمت “النفير”، كذلك فإن بعض البلدان إستخدم فيها “المسحراتي” الطبل أو الطبلة كوسيلة للتسحير، لذلك سُميّ “بالطبال” أو “أبو طبلية”، وبعضها الآخر إستخدم “الدف”،

و”الطنابير” و”الصفافير” و”القيثارة” و”العيدان”، و”الصفافير” و”الطار” 

•النساء يسحرن أيضاً:

ومن النوادر الطريفة في سياق الحديث “المسحراتي”، أن التسحير لم يقتصر على الرجال فقط، إذ تطوعت بعض النساء لتسحير الصائمين. وقد أنشد الشيخ زين الدين بن الوردي في إحدى المسحرات في ليالي رمضان قائلا”:

عبجتُ في رمضان من مُسحرةٍ بديعةِ الحسن إلا انها ابتدعتْ

قامتْ تسحرُنا ليلاً فقلتُ لها: كيف السحورُ وهَذي الشمسُ قد طلعَتْ

•طرائف التسحير:

تجدر الإشارة إلى أن بعض “المسحراتيين” كانوا يبتدعون أسلوباً خاصاً بهم، حيث كانوا يرددون أغاني تحمل معها الطرافة والفكاهة للتودد من الناس، للفت الأنظار والتميز عن غيرهم من المسحراتيين. فكانوا ينظموا قصصاً فكاهية مغناة، تدور حول مواقف ساخرة تعبر عن إدارك لمشاكل إجتماعية معينة.

فينقل عن أحد “المسحراتية” في مصر أغنية حوارية كان يرددها في ليالي رمضان ويقول فيها:

“يا ست هدية يا وش الهنا

بدعيلك تتهني ويسعدك ربنا

ليه بس دايماً كل ما آجي هنا

ما سمعش مك غير كتر الكلام

واقف على باب بيتكم شايف

صينية محشية بالجوز والحمام

ومن بعيد شامم ريحة ملوخية

قولي على عقلي يا واد السلام”…

****

“أصحي يا نايم وحد الدايم.. وقول نويت بكرة إن حييت.. الشهر صايم والفجر قايم ورمضان كريم”.. نداء يتجدد كل عام مع حلول شهر رمضان ، ويجوب به المسحراتي شوارع والأحياء من خلال قرع الطبول لإيقاظ الناس لموعد تناول طعام السحور…

سيد مكاوي أشهر” مسحراتي”:

 “قوموا تسحروا واعبدوا رب الأنام

 ويلي يصوم رمضان يا هناه

 يا سي محمد يا رب يخليك لنا والسنة الجاية تكون على منى”…

 هذا نموذج من نداءات التسحير التي كان يطلقها الفنان الكبير الراحل سيد مكاوي الذي هو إحدى علامات التلحين والغناء في عالمنا العربي، الذي يعتبر أشهر “مسحراتي” في عصرنا الحديث، حيث كان بطبلته وصوته الشجن يجول أرجاء القاهرة القديمة التي ملأها انغاماً ندية مفرحة، أدخلت البهجة والسرور إلى قلوب ناسه وأهله والغلابة، الذين يجتمعون في الساحات الممتدة أمام الجوامع والمشربيات والشرفات للاستمتاع بصوته الشجي…

•تأثره بالإنشاد الديني:

ولد سيد مكاوي عام 1928 في حي الناصرية ـ أحد أحياء حي السيدة زينب العريق ـ في أسرة شعبية بسيطة وكان لكف بصره عامل أساسي في اتجاه أسرته إلي دفعه للطريق الديني بتحفيظه القرآن الكريم فكان يقرأ القرآن ويؤذن للصلاة في مسجد أبو طبل ومسجد الحنفي بحي الناصرية. 

وما إن تماثل لسن الشباب حتي انطلق ينهل من تراث الإنشاد الديني من خلال متابعته لكبار المقرئين والمنشدين آنذاك كالشيخ إسماعيل سكر والشيخ مصطفي عبد الرحيم، وكان يتمتع بذاكرة موسيقية جبارة فما إن يستمع للدور أو الموشح لمرة واحدة فقط سرعان ما ينطبع في ذاكرته الحديدية وكانت والدته تشتري له الأسطوانات القديمة من بائعي الروبابيكيا بالحي بثمن رخيص ليقوم بسماعها إرواء لتعطشه الدائم لسماع الموسيقي الشرقية.

•تعلم التجويد من شيخ القراء:

وبدأت قصة “المسحراتي” مع الشيخ سيد في مرحلة الطفولة، عندما كان “المسحراتي” يجوب حارتهم في شهر رمضان وينادي على أبناء الحارة كل واحد باسمه، وكان عندما ينادي لسيد مكاوي يقول: “اسعد الله الليالي عليك يا شيخ سيد،الصلاة والصوم وصالح الأعمال، واسع الليالي عليك، إصح يا شيخ سيد”.

كما لا بد من الإشارة إلى أن سيد مكاوي عندما فقد بصره التحق بكتّاب الحي، على ما درجت عليه العادة في تلك الأيام، حيث حفظ القرآن الكريم وتعلم التلاوة، وانتقل بعدها إلى مسجد “أم هاشم” الذي كان يتواجد فيه أشهر مقرئ في تلك الفترة وأجملهم صوتاً “الشيخ محمد رفعت”.

تعلم سي السيد من شيخ القراء محمد رفعت فن التجويد والتلاوة والترتيل، وفي نفس الوقت كان دائم التردد على الموالد ومجالس الشيوخ ليسمع منهم، فصار يجلس معهم منشداً للتواشيح والابتهالات الدينية التي حفظ الكثير منها.

•التنشئة الشعبية و”المسحراتي”:

هذه التنشئة للشيخ سيد مكاوي وسط بيئته الشعبية في ارض الكنانة، جعلت شخصية “المسحراتي” تعيش في وجدانه وتدغدغ ما يختزنه في داخله من حنين إلى التراث القديم. الأمر الذي دفعه إلى التطوع لتقديم شخصية “المسحراتي” بأسلوب فني رائع ذات مضمون اجتماعي وتراثي. 

•”مسحراتي” الأحياء الشعبية:

وكان مكاوي وعلى مدى سنوات عديدة خلال ليالي شهر رمضان المبارك يقوم بالتجوال في أحياء سيدنا الحسين والسيدة والقلعة وبولاق والقنطرة والعريش ومعه غلامه يحمل فانوساً مضيئاً، وبيده طبلة تسمى ” بازة”وبيده اليمنى جلدة يضرب بها على الطبلة مردداً بعزوبة صوته نداءات التسحير والابتهالات والانشودات، حيث ملأ أرجاء تلك الحارات والأحياء أنغاما ندية مفرحة.

ومما كان يردده “المسحراتي” سيد مكاوي:

 يا سي عبد الرحمن يا ابن الكرم والجود،

إنشا الله يمر عليك رمضان بالفرح والجود،

وريحتك الحلوة فياحة ذي الورد والعود…

 وكان يقول ايضاً:

مسحراتي منقراتي بافراح قلبي بيتنقل بي،

اشوف قبالي على الطبالي،

اقول يا زرعة وانتي يا زلعة،

لقمة هنية تكفي مية،

متسلطنة قال الزبادي،

ست الحبايب يا محضنة روح الضنى،

واخضر بقشرة اقول لو اطرا،

بادور وادور من نور لنور صحبة زهور،

هاتي السحور سبع بحور في سلطانية…

وغالباً ما كان يدخل روح المداعبة والفكاهة التي تخيم على نفسيته المرحة في نداءات التسحير التي كان يطلقها ومنها:

 قومي يا أم محمد وصحي جوزك بلاش كسل…

 وانت يا سي فؤاد، هو النوم مالوش آخر؟

 اتفضل واتسحر بالهناء والشفاء وادعي ربك بالتقى….

 •”مسحراتي” بالإذاعة:

وتقدم للإذاعة في بداية الخمسينيات وأُعتمد كمطرب فيها، وكان يؤدي أغاني التراث من أدوار وموشحات في مواعيد شهرية ثابتة.

وفي منتصف الخمسينيات أسندت إليه الإذاعة تلحين العديد من الأغاني الدينية، ومنها “تعالى الله”، و”آمين آمين”، و”يا رفاعي قتلت كل الأفاعي”، و”حيارى على باب الغفران”، وشدا بها الشيخ محمد الفيومي، وتوجها بـ “أسماء الله الحسنى”.

