وصل “غوييوم أنطوان اوليفييه” عالم الطبيعة الفرنسي المتخصص بالحشرات, والمولود عام 1756, الى بيروت مع صديقه “جان غوييوم بريغيير” المتخصص بالرخويات, في شهر تشرين الأول \ اكتوبر من عام 1795, في بعثة حكومية لدراسة التاريخ الطبيعي للأراضي العثمانية وجمع عيّنات منها, بما في ذلك مقاطعاتها في بلاد الشام ومصر.
خلال رحلتهما الشاقة, تعرضت سلامتهما للخطر واضطرا الى مساعدة وعلاج المرضى, كما وجدا نفسيهما, وهما علماء الطبيعة للعب ادوار دبلوماسية بفعل التعليمات من السفير الفرنسي في إسطنبول, للعمل على انشاء تحالف سياسي فرنسي فارسي بأسرع وقت, فاضطرا الى تحويل مسار رحلتهما الى بغداد وايران.
تبيّن فيما بعد ان الرسومات والخرائط التي وضعاها, هي أعمال طبوغرافية, كانت الأساس للخطط الفرنسية الموضوعة للمنطقة.
وضع “اوليفييه” كتاب “رحلة في الدولة العثمانية. من مصر الى بلاد فارس” من ستة أجزاء, و وصف فيه تفاصيل رحلته و ” بريغيير” التي استمرت ست سنوات, وصنّف فيه معلومات عن الجغرافيا والإنتاج والتجارة والزراعة والجيولوجيا والطب والثقافة وقوانين الأراضي التي زارها. ولا تزال مجموعة كبيرة من الاصداف والقشريات التي جمعاها موجودة في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في باريس.
من كتابه المذكور أعلاه, اقتطعنا بعض الفقرات التي كانت بيروت محورها و موضوعها, و نبدأها من لحظة وصول السفينة الى ساحل لبنان في الثالث عشر من شهر تشرين الأول\ أكتوبر, و كيف كان المشهد آسراً و خلاّباً لعيني “اوليفييه”.
“من بعيد لاح جبل لبنان, وتشكّل أمامنا في صورة واحدة من وسط الأزرق الداكن, وفوقه غيوم حمراء متلألئة. وفيما كانت الشمس تستعد للشروق, والغيوم تتبعثر, كانت موجات البحر الضعيفة تعكس الانوار بألف لون ولون. بدت الجبال فعلاً وكأنها بارزة, ومعالمها بدأت تظهر واضحة وتعطي لمحات من تفاصيل بعض الوديان. لقد رأينا بواسطة المناظير المقرّبة أشجار البلوط المعمّرة, وأشجار الصنوبر والأرز التي تتوج قمم هذه الجبال. رأينا القرى متناثرة على المنحدرات, وأصبح بإمكاننا التمييز بين الأصفر والأخضر لكروم العنب, والرمادي الأخضر لاشجار الزيتون.
كانت الرياح الغربية الخفيفة تدفعنا ببطء نحو الساحل, حيث البحر مغطى بقناديل البحر المخاطية الذي اتخذت آلاف الأشكال المختلفة, وكثيرا ما رأينا بعض الأسماك تطير فوق سطح الما تفرّ هربًا من اسنان عدو قاتل.
بعد ذلك, اشرقت الشمس, ولم يكن بحارتنا قد أدركوا بعد موقعهم بشكل دقيق. عند الظهيرة, أجرينا الحسابات وكنا على مسافة أربعة فراسخ ( حوالي 16 كيلومترا ) جنوبًا من بيروت.
كانت الريح ضعيفة لدرجة أننا شعرنا باليأس من امكانية الرسو قبل حلول الظلام, فظللنا هادئين في مكاننا طوال الليل.
وفي يوم الرابع عشر , وحوالي الساعة الثامنة صباحًا, ألقينا المرساة في قاع منطقة تقع إلى الشمال الشرقي من المدينة. كنا على بعد نصف فرسخ من مصب نهر بيروت الصغير, وكان بيننا وبين بر بيروت بعض الصخور الظاهرة في المياه. وكان قاع هذ المكان موحل الى جيّد. وفي أماكن أخرى كان صخريًا وسيئًا جدًا لحبال ويصعب التعامل معه”.
كعادة الرحالة و المسافرين الذين مرّوا ببيروت, يبدأ بالحديث عن مينائها, فيقول ان بيروت خسرت الميناء الصغير الذي كان يفي باحتياجات أهلها وتجارتها, ولم يعد يوجد على شاطئها سوى رصيف بسيط, قديم جدًا, ويحمي المراكب من الأمواج. اما السفن التجارية والحربية فكانت ترسو خارج الميناء معرّضة للرياح الغربية والشمالية الغربية.
