سأحدثكم عن بيروت (17).. “الروشة”… عندما كانت أهم معلم سياحي

زياد سامي عيتاني*

من يمر بمنطقة “الروشة” في هذه الأيام، يطلق بحسرة ومرارة لذاكرته العنان، وهو يغوص في بحر ماضيها، “نابشاً” منه صوراً راسخة من أيام عزها، ينتحب قلبه حزناً على ما آلت إليه جوهرة بيروت المتلألئة، بعدما كانت من أهم المعالم السياحية المطلة على بحر بيروت، المدينة النابضة بالحياة، والحاضنة لأشهر وأرقى المطاعم والفنادق والأبنية الفخمة، التي كانت متناسقة ومنسجمة بهندستها وعمارتها، وكأنها تعانق “صخرة الحب والإنتحار” الدهرية.. تلك المنطقة التي كانت ملاذ قاطنيها، إضافة إلى أنها كانت تعج بالرواد من سياح عرب وأجانب و”أولاد” البلد، فضلاً عن كبار مشاهير السياسة والفن والمجتمع والصحافة وأهل الفكر والأدب من عرب ولبنانيين..وكلّهم مغبوطين، فرحين، منسجمين في إلفة ومحبة وهناء ..كأنهم يرسمون لوحة فنية زاهية، تختصر مشهدية السعادة والغبطة التي كان ينعم بها أهل المدينة وزائريها…

هذه النهضة والطفرة العمرانية لمنطقة “الروشة”، بدأت مع بداية الستينات، بعدما كانت مطلع القرن عبارة عن حقول زراعية؛ لتتحول بعد ذلك إلى منطقة سياحية بإمتياز، فشيدت في تلك الفترة فنادق فخمة عدّة تطل على البحر، منها: فندق “فيدرال” (Federal Hotel)، وفندق “الكارلتون” (Carlton Hotel)، فضلاً عن مبانٍ سكنية فخمة صممها معماريون مشهورون أمثال “مبنى شمص” لفيليب كرم، و”مبنيي “شيل” (Shell) و”غندور” من تصميم واثق أديب وكارل شاير، إذ ينتمي هؤلاء المعماريون إلى ما عرف بحركة الحداثة في لبنان، حيث طغى عليها طابع الحداثة الهندسية الشبيهة بالنمط الأوروبي، لتقطن فيها العائلات البيروتية الميسورة، فضلاً عن العرب الوافدين إلى بيروت من محتلف الأقطار العربية، كما كانت مقر إقامة كبار الفنانين المصريين الذين كانوا يقضون فترات طويلة في بيروت، من بينهم المطرب الراحل فريد الأطرش الذي أنشأ ناد ليلي في المنطقة حملت إسمه…

كذلك إفتتحت في المنطقة المطاعم والمقاهي والنوادي الليلية، أبرزها: “الغلاييني”، “نصر”، “دبيبو”، “لا غروت أو بيجون”، “شي بول”، “بوباي”، الجندول، نادي عصام رجي، فريد الأطرش”، “شانغريللا” وسواها…

لم تكن مقاهي “الروشة” مقتصرة للترفيه، ولعب طاولة النرد، أو “الدامة” أو “دومينو، “ورق الشدة”، وتدخين الأراكيل، إنما كانت جزءاً حيوياً من معالم بيروت، حيث كانت أشبه بمنتديات للقاءات الأدبية، والفكرية، ومقراً للحركات السياسية والنقابية، ومركز تجمع لتحريك الرأي العام، والتظاهرات، وتنظيم الإحتجاجات، والإنتفاضات المطلبية والشعبية حتى بات بعضها معلماً أساسياً من حركة بيروت. ومن أشهر هذه المقاهي التي إحتضنت أصحاب الرأي في بيروت، مقهى “لا دولتشي فيتا” (La Dolce Vita)، حيث حكي الكثير عنه، أنه كان مركزاً معتمداً لنشاط الكثير من رجال أجهزة الإستخبارات الخارجية المختلفة، الذين كانوا يتخفون بأنهم رجال أعمال أو صحافيين(!) كذلك، قيل بأن في أرجائه حيكت العديد من الإنقلابات في عددمن الدول العربية!

أما أشهر مطاعم “الروشة” فكان مطعم “اليلدزلار” الذي كان يقع في الطابق الأول من المبنى الذي يضم مقهى “الدولتشي فيتا”، كان بمثابة أيقونة “الروشة”، لأنه كان يصنف “عروس المطاعم اللبنانية، ومن أجملها وأفخمها في زمانه الجميل على مدى أربعين عاماً. وإشتهر المطعم بأنه كان يقدم أكثر من ستين طبقاً من “المازة” أي المقبلات اللبنانية…

“الروشة” لم تعد كما كانت! ولا كما تختزنها ذاكرتنا! لم نعد نلمح البحر، الذي جُنَّ، بعدما تم ردمه وغزته الغطرسة الإسمنتية، وبعدما أزيلت كل المعالم السياحية التي كانت تطل عليه من مطاعم وفنادق! وحتى المباني التي تميزت بجمال هندستها المنظقة قد هدمت لمصلة التطوير العقاري بمبانيه التجارية الشاهقة والمتوحشة! حتى باتت منطقة “الروشة” وأيام عزها وإزدهارها قد إنتحرت من على صخرتها!

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website