وأقنع مسؤولي الإذاعة بتطوير شكل المسلسلات بعمل مقدمات غنائية لها، وقدم عشرات المقدمات الغنائية لمسلسلات شهيرة لأمين الهنيدي ومحمد رضا وصفاء أبو السعود، ومنها “شنطة حمزة”، و”رضا بوند”، و”عمارة شطارة”، و”حكايات حارتنا”.

وأحدث انقلاباً في حلقات “المسحراتي” التي كان يقدمها أكثر من ملحن، ومنهم أحمد صدقي، ومرسي الحريري، وعبد العظيم عبد الحق، وكانوا يقدمونها على فرقة موسيقية، وفي أحد الأعوام أسندوا إليه تلحين 3 حلقات، واشترط أن يغنيها، واستغنى فيها نهائياً عن الفرقة الموسيقية، وقدمها بالطبلة، وفور إذاعتها، بأسلوبه، حققت نجاحاً لافتاً، وهو ما دعا مسؤولي الإذاعة في العام التالي للاستغناء عن كل الملحنين، وإسناد العمل كاملاً له، وظل يقدم “المسحراتي” مع الشاعر فؤاد حداد بالأسلوب نفسه حتى وفاته.

****

ونظراً لما لاقاه “المسحراتي” سيد مكاوي من ذيوع وترحيب، أقنعه صديقه الشاعر فؤاد حداد إلى تحويل ديوانه “المسحراتي” إلى عمل إذاعي، بلغ عدد حلقاته 150 حلقة ارتبطت بالواقع المعاصر وناقشت قضايا اجتماعية ووطنية وقومية، حتى أصبح البرنامج تراثاً موسيقياً يرتبط به شهر رمضان المبارك في الإذاعة والتلفزيون على حد سواء حتى يومنا هذا.

الكلاج” والبقلاوة “الزغلولية

بيروت عاصمة الجمال والذوق والتذوق أتقنت منذ حقبة بعيدة صناعة أصناف عديدة من الحلويات الشرقية كـ”البقلاوة” و”الكنافة” و”المعمول” و”البرما” و”الكلاج” و”القطايف”، حتى أنه كان يوجد في باطن بيروت سوقاً معروفاً بـ”سوق القطايف” على الجهة الجنوبية الشرقية من شارع “المعرض” الحالي. وقد أُزيل أواخر العهد العثماني بالتخطيط الذي أجراه والي بيروت عزمي بك. وأُطلق عليه إسم “سوق القطايف” لأنه كان مركزاً لتجمع دكاكين باعة هذا النوع من الحلويات العربية.

واقترن العديد من العائلات البيروتية بصناعة الحلويات التي تعاقبت عبر الأجيال على إتقانها وإبتكارها وإنتشرت معاملها منذ القرن التاسع عشر وما زالت مستمرة حتى أيامنا هذه.

ومن أبرز الحلويات الموسمية التي هي من ثوابت المائدة الرمضانية في بيروت والتي تُصنع بجودة ومهارة عاليتين: الحدف والكلاج …

•البقلاوة “الزغلولية” (الحدف):

وراء كل نوع من الحلويات أحياناً يكون غامضاً، وفي أحيان أخرى يكون مختلفاً فيه، وفي بعض الأحايين يكون طريفاً.

فرغم الخلاف حول أصول البقلاوة بين الأتراك واليونانيين، لكن غالبية المؤرخين يجمعون على أصلها التركي، حيث عرفتها تركيا لأول مرة في عهد محمد الرابع حيث كان يحب زوجته ماه يارا المعروفة بـ “رابعة كلنوش سلطان”، ولم يكن يأكل من يد أحد غيرها، فاخترعت أكلة جديدة على المطبخ العثماني حيث جاءت ب”الجلاش” ووضعت بين طبقاته الحشو بأنواعه وأضافت المسلي وأنضجته في الفرن، ووضعت عليه العسل، وعندما قدمته له أقر أنه لم يتذوق مثله ثم تم إطلاق إسم “بقلافة” عليه، ليتغير بعد ذلك إلى بقلاوة إشتقاقاً من كم البقوليات التي فيه.

وأيا تكن أصول البقلاوة، فإنه يسجل لبيروت إبتكار صنفاً خاصاً من البقلاوة، إقترن بشهر رمضان المبارك وبإسم صانعها، ألا وهي “خدف” رمضان التي كانت تعرف بالبقلاوة “الزغلولية”. 

فمن أوائل الذين إتخذوا صناعة الحلوى مهنة وحرفة كما يؤكد المؤرخ عبد اللطيف فاخوري شخص يُدعى سعيد الزغلول، الذي إشتهر بصنع نوع من البقلاوة المحشوة بالجوز. وذاع صيتها وأقبل الناس عليها لاسيما في شهر رمضان المبارك ونُسبت إليه فعُرفت بـ”البقلاوة الزغلولية”. وكانت عبارة عن قطع صغيرة على شكل Lozange.

وقد تعلم الكثير من “الحلونجية” في بيروت صناعة “الزغلولية” على يدي سعيد الزغلول وفي مقدمهم إبن عمه عبد القادر أبو عمر، الذي فتح محلاً في منطقة المرفأ في منتصف عشرينات القرن الماضي.

وخلال شهر رمضان المبارك كان يرسل منها عدداً من الصدور إلى جانب مدخل الجامع العمري الكبير في شارع “المعرض” عند صلاة العصر، فُيقبل عليها الصائمون لدى خروجهم من المسجد قبل موعد الإفطار بشكل كبير فيبيعها كلها. وهذا ما جعل “البقلاوة الزغلولية” حلوى موسمية مرتبطة بشهر رمضان المبارك.

ومع مرور الوقت، سُميت “البقلاوة الزغلولية” بعدما صارت تصنعها كل محال الحلويات العربية خلال رمضان بـ”حدف رمضان”. وأطلق عليها هذه التسمية لأن طريقة تحضير عجينة هذه البقلاوة الرمضانية تقتضي من “الحلونجي” حدفها من اليد اليسرى إلى اليمنى وبالعكس وبطريقة حرفية خاصة، حتى تُصبح العجينة جاهزة للمد في الصواني.

****

•الكلاّج:

وبالإنتقال إلى “كلاّج رمضان” فهي حلوى طيبة المذاق تظهر بقوة خلال الشهر الفضيل وتختفي مباشرة بعد إنقضائه.

و”الكلاّجة” كلمة فارسية معناها (خَلَق الأذن) أو (الشيء المستدير) وهي نوع من المعجنات الحلوة ولها قالب خاص تصنع فيه لكي يعطي العجين الشكل المستدير التي عرفت به.

المؤرّخة العراقية نوال نصرالله تقول أنّ حلويّات شبيهة بالكليچة كانت شائعة في العراق في بابل في العهد الأخميني، معمولة بشكل القمر (أقراص دائريّة عليها نقش زهرة الحياة المقدّسة) ومعمورة بشكل أهرامات صغيرة وتباع في الأعياد والمناسبات الدينية والبازارات وكانت معروفة باسم ”قُلُّپو“، وترجّح نصرالله أنّ هذه التسمية البابلية هي أصل تسمية كليچة في العراقة، بينما يقول المستشرق الهولاندي رَيِنْهَارْت دُوزِي في معجمه ”المستدرَك“ أنّ كليجا أو كليجه كلمة فارسية تعني خبز صغير معجون بالزبدة.

الكلاج البيروتي

بالمقابل، ذكرها إبن بطوطة باسم (كليجا): “خبز معجون بالسّمن يسمّونه (الكليجا) ولم يكن قد رآها من قبل، حين تعرّف إليها نحو سنة 1334 على مائدة والي خيوارزم الأمير قُطْلودُمُور في مدينة الجرجانية (گرگانچ) Urgench غرب أوزبكستان المعاصرة.

أما أهل القصيم في السعودية يتذكرون حكاية مجموعة من التجار القاديمن من بلاد الشام بتجارتهم على الجمال، والذين كانوا على سباق مع الزمن للوصول إلى المنطقة قبل العيد لبيع تجارتهم… وعندما عجزت الجمال المثقلة بالأحمال أن تُجاري عزائم الرجال، شدّ الرجال بطونهم بالحبال، وقدّموا ما تبقى معهم من “الكلاج” لجمالهم المثقلة بالأحمال.

