بيروت المتعَبة نُكّست بيارقها الرمضانية، ولن تغنّي للعيد!

Original image by Cedric Ghoussoub
زياد سامي عيتاني*

بيروت المتعبة والمنهكة والجريحة.. التي ترسّخت جذورها منذ القدم على التعبّد والتديّن، كانت تُعَدّ في الماضي خلال شهر رمضان المبارك من المدن الزاهية، إذ كانت شوارعها تزدان، ومناطقها وساحاتها وتضاء فيها المصابيح، وتشعّ أنوار مساجدها ترحيباً وإحتفالاً بقدوم شهر الصوم والعبادة، حتى كانت الأنوار تتصل بين مآذن ومنارات المساجد والجوامع، مما يُدهش الناظر ويسر الخاطر.

فما أن يحلّ الشهر الكريم، فذلك يعني أن تضاء القلوب بنور الرحمة، وأن تصير الليالي المباركة موئلاً للأنس والفرح، وأن تتلوّن الأماسي الزاهية ببهجة اللقاء، فتخرج الفوانيس والقناديل والزينات من مخابئها إلى الملأ، لتزيل عن الليل عتمته المقيمة، وتنقي القلوب من ظلمة مستبدة، ولتتنور النفوس والقلوب بنور الإيمان…

أما اليوم، ووسط هذا الإنهيار العظيم، والجوع والعوز اللذين يطرقان الأبواب دون رحمة ولا رأفة! فإن بيروت حزينة حتى الموت!!!  تفتقد أجواء رمضان، وخيراته ونورانياته وروحانياته! تعيش رمضان وسط غياب تام لكل مظاهره وعاداته وتقاليده وحلته! لا إحتفالات، ولا فرحة، ولا ولا بهجة، ولاسرور! لا زينات، ولا أضواء، ولا يافطات مرحبة بالضيف المعظم! حتى المساجد والجوامع لم تعد تشع ضياءاً، بعدما أطفأ إنقطاع  التيار الكهربائي أنوارها!!!

فليالي بيروت الرمضانية مظلمة شديدة السواد، كقلوب من  أخمد قناديلها ومصابيحها، بعدما كانت ليالي شهر النور بالضياء باهرة وبالعطور ساحرة، مثل النجوم الساطعة في السماء الصافية، لما كانت مشعة متلألئة، كالقمر المكتمل ليلة التمام.. فلا إفطارات، ولا سهرات، ولازيازات، ولا مسرات، ولا مآدب، ولا أطايب!!!

الأسواق خالية وخاوية، إلا من المتسولين الوافدين، لا زبائن ولا من يشتري أو يبيع، وسط الإرتفاع الجنوني للأسعار، الذي يقابله شحّ وطفر مالي غير مسبوق، فترى واجهات المحلات التجارية وكأنها إكتست بالسواد حداداً على أوضاعها، بدلاً من إكتساء الحلة الرمضانية الزاهية بكلّ مباهجها!!!

رمضان هذا العام من دون “لمة”، التي كانت تجمع صلة الأرحام والجيران والأصدقاء، بالكاد كلّ عائلة قادرة أن تستر حالها بحواضر البيت (من قريبو)، حتى “السكبة” (تبادل الطعام بين الجيران) تلك العادة التي تنمّ عن الألفة والمحبة وحسن الجوار، حيث كانت تساهم في تنوّع أصناف سفرة رمضان، وتُطرح فيها البركة، ليس بإستطاعة أغلب الناس القيام بها، فالبيوت “مغطاية بقشة”(!) لا أحد يعلم كيف يتدبرون أمرهم، وعلى ماذا يفطرون بعد مشقة الصيام(!) فموائد الإفطار التي كانت تذخر بما لذّ وطاب من أصناف الطعام المتنوّع، باتت مجرد ذكرى من الماضى، لا يجرؤ أحد للعودة إليها!!

وكم من رب عائلة كانت مستورة (ولم تعد مستورة) في عينه دمعة وفي قلبه ألف غصة وغصة، وهو يقف عاجزاً أمام أولاده عن تأمين ما يشتهون عند الإفطار!!!

 حتى صحن “الفتوش” الذي كان من ضروريات مائدة رمضان، والذي كان يضفي رونقاً ولا أجمل عليها، سواء لجهة نكهته اللذيذة أو لجهة ألوان الخضراوات المقطعة الزاهية، كأنه حديقة مصغرة على المائدة، فإنّه بات من الكماليات، وكأنّ لسان الحال، تحريف المثل البيروتي: “يا صائم مهما تحوش، ما لح تحصل على صحن الفتوش”(!) فإعداد صحن ال “فتوش” لأسرة من أربع أشخاص يلتهم نصف الأدنى للأجور!!!