تاريخ بيروت القديم جذّاب لكل رحالة, و لا يشذ ” اوليفييه” عنهم, فيخبرنا عن مجموعة من الاثار لا تترك أي شك ان بيروت هي نفسها “بيريتوس” القديمة, و من ذلك أعمدة الغرانيت, “وبقايا حجارة قديمة تنتشر في جميع أنحاء المدينة, وتُستخدم كجدران للحدائق. كما يوجد عدد كبير منها يُستخدم في ترميم االرصيف البحري, و في الأبنية القديمة الموجودة على امتداد حافة البحر غربا. ونرى القناة التي تشق الصخر, ويُمكن رؤية بقاياها, خارج الأسوار (…). كل شيء يثبت ليس فقط أن المدينة الحديثة تحتل جزءًا من موقع المدينة القديمة, بل ان هذه المدينة القديمة كانت واسعة جدًا ومزيّنة بصروح فخمة. نحن نعلم أن “أغريبا”, حفيد هيرودس الكبير , كان لديه مسرح ومدرج وحمامات وأروقة, وأنه لم يدّخر شيئًا لتزيينها”.
ويذكر “اوليفييه” انه حصل أثناء إقامته في بيروت على “لوحة من الرصاص عُثر عليها للتو أثناء الحفر في الأنقاض إلى الغرب من المدينة” و يصف اللوحة بانّها “تحمل صفًا من الأحرف الأولية, ورسم دلفين يتقاطع مع رمح ثلاثي الشعب, واسم دينيس, مفتش السوق: الكل مرتاح”.
عن المياه في بيروت, يقول “اوليفييه” ان المدينة كانت في السابق تفتقر إليها, و كان على الناس الذهاب بعيدا للحصول عليها من بعض الينابيع, اما “اليوم فهناك أربع أو خمس نوافير تصب المياه بكثرة في جميع الفصول, وهي تحت رعاية الجزار باشا, والسكان ممتنون لذلك”.
عن تجارة بيروت يقول:”إن التصدير يتم بشكل كبير جدًا, و يتكوّن أساسًا من الحرير والقطن المغزول الذي يرسله التجار الإيطاليون والفرنسيون إلى البندقية وليفورنو ومرسيليا, و اهل المدينة يصدّرونه الى مصر. كما يتم تصدير بعض الأقمشة القطنية المصنوعة في المدينة وفي قرى الجبال المجاورة”.
رأى “اوليفييه” ان “أراضي بيروت جميلة وخصبة: فهي تشكل سهلاً على شكل مثلث يمتد لمسافة فرسخين تقريبًا, ويعبر باتجاه الجزء الشرقي منه نهر صغير يأتي من جبل لبنان, و يصب على بعد ميلين او ثلاثة من الميناء. ويُزرع هذا السهل جيدًا ويُروى بالكامل تقريبًا. هناك العديد من أشجار التوت القزمية وكروم العنب وحقول القطن والأراضي المزروعة تقريبًا بجميع الخضروات الموجودة في أوروبا. الحدائق المحيطة بالمدينة مزروعة بأشجار التين, والمشمش, والرمّان, والبرتقال, والحوامض , و ايضاً, بعض أشجار الموز. معظم هذه الحدائق محاطة باشجار التين الهندي أو الصبّار ، والتي تُباع ثمارها في الأسواق طوال فصل الصيف”.
يلاحظ “اوليفييه” ان النبيذ لم يعد يُصنع في بيروت, و ما يشربه الموارنة واليونانيين والأوروبيين فهو يُصنع في الجبال المحيطة”.
وعن غابة الصنوبر, يقول”على بعد ثلاثة أو أربعة أميال من المدينة, نحو الجنوب ، توجد غابة صغيرة من أشجار الصنوبر الجملونية الدقيقة (صنوبر ساتيفا), التي زرعها الأمير فخر الدين, كما يقولون, بهدف جعل هواء بيروت اكثر صحيا. والجزار باشا, قطع جزءا كبيرا منها مؤخرًا, لاستخدامه في بناء قصره”.
عالم الطبيعة “اوليفييه” لم ينس مهمته الأساسية التي اتى من اجلها, و هي جمع المعلومات الكاملة عن الطبيعة في بلاد السلطنة العثمانية, فخصّص الكثير من وقته لذلك, و ذكر في فقرات من الكتاب, البذور التي جمعها من بيروت وأرسلها الى حديقة النباتات الوطنية في باريس, وكذلك تحدث عن زهور وزنابق, والتقاطه فراشات غير معروفة ويرقات وقشريات وذكر تفاصيلها واشكالها والوانها. علما ان كل نشاطاته وابحاثه ومشاهداته دوّنها في كتب أخرى في علم الطبيعة.
بعد ذلك, رحل “اوليفييه” الى صيدا ثم صور عن طريق البر, ثم عاد الى بيروت بحراً, ليكمل طريقه الى طرابلس الشام, في مهمة امتدت على مدى ست سنوات, وأخذته إلى آسيا الصغرى وبلاد فارس ومصر وقبرص واليونان, ليعود في ختامها في عام 1798 الى فرنسا, ومعه مجموعة كبيرة من عينات ونتائج دراسات التاريخ الطبيعي التي جمعها في أسفاره.
________
باحث في التاريخ/ عضو جمعية تراثنا بيروت