وكانت المفاجأة أن إستعادت الجمال نشاطها وواصلت المسير ووصلت قبل العيد… من هنا ندرك أن الكلاجة الخفيفة في نقلها كبيرة في قيمتها الغذائية.

وقد أخذت الكلاّجة عبر الأزمان أشكال مختلفة وإكتسبت أنواعاً متعددة من العجين في صناعتها. كما تفنّنت العديد من الأسر في تهيئة وتحضير حشوتها التي تكوّنت من عدة أصناف كالتمر أو الجوز والجبن والقشطة المصنعة، كذلك أضافوا إليها بعض المطيبات كبرش جوز الهند والزنجبيل والهال والسحلب. وهنالك من يحليها بالقطر وآخرون بالسكر الناعم بعد خبزها أو قليها.

الكنافة

سقى الله الكنافة بالقطر

وجاد عليها سكراً دائم الدر

وتباً لأوقات المخلل

إنها تَمُر بلا نفع وتحسب من عمري

“الكنافة” حكاية رمضانية سنوية ممتدة عبر القرون وهي تتربع على المائدة الرمضانية في بيروت وأغلب المدن العربية، متوجة نفسها ملكة الحلويات خلال الشهر الكريم منذ مئات السنين، حيث يُقبل عليها الصغار والكبار عند إفطارهم ولدى سحورهم. فلا تحلو مائدة رمضان دون أن تتربع الكنافة على عرش أطباق الحلويات التي تلازم الشهر الكريم.

لذلك، نجد أن كل محلات بيع الحلويات العربية في بيروت تعطي حيزاً كبيراً للكنافة خلال شهر رمضان، نظراً لإشتداد الطلب عليها، فنرى “صدور” الكنافة تزين واجهاتها، حيث تعرض بطرق فنية يصعب مقاومتها عند الإفطار.

****

•تعدد الروايات حول أصل الكنافة:

 تعددت الروايات التي تخبرنا عن بداية ظهور الكنافة، وكيف تنازع المصريون وأهل الشام السبق لنسب إبتكارها وبداية ظهورها لأنفسهم.

إذ يذكر المؤرخون في واحدة من الروايات أن أول من أكلها هو معاوية بن أبي سفيان، وكان ذلك في شهر رمضان، وقيل في سبب ذلك أنه كان يجوع كثيراً في نهار صومه فنصحه طبيبه بأن يأكل “الكنافة” في السحور كي تخفف عنه بعض جوع النهار، بعد أن وصفها له الطبيب محمد بن آمثال، بحسب ما يروي السيوطي عن إبن أبي فضل الله العمري.

رواية أخرى تنفي الأولى وتقول أن تاريخ الكنافة يعود إلى العصر الفاطمي، وقد عرفها المصريون قبل أهل بلاد الشام، وذلك عندما تصادف دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي القاهرة وكان ذلك في شهر رمضان فاستقبله الأهالي بعد الإفطار وهم يحملون الهدايا ومن بينها الكنافة بالمكسرات كمظهر من مظاهر الكرم.

****

•تطويرها في بلاد الشام:

وقد إنتقلت الكنافة إلى بلاد الشام عن طريق التجار وتفنن أهلها في تطويرها وإعدادها مدخلين عليها الجبنة والقشطة والفستق والجوز واللوز وتحليتها بالقطر أو عسل النحل.

ويدعم أصحاب الرأي الثاني روايتهم بأن الكنافة ليست الطعام الوحيد الذي يدفع به الجوع، وهي ليست علاجاً حتى يصفه الطبيب إبن آمثال.

كما يدعمون حجتهم بأنه لو عرفت الكنافة منذ عصر معاوية لذكرها الشعراء فيما ذكروا من أطعمة، إذ أنهم وحتى العصر العباسي الثاني لم يأتوا على ذكرها في أشعارهم.

****

•إزدهارها في العهد الفاطمي:

أياً يكن نسب الكنافة سواء كانت شامية أو مصرية، المؤكد أنه في العصر الفاطمي زادت شهرة “الكنافة” وذاع صيتها وكانت زينة موائد خلفائهم. وقد إتخذت مكانتها بين أنواع الحلوى التي إبتكرها الفاطيمون، وأصبحت بعد ذلك من المظاهر المرتبطة بشهر رمضان المبارك في العصر الأيوبي والمملوكي والعثماني والحديث، بآعتبارها طعاماً لكل غني وفقير مما أكسبها طابعها الشعبي.

****

•أصل التسمية:

و”الكنافة” إسم عربي أصيل وتعني: الظل والصون والحفظ والستر والحصن والحرز والجانب والرحمة. فكنف الله تعني حرزه ورحمته.

و”الكنافة” من نِعمِ الله. والنعمة رحمة وحرز. ومن أكل “الكنافة” خف ظله وعذب منطقه وربا لحمه وصفا شحمه وزال سقمه.

****

•من موائد الملوك إلى الفقراء:

وانطلقت الكنافة من موائد الملوك والأغنياء لتصل إلى موائد الفقراء، ورغم تعاقب العصور والأزمنة لم تهتز أو تتراجع مكانة الكنافة على موائد الأغنياء رغم وجودها بشغف على موائد الفقراء حتى انها ساوت بينهما في طعام واحد يلتهمونه بِنَهم.

وكان الفقراء من الشعراء يستهدون الكنافة من الأعيان والموسرين بشعر فيه إلحاح كبير ودعابة مضحكة وفكاهة مطربة، فمن ذلك قول الشاعر المتقدم وهو:

أيا شرف الدين الذي فيض جوده      

براحته قد أخجل الغيث والبحرا

لئن أمحلت أرض الكنافة إنني لأرجو لها من سحب راحتك القطرا

فعجل بها جوداً فماليحاجة 

سواها نباتاً يثمر الحمد والشكرا

****

ومن الحكايات القديمة التي يتداولها الناس، أن أحد الرجال غضبت منه زوجته فغادرت إلى منزل أهلها، دون أن يتمكن المصلحون من تصالحمها. وعندما دخل شهر رمضان تذكرت الزوجة حب زوجها لـ”كنافتها” فبعثت إليه بصينية “كنافة” فآبتهج وحملها إلى زوجته في بيت أهلها، فما إن انطلق مدفع الإفطار حتى أفطرا سوياً على “الكنافة” فتصالحا وصفيت قلوبهما. فكان “للكنافة” أثراً أفعل من المصلحين.

والمعروف أن المصريين يتناولون كميات كبيرة من الكنافة في شهر رمضان، حتى أنهم في عام 917هــ ارتفع ثمنها مع القطايف بشكل جنوني، فتقدم أهل مصر إلى الوالي بشكوى على شكل قصيدة يقولون فيها:

لقد جاء بالبركات فضل زماننا

بأنواع الحلوى شذاها يتضرع

فيا قاضياً رخص لنا الكنافة نطيب ونرتع

****

•تطويرها:

وطرأت على “الكنافة” بعض التطورات في العقود الماضية، لعل من أبرزها إستخدام الماكينات الآلية في صنعها بدلاً من الكوز المخروم. وأبدعت كل دولة عربية في طريقة صنع “الكنافة” وحشوها. فأهل الشام وطرابلس يحشونها بالقشطة. وأهل مكة يحشونها جبناً بدون ملح. وأهل نابلس برعوا في “كنافة” الجبن حتى إشتهرت وعُرفت بـ”الكنافة النابلسية”.

ونظراً لعراقة مهنة صناعة “الكنافة” التي إرتبطت بعائلات معنية توارثتها عبر الأجيال بكل مهارة وتفنن، فإن الكثير منها كنيت بـ”الكنفاني” وإنسحبت هذه الكنية على العديد من العائلات في عدد من الدول العربية التي تمتهن صناعة “الكنافة”.

الحاج أحمد العريسي في محل حلويات العريسي الشهير في ساحة الشهداء في الستينيات

وعلى الرغم من أن الكنافة هي زينة موائد الملوك وحكاية رمضانية عمرها مئات السنين، فإن ثمة عداوة ومنافسة مزمنة بين “الكنافة” و”القطايف” خلال رمضان. وهذا ما صوره أحد الشعراء بقوله:

غدت الكنافة بالقطايف تسخر

وتقول: إني بالفضيلة أجدر

طُويت محاسنها لنشر محاسني

كم بين ما يطوى وآخر ينشر

فحلاوتي تبدو وتلك خفية

وكذا الحلاوة في البوادي أشهر

****

القطايف

قطائف قد حشيت باللوز

والسكر الماذي حشو الموز

تسبح في آذيّ دهن الجوز

سررت لما وقعت في حوزي

سرور عباس بقرب فوز

قد لا يكتمل شهر رمضان عند الصائمين من دون حلوياته الشرقية بأنواعها الكثيرة التي تُضفي على هذا الشهر نكهة خاصة لا تتوافر في باقي الشهور. 