أما الأطباق والمأكولات التي تطبخ مع اللحم أو الدجاج، فهي باتت مجرد تمنيات وأمنيات مستحيلة المنال، وعند ذكرها يقاسي السامع حسرة على الأيام الخوالي، ويخاله لفظاً بغير معاني، بعدما إستبدلت بالعدس والفول، عملاً بقول الشاعر:

الحمد لله ربي خالق الجزرا

والفول والعدس والخبيز للفقرا وكذلك قول شاعر آخر:

صباح العوافي الفول كُلْ منه بُكْرة فمالي غدا قط إلاه يؤكلا

ولا سيما إن كنت أصبحت مفلسا فلم شيئا غيره قط أسهلا

أما الحلويات الرمضانية صارت من المكملات الغذائية المستحيلة، حيث لا يجرؤ أحد مجرد الإقتراب من محلات بيعها!

فالقطايف لم يعد يصح فيها قول الشاعر:

دعاني صديق لأكل القطايف

فأمعنت فيها غير خائف

فقال وقد أوجعت بالأكل قلبه

رويدك مهلاً فهي إحدى المتالف

فقلت له ما إن سمعنا بميت

ينادى عليه يا قتيل القطايف!

كذلك فإن الكنافة لم يعد بمقدورها منافسة القطايف، ولم يعد بمقدورها أن تخاطبها بفوقية:

غدت الكنافة بالقطايف تسخر

وتقول: إني بالفضيلة أجدر

طُويت محاسنها لنشر محاسني

كم بين ما يطوى وآخر ينشر

فحلاوتي تبدو وتلك خفية

وكذا الحلاوة في البوادي أشهر…

وينطبق على الكنافة أيضاً قول الشاعر:

سقى الله أكتاف الكنافة بالقطر .. وجاد عليها سكرًا دائم الدر

وتبًا لأوقات المخلل إنها ..

تمر بلا نفع وتحسب من عمري!

بكل أسف هذا واقع حال أغلب الناس، بعدما تحولوا إلى متسولين على أبواب المصارف، أو على مستوعبات القمامة!!!

حتى “المسحراتي” الظاهرة الرمضانية الأبرز الذي كان جزءاً أساسياً من تراث رمضان الشعبي وتقليداً ملازماً له، غاب عن أحياء ومناطق بيروت المعتمة، خوفاً من تعرضه لأي سوء، بعدما كثرت جرائم السرقة والقتل والإعتداءات خلال ليل بيروت الداكنة السواء من جراء الإنقطاع الدائم للكهرباء، فحرمنا من سماع ضربات طبلته وصوته الرخيم، المصحوبة بأناشيد دينية، ومناداته للناس بأسمائهم ودعوتهم لتناول طعام السحور، وفقدت معه ليالي رمضان أجواء السكينة الممزوجة بالسعادة والفرح التي كان يشق بها سكون الليل بمناجاته التي كانت تعم كل الأرجاء…

وما يزيد من معاناة ومأساة الناس المعدومة والمعوزة في هذه الأيام التي تعيشها بيروت وسائر المناطق اللبنانية، أن أهل بيروت المفطورين على عمل الخير لمستحقيه، لا سيما المقتدرين منهم مالياً، الذين كانوا لا يفوتوا فرصة شهر رمضان المبارك لإخراج زكاة أموالهم، وتقديم المعونات والمساعدات على ما يقدرهم عليه الرزاق المعطي للعائلات المستورة والمحتاجين، لم يعد بمقدورهم هذا العام إزاء الإجراءات المصرفية التعسفية التي حجزت على أموالهم فيها، من مدّ يد العون لمن ضاق بهم الحال وما أكثرهم، مما أفقد شهر الخير والعطاء بعداً إجتماعياً شديد العمق والتأثير في التكافل الإجتماعي، وتوطيد أواصره!!!

تبدد زمن الخير والبركة في بيروت،  وخسرت أجواءه الروحانية الممزوجة بعبق الألفة والمحبة، التي للأسف بتنا نفتقدها، حيث أنها هذا العام لم تعلِّ البيارق، ولم تُعد “صندوق فرجة” كبير.. ولن تغني للعيد!!!

ولم يعد بوسعنا إلا أن نتذكر وصف أمير الشعراء أحمد شوقي لرمضان:

“حرمان مشروع، وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع، ظاهره المشقة، وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر ويعلم الصبر، حتى إذا جاع من تعود الشبع، وحرم المترف ألوان المتع، عرف الحرمان كيف يقع وألم الجوع إذا لذع…”.

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website