وهذا ما يفسر تعلق الصائمين بـ”القطايف”، التي تتنافس محلات الحلويات في بيروت على جودة صناعتها، لتكون منافسة قوية لباقي الحلويات الرمضانية التي تشتهر بها بيروت، لا سيما وأن “القطايف”  تقف وقفة ندية في منافسة الكنافة من خلال تذّوق الصائمين حلوها. 

حتى أن الشعراء والأدباء تنافسوا في ما بينهم على التمييز بينهما، إذ قال أحدهم:

دعاني صديق لأكل القطايف

فأمعنت فيها غير خائف

فقال وقد أوجعت بالأكل قلبه

رويدك مهلاً فهي إحدى المتالف

فقلت له ما إن سمعنا بميت

ينادى عليه يا قتيل القطايف!

•خلاف على نشأتها :

والقطايف عرفت أواخر العصر الأموي واشتهرت وانتشرت في العصر العباسي، وأول من أكل “القطايف” في رمضان كان الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك السنة 98 هـ. وهنالك من يعيد القطايف إلى العصر الفاطمي، إذ كانت تجرى منافسات بين صانعي الحلويات لتقديم ما هو أطيب للحاكم. فآبتكر خباز فطيرة صغيرة وبداخلها مكسرات وقدمها في شكل جميل في صحن كبير. وقدمت لضيوف الحاكم ليقطفوها، ومن هنا جاء إسمها “فطيرة القطف”، ثم تحول الإسم عن طريق دخول العامية فتحولت إلى قطايف. وبعد دخولها إلى بلاد الشام صارت تُصنع بالقشطة.

وهناك رواية أخرى تعيد أصلها إلى الأندلس حيث عرفها العرب هناك خاصة في مدن غرناطة وأشبيلية، ثم إنتقلت إلى بلاد الشرق العربي خلال الحكم الإسلامي.

•التسمية:

وجاء في “لسان العرب” عن القطايف: طعام يسوى من الدقيق المرق بالماء وشُبهت بـ”القطيفة” التي تفترش.

في حين أن البعض يعتبر أن تسميتها “قطايف”إشتقاقاً من كلمة “اقتطاف” .

و”القطايف” أشار إليها الطبيب داوود الأنطاكي بقوله: “… والقطايف خبز يعجن قريباً من الميوعة ويحمر جيداً ويسكب على فولاذ أو طابق. وأجوده المخمور النقي البياض الذي بدنه كالإسفنج ثم يفرك بدهن اللوز”.

•التفنن في صناعتها:

وتفيد الدراسات أن العرب كانوا يتفنّنون في صناعتها بإعداد فرن صغير مرتفع عن الأرض حوالي 40 سنتم خصيصاً لعمل القطايف، وتوضع عليه صينية من حجر الزهر، كما تُستخدم أيضاً حلة ومصفاة للعجين وكبشة وقوطع لرفع أقراص “القطايف” بعد تسويتها، بالإضافة إلى قمع صغير يوضع فيه العجين السائل.

وبعدما تستوي الأقراص وتبرد تبدأ عملية حشوها إما بالجوز أو الجبن أو القشطة، ومن ثم ثنيها بحيث تأخذ شكل الهلال النصف دائري للدلالة من خلال شكلها الى إرتباطها بشهر رمضان. ثم تُقلى في الزيت أو تُخبز في الفرن، وبعد إستوائها وأخذها اللون الذهبي تُغمس بالقطر ثم تُرفع وتُزين بالفستق المبروش وزهر الليمون.

ففى كل ليالى شهر رمضان يصطف الناس حول بائع القطائف يشاهدونه وهو يملأ علبته الصفيحة التى يفرغ منها عجينة القطايف على الصاج الذى يعتلى النيران، فتنضج أمامهم القطائف ويتهافت عليها الأطفال، فلا ينتظرون حشوها وطهيها لكنهم يتقاطفونها وهى “سخنة” بعد خروجها من تحت يدى صانع القطايف فيكون لها مذاق مختلف ومميز…

ونختم بقول أبو هلال العسكري عن القطايف:

كثيفةُ الحشوِّ ولكنَّها

رَقِيقةُ الجِلدِ هَوَائيّـه

رُشّت بِمَاءِ الوَرْدِ أعْطَافُها

مَنشورةُ الطيِّ ومَطوِيّه

كأنّها مِنْ طِيبِ أنفاسِها

قد سُرِقَت من نشرِ «ماويّه»

جَاءَت منِ السُكَّرِ فُضيّةً

وهي من الأدْهانِ تِبريَّه

الخشاف والسحلب، والمهلبية والأرز بالحليب والعوامات.

لا تقتصر حلويات رمضان على الأصناف التي تباع عند “الحلونجية” كما يسونهم “البيارتة”، أي صناع الحلوى الشرقية، بل تشمل أيضاً “التحلاية” التي تعدها السيدات في منازلهم، والتي لها نكهة خاصة لا يقل مذاقها اللذيذ والشهي من الحلويات الجاهزة.

وتحضر هذه الأنواع من الحلويات المنزلية بقوة في شهر رمضان المبارك، لما لها من ذكريات في وجدان من عاصر الزمن الذي كانت فيه الأمهات والجدات تعد هذه الأصناف التي ما زالت طعمتها تحت “أضراسهم”…

****

•الخشاف:

إعتاد الصائمون في ليالي رمضان على تناول وأكل المكسرات والفواكه المجففة كمسليات ترافقهم خلال سهراتهم بين الإفطار والسحور.

فالمكسرات والفاكهة المجففة هي نجوم غذائية تلألىء الأمسيات الرمضانية، وتسمى وتُعرف “بالياميش”، والتي هي ضيف دائم خلال الشهر الكريم، حيث ُيقبل الصائمون على شرائها سواء لصنع “الخشاف” أو الحلويات أو الأكلات التي تستخدم فيها أنواع الياميش، فضلاً عن تناول أصنافه مع إحتساء الشاي والقهوة العربية خلال تناول أطراف الحديث في سهراتهم العامرة .

ونظراً لأهمية “الياميس” درجت العادة في رمضان على إعداد صنف من الحلوى يُعرف بـ “الخشاف” حيث تُنقع الفاكهة المجففة والمكسرات في الماء المحلى بالسكر ويُضاف إليه الماء الزهر وعندما تطرى تصبح جاهزة للتقديم. وهناك من يستبدل الماء والسكر بشراب القمر الدين. ونظراً لأهمية مكوناته الغذائية، ذهب البعض إلى وصف الخشاف بصيدلية الفواكه المتكاملة.

ويقدم هذا المزيج بارداً، وهنالك ما يسميه سلطة الفواكه المجففة.

****

•السحلب:

السحلب شراب الشفاء لأمراض الشتاء”… بهذه العبارة كانوا في الماضي يعرفون شراب السحلب اللذيذ والمغذي الذي يحضر بقوة خلال شهر رمضان المبارك، سواء في الشتاء أو في الصيف على حد سواء، حيث يحرص الصائمون على تناوله خلال وجبة السحور لأنه ذات قيمة غذائية عالية، فضلاً عن كونه لطيف المذاق.

ويُعدّ السحلب من أشهر المشروبات الساخنة في شهر رمضان في كل من تركيا ومصر وسوريا ولبنان والخليج العربي، وهو مستخرج من نبات معمر طوله 60 سنتم، وله أوراق ضيقة غالباً ما تكون مرقطة بنقاط سود، وتعطي الساق أزهاراً بنفسجية اللون تعتبر الأجمل والأقدم بين الزهور. وتحتوي ساق هذا النبات جوزان من الدرنات الأرضية ذات لون أبيض وتحتوي على مواد صمغية وهلامية وبروتين ونشاء وزيت طيار، وهو الجزء المستعمل لتحضير مشروب السحلب.

وتنمو عشبة السحلب المعروفة بآسم (Salep) بشكل بري في إيران واليونان والأناضول وأفغانستان، ويعتبر السحلب الإيراني الأفخر في الأسواق العالمية.

ولشراب السحلب فوائد طبية فهو مضاد للإسهال ولوقف نزيف قرحة المعدة. وفي بريطانيا يستخدم لمرض السل. كما يُوصف أيضاً لحالات التسمم ونزلات البرد.

****

• المهلبية:

ومن الحلويات الرمضانية التي تجهز في البيوت “المهلبية” ذات المذاق الرائع والشهي، ويُطلق عليها البعض إسم “محلبية” نسبة إلى الحليب المصنوعة منه بدلاً من “مهلبية”.

و”المهلبية” كانت تُعرف أساساً بـ”المحلاية” التي تُصنع بنفس طريقة “المهلبية”، لكن مع إضافة اللوز المبروش والمستكة خلال طهيها، إضافة إلى تزيينها بعد إتمامها بالمكسرات والزبيب والقشطة، لذلك فإن إعداد هذا الطبق كان يقتصر على العائلات المقتدرة مالياً. وعلى هذا الأساس إعتبرت في حينه “حلوى الأغنياء”.

وكان إذا صادف زيارة أحد الفقراء رجل غني يأكل “المحلاية”، كان الأخير يقول لخادمه: “كش الفقراء”، فصار يُطلق على هذه الحلوى “كش الفقراء”. وللتلطيف صارت تُلفظ “كشك الفقراء”، علماً أن مادة الكشك لا تدخل في مكونات هذا الطبق لا من قريب ولا من بيعد.

وإرضاءً للفئات غير الميسورة إستُحدثت حلوى شبيهة بـ”كشك الفقراء”، دون أن يُضاف إليها اللوز المبروش والمكسرات الفاخرة وسُميت بـ”المحلبية” التي تُلفظ في بعض البلدان بـ”المهلبية” كما أشرنا سابقاً.

****

•الأرز بالحليب:

يُعد طبق “الأرز بالحليب” واحداً من أشهى الحلوى الشرقية، فهو الطبق المحبب لدى كثيرين ممن يقبلون على تناوله بين الوجبات لمذاقه الحلو، إلى جانب إمكانية تناوله ساخناً وبارداً، ما يجعله دائم الوجود على المائدة.

يستمد الطبق الشهير اسمه من مكوناته الرئيسية: الأرز، والسكر، والحليب، والنشا حتى يجعل قوامه متماسكاً.

ظهر طبق “الأرز بالحليب” بوصفته الحالية لأول مرة في تركيا في القرن الخامس عشر الميلادي، في عهد الدولة العثمانية، وكان الأطباء الأتراك يصفونه كعلاج لمشكلات المعدة، ثم انتقل “الأرز بالحليب” إلى مصر، خلال الفترة نفسها تقريباً، ولكن لم يستخدمه المصريون كدواء مثلما كان يفعل الأتراك؛ بل قام المصريون بطهيه كنوع من الحلوى.

أما في أوروبا، فكانت تتم صناعة “الأرز بالحليب” في البداية كوجبة رئيسية وليست كحلوى، وذلك خلال القرن الرابع عشر، ولكن في القرن الخامس عشر تمت إضافة السكر إليه ليشبه في طعمه وطريقة طهيه “الأرز باللبن” المشهور في عالمنا العربي حالياً.

****

• العوامات:

“اللقيمات”، “لقمة القاضي”، “العوامة”، “كرات الذهب”، تسميات متعددة لحلوى واحدة تمتاز بمذاقها الرائع، وسهلة الصنع وكثيراً ما يشتهي الصائمون تناولها خلال شهر الصيام. وهي على شكل كرات من عجينة هشة خاصة تقلى بالزيت وتغمس بالقطر. وتذوب بالفم.

وتجمع “لقمة القاضي” ما بين المطبخ العربي والمطبخ الغربي، فقد يظن البعض أنها عربية الأصل، في حين أنها تعود للشعب اليوناني الذي يطلق عليها “لوكوماديس”، وتحظى بشعبية كبيرة لديه، إذ إعتاد اليونانيون تناولها مع الإيس كريم بطعمة المستكة أو القرفة.

وأول ما ظهرت “العوامة” في البلاد العربية كان ذلك في الإسكندرية لآختلاط المحليين باليونايين لحقبة زمنية طويلة، وهو ما أكسبها سمة الحلوى الشعبية التي تُباع في الطرقات، وكان أشهر من يتفنن في صنعها محل صغير في شارع البوسطة في الإسكندرية إسمه “تورنازاكي”.

وعن تسميتها بـ”لقمة القاضي” فمرد ذلك أنها كانت الحلوى المفضلة عند القضاة في زمن الدولة الإسلامية التي كانت لهم مكانتهم المرموقة.

وإسم “اللقيمات” فنظراً إلى صغر حجمها وإمكانية تناولها بلقمة واحدة دون عناء.

أما إسم العوامة فإن ذلك يعود إلى أن عجينها يقلى في الزيت وتبقى خلال عملية القلي عائمة على سطح المقلى.

****

وبعد جولتنا على أصناف الحلويات الرمضانية الشهية عن طريق التعرف على أصلها وطريقة تصنيعها، أكيد الكثير منكم يستعد لتناول ما تيسر منها بشغف ولذة بعدما فتحت شهيته عليها. وبإنتظار تتذوقوها، نقول لكم صياماً مقبولاً وإفطاراً شهياً…

للأولاد طقوسهم وأهازيجهم الرمضانية

لشهر رمضان وقعه الخاص عند الصغار الذين يحتفلون به على طريقتهم الخاصة تعبيراً عن إنسجامهم مع الجو الرمضاني العام الذي يكون مخيماً على مختلف أوجه الحياة اليومية طيلة شهر بأكمله. فعلى الرغم من مشقة الصوم ، كان الصغار يحرصون على أن يصوموا، غير مكتريثين لأي جوع أو عطش، وكأنهم يريدون التعبير عن أهليتهم للقيام بواجباتهم الدينية وقدرتهم على تحمل الصيام، وبالتالي مشاركتهم لأهاليهم فرحة رمضان.

***

•المدارس كانت تهيئ الأولاد لرمضان:

وكانت في الماضي بعض المدارس الإسلامية تهيىء الأولاد لرمضان من طريق تنظيم رحلات لهم إلى المتنزهات بصحبة مرشديهم لتمضية “سيبانة رمضان” بهدف تهيئتهم نفسياً ومعنوياً لشهر الصوم، لا سيما الأولاد من الأعمار التي يجب عليهم شرعاً التزام فريضة الصوم.

****

الليمون والكبش قرنفل للإعانة على الصوم:

ومن العادات التي إعتادها الأولاد لتساعدهم على الصوم إحضار برتقالة أو ليمونة حامض وشكها “بكبش القرنفل” بأشكال فنية جميلة وإستنشاقها طيلة الوقت لأن البرتقالة أو ليمونة الحامض المشكوكة “بكبش القرنفل” تعطي نكهة عطرية جميلة تنعش نفوس الأولاد . وإختيار هذه العادة المتوارثة من الآباء والأجداد لم تكن وليدة الصدفة بل أن إختيارهم لها تم بعناية وإدراك لأن “الكبش القرنفل” كثير المنافع وينشط الدماغ والذهن والصوت ويطيب النكهة ويقوي الصدر والمعدة ويزيل الوحشة والوسواس ويمنع الأعياء.

ولنفس الغرض كانت بعض الأمهات تزود أولادها بكيس صغير من قماش “الكتان” بعد أن تملأه بزهور “اللافندر” الجافة، أيضاً للإستنشاق بهدف منح الأولاد الشعور بالإنتعاش والترطيب. 

****

•الأولاد يسخرون من زملائهم المفطرين:

كذلك من عادات الأولاد في رمضان ومن باب التباهي بصومهم والتفاخر بذلك أمام زملائهم المفطرين ، وأنهم عند خروجهم الى ملعب المدرسة خلال فرصة الساعة العاشرة ، طلب كل واحد من زملائه إخراج ألسنتهم لمعرفة المفطرين منهم. فالصائم يبيضّ لون لسانه، أما المفطر فيبقى على إحمراره . وعند إكتشاف مفطر بينهم يطلقون عليه أهازيجهم كأن يقولوا له: ” يا فاطر هلق بالسقف معلق” ، أما الصائم فكانوا يغنون له: “يا صايم عشية بتمك كبة مقلية ويا صايم شو مخبالك؟ مخبالك دجاجة محشية وبالسمن مقلية”.

وهذا النوع من الأهازيج شائع بين الأولاد في أكثر الدول العربية، ففي سوريا يردد الأولاد عند مشاهدة المفطر “مفطر يا مالك، ياما مخبالك، مخبالك أبو زعزوعة، يلفك بالقبوعة. أما في الجزائر فيقولون: يا وكّال رمضان ، يا خاسر دينو ، وكلب أسود يقطع مصارينو.

****

•كثرة السؤال عن وقت المدفع:

وبعد الإنصراف الأولاد من المدارس وعودتهم إلى المنازل، كانوا يقضون وقتهم إما بمساعدة أمهاتهم بتحضير الطعام ، أو النزول إلى الساحات في إنتظار سماع صوت المدفع وآذان المغرب. دون أن ينسوا من كثرة طرح أسئلة الإستفهام عن موعد الإفطار وكم من الوقت يبقى لإطلاق المدفع وعن نوعية الطعام الذي تحضره أمهاتهم للإفطار.

****

•أهازيج الأولاد الرمضانية:

يفيدنا المؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري أنه من العادات القديمة أن الأهل كانوا يستخدمون الموسيقى للتخفيف عن أولادهم الصائمين، فبيروت عرفت العديد من الفرق الموسيقية التي كانت تعزف موسيقاها خلال الوقت الذي يفصل موعد الإفطار.

ففي محلة البسطة كانت هنالك فرقتان الأولى تأخذ مكاناً لها في جوار المخفر والثانية مقابلها. وهما “جوقة العجوز” و “جوقة الأفراح”، فتعزف كل جوقة ما شاءت من الألحان والأناشيد، ومع قرب غروب الشمس كانت تنتهي الجوقتان ألحانهما ، وكان الأولاد المجتمعين حولهما يرددون:

قوموا روحوا ، قوموا روحوا

ما كنتوا تقوموا تروحوا

لزقتو متل التمرية

من عابكره لعشية

وكان الأولاد يطلقون مثل هذه الأهازيج في إشارة إلى أن رحيل الفرقتين يعني قرب موعد الإفطار.

بعدها يجتمع الأطفال في الساحات بالقرب من المساجد فإذا ما سمعوا الآذان أو صوت المدفع أو شاهدوا إرتفاع علم سارية الآذن إيذاناً بموعد الإفطار، هرعوا إلى أهاليهم صائحين:

“افطروا افطروا “، فكانوا يضفون أجواء من البهجة على نفوس أهلهم.

يشار إلى أن مثل هذه العادات موجودة عند غالبية الدول العربية ، فمثلاً الأولاد الكويتيون كانوا يتراكضون بإتجاه المؤذن لحثه على الإسراع في رفع آذان المغرب منشدين:

يا مؤذن أسرع أذّن أسرع أذّن

ترى الصيام ياعوا ياعوا (جاعوا)

ترى الفطار شبعوا شبعوا

أذّن يا عيسى حطوا الهريسة

أذّن يا اسماعيل حطوا المواعين

أما في السعودية وإذا ما حان وقت الغروب قام الأطفال بجمع ما يحصلون عليه من المأكولات الرمضانية الشعبية في صحن واحد وهم ينتظرون الأذان ويرددون مداعبين المؤذن

مال المؤذن .. ما يأذن

مال الموذن .. حنَّا يبغى فتيتة حنَّا

مال المؤذن دَنَّا

يبغى لُبَّة عيش وخميرة

مال الموذن دنا

هب له زبادي وفتيتة

****

•تدريب الصغار على الصوم:

رمضان هو الشهر الذي يجمع الكبار والصغار في فرحة تتناسَب مع أجواء الشهر الكريم، وتتضاعف هذه الفرحة عندما يتشارك الكبار والصغار صومَ أيام الشهر المبارك، وتَحرص كلُّ أمٍّ على تدريب أطفالها على صوم أيام هذا الشهر الكريم، من خلال تعويدهم تدريجيًّا على الصيام، وترغيبهم فيه، حتى يستطيعوا صوم الشهر كاملاً عندما يبلغون سنَّ التكليف.

فقد جرت العادة في الماضي على أن يتعوَّد الطفل على الصيام تدريجيًّا على طريقة “درجات المئذنة”، كما لو كان يصعد “المئذنة” درجة درجةً، وعندما يتمكَّن الطفل من صيام يومٍ كامل، تُقيم له العائلة ما يُطلق عليه “فطورية”، وهي عبارة عن شراء العائلة لكلِّ ما يُفضِّل الصغير من حلويات، ويَذهبون قبل الإفطار إلى أسرة الطفل، وتُقدم له الحلوى، وعند الإفطار يقام له احتفالٌ صغيرٌ.

لذلك، كان يطلب من الأطفال أن يصوموا اليوم الأول من رمضان ونصفه وآخره حتى يعتادوا فيما بعد على الصوم الشهر بأكمله. وغالبا ما كان الصغار يدّعون إلتزامهم الصوم تلك الأيام أمام أهلهم وزملائهم، إلا أنه في الخفا يتناولون ما استطاعوا من أكل وماء ليساعدوا أنفسهم على الصمود حتى موعد الإفطار.

ومن العادات التي اشتَهر بها الأهل في شهر رمضان عادة الاحتفال بالصوم الأوَّل للأطفال في يوم من أيام رمضان، ولا سيَّما في السابع والعشرين منه.

في سياق الحديث عن صوم الأولاد لا بد من الإشارة إلى واقعة حصلت قديماً، فقد روي بأنه جيء برجل سكران في شهر رمضان إلى أحد الخلفاء فأمر بجلده ثمانين جلدة لشربه الخمر وعشرين جلدة بعدها. فسأله: ما هذه العلاوة يا أمير المؤمنين؟ فقال الخليفة: لإفطارك في شهر رمضان وأولادنا صيام. فقد أدرك الخليفة ما يلاقيه الأولاد من ألم الصيام والجوع وإزدياد ألمهم عند مشاهدتهم المفطرين.

****

رمضان هو الشهر الذي يجمع الكبار والصغار في فرحة تتناسَب مع أجواء الشهر الكريم، وتتضاعف هذه الفرحة عندما يتشارك الصغار مع أهتليهم صومَ أيام الشهر المبارك، فيتحلون حول مائدة الإفطار وكأنهم النجوم التي تزينها.

شفا وخمير يا “عرقسرس”

و”بالجلاب” تهنى يا عطشان

‏‎لا تخلو أي مائدة من موائد رمضان من المشروبات العربية التي إقترنت بالشهر الكريم، حيث لا غنى عنها على الإطلاق، بل هي وبحسب العرف الشعبي من الضرورات التي لا بد من توافرها عند الإفطار للتغلب على الظمأ والعطش.

‏‎فإقبال الصائمين على تناول المشروبات الرمضانية كالعرقسوس والتمر هندي والقمر الدين والكركديه والجلاب مرده إلى حاجتهم لشراب بارد – مثلج يبدد شدة الظمأ وغلة العطش الذي يسيطر عليهم طيلة فترة الصوم، خصوصاً إذا تزامن الشهر الفضيل خلال فصل الصيف، حيث يكون النهار مديد والحر شديد. وهذا ما عبَّر عنه الشاعر البصري بقوله:

‏‎حـزيـران وتـمـوز وآب ثـلاثـة أشهر فيها العـذاب

‏‎فإن قُرنت بشهر الصوم صرنا سـبائـك في بواتقها تُـذاب

• الجلاب:

الجلاب رِطبُ لسان المؤمن، قطوف اليوم. رشقٌ في عمر وسردابٌ الى الارتواء. فالجلاب شراب منعش وطيب ولذيذ وطعمه مدهش، وهو يسمى شراب الزبيب لأنه في الأصل كان يُصنع من عصير الزبيب ويتم تطييبه بالبخور قبل أن يُصبح تحضيره صناعياً بواسطة ثمرة الخروب.

‏‎وقد أُطلق عليه هذه التسمية لأن تناوله يجلب الإنتعاش والشعور بالبرودة وحلاوة الإحساس، فضلاً عن فوائده الكثيرة المستمدة من الزبيب الذي هو عبارة عن العنب المجفف.

‏‎فلقد عرف العرب الزبيب منذ مئات السنين. وأجود الزبيب ما كبر حجمه وسمن شحمه ولحمه ورق قشره. ومدح بعض الشعراء الزبيب ومنهم أبو طالب المأموني الذي قال في وصفه:

‏‎وطائفي من الزبيب به

‏‎ينتقل الشرب حيث ينتقل

‏‎كأنه في الإناء أوعية

‏‎من النواجيد ملؤها عسل

‏‎وقال فيه إبن سينا: الزبيب صديق الكبد والمعدة وينفع الكلى والمثانة.

‏‎كذلك فإن المجتمع الغربي إستلطف مذاق الجلاب ونقله إلى بلدانهم، وذلك عندما كان أفراد الأسطول التجاري الإنكليزي يعودون من الشرق الأوسط بعادات جديدة مستمدة من نمط الحياة الإجتماعية في تلك البلاد. ويُستدل على ذلك من خلال الكلمات الإنكليزية ذات الأصول العربية. ومن هذه الكلمات (Julap) التي تعني ذلك الشراب المشهور في البلاد العربية والمعروف بالجلاب.

 ****

‏‎• العرقسوس:

‏‎شفا وخمير يا عرقسوس… وبارد وخمير وآتهنى يا عطشان …

‏‎هذه العبارات إعتاد أن يغنيها بائع “العرقسوس” للإعلان عن شراب عُرف منذ القدم بمذاقه، خصوصاً في شهر رمضان عندما تكون حرارة الشمس شديدة، فيتناوله  الصائمون عند إفطارهم.

‏‎وشراب “العرقسوس” يحضر من نبات عشبي معمر ينبت في الكثير من بقاع العالم خصوصاً في سوريا ومصر والعراق وآسيا الصغرى وأوروبا وإسبانيا. وفي الصين ُيصنف ضمن لائحة الأدوية التي تحتل المرتبة الأولى. وخلال الحرب العالمية الأولى كان الفرنسيون يعطونه لعساكرهم لأنه يمتلك تأثيرات محفزة ومنشطة للجسم.

‏‎عرف “العرقسوس” منذ القدم وورد ذكره في الكثير من الكتابات .وكان البابليون يستعملونه كدواء. أما الفراعنة فجعلوا من نقيع جذوره شراباً مرغوباً، وكان أطباؤهم يمزجونه مع الأدوية بغية إخفاء طعمها ولعلاج أمراض الكبد والأمعاء.أما الرومان فكانوا يستخدمونه لعلاج السعال ونزلات البرد.

‏‎ولأن شراب “العرقسوس” يتمتع بقدرة كبيرة على كسر وروي العطش، يشهد رواجاً كبيراً خلال شهر رمضان المبارك ، فيقبل الناس على شرائه بوفرة وكثرة إما من المحلات المتخصصة أو من الباعة المتجولين بلباسهم المميز والأدوات والأوعية التي يحملونها على ظهورهم أو على العربات ويمسكون بيدهم صاجين نحاسيين يصدران صوتاً مميزاً لشد إنتباه المارة.

‏‎تشير المراجع إلى ان كلمة “عرقسوس” كلمة عربية الأصل تتكون من مقطعين: الأول (عرق) بمعنى متجذر و(سوس) بمعنى متأصلة. فالكلمة تعني إمتداد جذور النبات في الأرض، وتعني في بعض اللغات (الخشب الحلو). وهو نبات شجري معمر وينبت في الأرض البرية حول حوض البحر الأبيض المتوسط .

‏‎يذكر أخيراً أن إستخدامه وشرابه كان يقتصر في الماضي على الملوك الفراعنة فقط. وظلت الأجيال الفرعونية الحاكمة تتوارثه باعتباره شراباً ملكياً خاصاً لأعتقادهم أنه يطرد الشياطين، إلى أن جاء الفاطميون فأقبل عليه الناس ليصبح شراب العامة، ويتسيد فيما بعد مشروبات رمضان.

****

توحيش رمضان والجمعة اليتيمة
توديع له بمشاعر الحزن والأسى

ساعات قليلة وينتهي شهر رمضان المبارك، ومع نهاية الشهر الكريم ، إنتشرت بعض العادات منذ قديم الأزل والتي لا يزال البعض يقوم بها في وداع هذا الضيف الغالي؛ كنوع من إظهار الحزن والأسى على فراقه.
فقد جرت العادة في العشر الأواخر من رمضان، أن يودع المسلمون الشهر الكريم بمظاهر الألم والحزن والتحسّر لقرب رحيله.
والعشر الأخيرة من رمضان كان يسمى “أيام التوحيش”، وكلمة التوحيش من الوحشة التي يشعر بها الصائم لمفارقة شهر رمضان…
****
•ولا أوحش منك يا رمضان:
هذه العادة القديمة تعرف بـ (التوحيش) أو (توحيش رمضان)؛ فهي نوع من الأناشيد الدينية التي ترتبط بوداع رمضان، حيث إعتاد مؤذنو المساجد قديما في الأيام الأواخر من شهر رمضان المبارك، توديعه بكلمات ذات نبرات مؤسية، ونغم حزين، لها وقعها على المستمعين، ويقولون: “لا أوحش الله منك يا رمضان لا أوحش الله منك يا شهر القرآن لا أوحش الله منك يا شهر الصيام لا أوحش الله منك يا شهر القيام لا أوحش الله منك يا شهر الكرم والجود لا أوحش الله منك يا شهر الولائم”…
قال الخوارزمي في معنى: “لا أوحش الله منك”، أي لا أذهبك الله، فتوحش أحباءك من جانبك بالفراق.
ويردد الموشحون في “التحنين” كلمات أخرى تحمل طابع الدعاء، كقولهم:
“يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت
يا حنَّان يا منَّان.. أجرنا من عذاب النار
يا ذا الجود والإحسان ثبتنا على الإيمان
صلى الله ربنا على النور المبين
أحمد المصطفى سيد العالمين
وعلى آله وصحبه أجمعين
اللهم بجاه الحبيب توفنا مسلمين”.
****
•قدم عادة التوحيش:
والتوحيش عادة قديمة تختلف بين بلد وآخر. وللدلالة على قدم عادة توحيش رمضان، يشير المؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري الى أنه عُثر في مكتبه “الاسكوريال” في اسبانيا على أقدم مخطوطة تحمل عنوان: “وداع رمضان المعظّم” لإبن الجوزي المتوفى سنة 1200م. ولذا يمكن القول بظهور تلك العادة على الأقل منذ القرن السادس للهجرة.
****
•”التوحيش” في بيروت:
في بيروت فقد شاعت عادة “التوحيش” مع إقتراب شهر رمضان من نهايته، مع أواخر القرن الماضي وأصبحت تلك العادة من مقومات العبادة حتى أن الدولة العثمانية سنّت التوديع وأمرت بإبقاء المصابيح والإكثار منها في سائر ليالي رمضان وأمرت المؤذنين أن يحتفلوا لهذه الأوقات الشريفة ويكثروا فيها من التسابيح والتهليل وينشدوا القصائد الموضوعة في المديح النبوي.
وقد روى الشيخ عبد القادر قباني في صحيفته “ثمرات الفنون” أن السلف الصالح في بيروت كان يحيي الليالي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك بالقيام والخشوع وتلاوة القرآن الشريف، وكان الإنسان إذ مرّ في أحياء البلدة (بيروت) لا يسمع إلا تلاوة القرآن، وكانت مجالس القوم عامرة بذلك”.
ومنذ ذلك الوقت بقيت عادة “التوحيش” قائمة في مساجد بيروت التي كانت تضاء أنوارها ويرتادها المؤمنون بكثرة وتقام في رحابها الصلوات وحلقات الذكر والإنشاد والدعاء وختم القرآن الكريم، وكانت فرق الإنشاد النبوي تطوف الشوارع في أوقات السحور حتى تبلغ الجامع العمري الكبير قبل إقامة صلاة الفجر.
****
•الإحتفال بليلة القدر المعظمة:
وكان الإحتفال بليلة القدر المعظمة في سائر مساجد بيروت، يندرج في سياق “توحيش” رمضان، لما لها من شأن وقدر عظيمين ينتظر المسلمون فضائلها من عام لعام.
فالإحتفال بليلة القدر المباركة خلال العشر الأخيرة من رمضان، ويظن أنها تصادف يوم 27 منه يكتسب قيمة دينية خاصة عند المسلمين بصفتها خير من ألف شهر، لأن في ليلة القدر نزل القرآن الكريم على النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ففي ليلة السابع والعشرين يجتمع الناس في المساجد ويؤدون الصلوات ويستمعون الى الذكر والأوراد ويتلون القرآن الكريم ويبتهلون الى المولى ويدعونه بقلوب خاشعة راجية يغمرها التقوى والايمان.
وكانت ليلة القدر في بيروت تكتسب ميزة خاصة، فبالإضافة الى الاحتفالات التي كانت تعم مساجدها وجوامعها وزواياها الشريفة، كانت تفتح أبواب الحجرة التي كان موضوعاً فيها الأثر الشريف في الجامع العمري الكبير، (الذي هو عبارة عن ثلاث شعرات من لحية النبي صلى الله عليه وسلم، أهداها السلطان العثماني الى مدينة بيروت)، وذلك للتشرف والتبرك بها.
يذكر أنه في الحقبة العثمانية، كان يحضر الوالي والأعيان للتشرف بزيارة الأثر المذكور في تلك الليلة المباركة، قبل تتوافد عامة الناس للتبرك له.
إذن، الإحتفال الرسمي بليلة القدر المشرفة، كان يقام في الجامع العمري الكبير، بصفته أقدم وأكبر جوامع بيروت (قبل تشييد جامع محمد الأمين)، إذ كان يزين مدخله، وساحته والشوراع المؤدية إليه بالأنوار والزينات، وكانت ترش بالمياه، وترفع اليافطات المعظمة للمناسبة، وتستقدم الفرق الكشفية للترحيب بالشخصيات الرسمية والدينية، وكان يتخلل الإحتفال الكبير وسط حشود المؤمنين، كلمة لسماحة مفتي بيروت (قبل أن يتحول المقام إلى مفتي الجمهورية اللبنانية)، كما كان يتعاقب القراء على تلاوة القرآن الكريم، في حين كان المنشدون وفرق المديح يحيون الليلة المباركة بالإنشاد والإبتهال والمديح والدعاء.
فالنوم في ليلة القدر كان يخاصم جفون الصائمين الذين كانوا يذوبون في العبادات من صلاوات وختم للقرآن ومديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تهتز القلوب خشوعاً ورهبةً وتملؤها نفحات روحية وإيمانية، تقربهم من الله سبحانه وتعالى.
****
•توحيش “المسحراتية” بيروت:
وفي الماضي، لم يكن التوحيش يقتصر على المنشدين المحترفين في مساجد بيروت فحسب، بل كان يلجأ “المسحراتي” إلى تغيير موضوعات أدائه أثناء جولاته إلى “التوحيش”، حيث يملأون الأرجاء بتوحيشهم الذي يواصلونه من الإمساك حتى آذان الفجر.
وفي صوت ملؤه الأسى والحزن، كان المسحرون يرددون عبارات التوحيش، التي تحمل حزن الناس على إنقضاء الشهر الكريم وإحساسهم بالوحشة لغيابه، وافتقادهم لأجوائه العامرة بالخشوع والمحبة والتواصل.
ومن أشهر هذه النصوص:
شهر الصيام مفضل تفضيلا/ نويت من بعد المقام الرحيلا/ قد كنت شهراً طيباً ومباركاً / ومبشراً بالعفو من مولانا / بالله يا شهر الهنا ما تنسانا / لا أوحش الرحمن منك.
****
•الأطفال يوحشونه أيضاً:
بقدر ما كان الكبار يتحسرون على قرب رحيل وإنقضاء شهر الرحمة، فكان للأطفال طقوسهم الخاصة بالمناسبة، ربما حرصاً من الأهل على تدريبهم مبكراً على أن يعيشوا أجواءه.
فكان الأطفال في الأحياء الضيقة يتجمعون قبل الغروب، بعدما يكونوا قد تعبوا من اللهو واللعب، ليطوفوا على البيوت للحصول على بعض الحلوى، مرددين:
يا رمضان يا بو صحن نحاس،
يا داير في بلاد الناس،
سقت عليك أبو العباس،
تخليك عندنا الليلة.
كما ينعونه بمزيد من الأسى قائلين :
يا رمضان يا ابن الحاجة،
يا ميت على المخدة،
يا رمضان يا ابن عيشة،
يا ميت على العريشة.
****
• التوحيش في مكة قديماً:
كما أشرنا في المقدمة، فإن “التوحيش” عادة قديمة. وللدلالة على قدمه نورد أنه في الحرم المكي الشريف كان يحتفل بالعشر الأواخر من رمضان، وكان يُختَم القرآن الكريم في كل وتر في الليالي العشر الأواخر بحضور القاضي والفقهاء.
ويشير إبن جبير في رحلته “اجتهاد المجاورين للحرم الشريف” الى ليلة إحدى وعشرين بقوله: …”فأولها ليلة إحدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور الى منزله الى طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما”.
ثم يتطرق الى ليلة ثلاث وعشرين فيقول: “وكان المُختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً. وذلك أنه أعد له ثرياً مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم مما يلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، ورُبطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسُمّر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غُرز”….
****
•الجمعة “اليتيمة” في مصر:
رغم أن الفقهاء والعلماء ينفون وجود أي سند شرعي لما يطلق أهل مصر على آخر يوم جمعة من رمضان من تسمية الجمعة “اليتيمة” أو “الحزينة”، فإن هذه التسمية هي مجرد سلوك إجتماعي مرتبط بالعادات والتقاليد الراسخة.
يرجع البعض تسمية آخر جمعة من رمضان باسم “الجمعة اليتيمة” بهذا الاسم؛ لأنها لا أخت لها بعدها في هذا الشهر، وكانت الحشود الهائلة تجتمع من ذي قبل لأداء الصلاة بأول مساجد مصر وأفريقيا المعروف بـ “المسجد العتيق” أو بـ “تاج الجوامع” الشهير بـ ” مسجد عمرو بن العاص”، حيث كانت تحضر إليه من جميع أنحاء القاهرة وأحيانا من خارجها، وكان حكام مصر من الأسرة يحافظون على هذا التقليد من سنة 1805 – 1952، حيث يصلون صلاة الجمعة اليتيمة في هذا المسجد الشهير. وكان يتم فرش المسجد بفرش خاص من الحرير، وتعلق على المحراب ستارتان من الحرير الأحمر عليهما عدد من قصار السور، وكان قاضي القضاة يقوم بتبخير المنبر بأجود أنواع البخور بواسطة مبخرة مصنوعة من الفضة المطعمة بالذهب، ويأتي الخليفة في موكب مهيب يرتدي ملابس بيضاء اللون إستعداداً لصعود المنبر وإلقاء الخطبة. (وفقا لما جاء في كتاب: “شهر رمضان فى الجاهلية والاسلام” لأحمد المنزلاوى‎).
****
ناصر يؤديها في الأزهر:
ظل أداء صلاة الجمعة اليتيمة بأحد المساجد الكبرى بالقاهرة من التقاليد الملكية والرئاسية لسنوات طويلة، ربما تأثرا بالوجدان الشعبي الذي يحرص على صلاة آخر جمعة في رمضان قبل توديع الشهر وانتظاره لسنة كاملة.
الملك فاروق كان من أوائل حكام مصر الحديثة الحريصين على أداء صلاة الجمعة اليتيمة في مكان عام، إذ كان يؤديها إما في جامع السيدة زينب أو جامع عمر بن العاص في الأغلب.
وبعد ثورة يوليو مباشرة أدى الرئيس محمد نجيب الجمعة اليتيمة في الأزهر، وهو نفس المسجد الذي اختاره الرئيس جمال عبد الناصر الذي يعتبر الأكثر مواظبة على الاحتفال بهذا اليوم طوال سنوات حكمه.
****
وفيما رمضان يتهيأ للرحيل، بعدما حلَّ علينا ضيفاً عزيزًا، مقرباً بين القلوب ومهذباً للنفوس، صمنا أيامه وقمنا ليله، وعشنا أجواءه بالبهجة والسرور، رغم ما أصابنا من وباء وبلاء، نسأل المولى أن يجعلنا من عتقائه ومن المقبولين.
وها أنا ألملم أوراقي المبعثرة، وأفكاري المشتتة، وخيبتي مما بلغناه من النفاق، وأمضي… بعدما عشنا ذكريات عاداته وتقاليده الإجتماعية بكل جمالياتها، مشدودين للحنين إليها….

________

*باحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website