التراث الحضاري الوطني والعمراني بشكل خاص، شاهد على إنجازات أسلافنا.
قدره أن يبقى في صراع مستمر مع الزمن.
ظاهرة تناقصه المستمر يدفعنا إلى التضامن والمبادرة للحفاظ على ما تبقى منه.
وهو مسعى على قدر أهميته، على قدر ما هو صعب ومعقد.
يؤدي الإرث الحضاري دورًا معنويًا في بناء الأوطان.
هو عود إلى الجذور وهو حاضن للعناصر الثقافية والإجتماعية والروحية.
كثيرون من المواطنين من تراهم غافلين عن أهميته، لا يكترثون لصيانة تراثهم الثقافي.
لا وعي لديهم للحفاظ على الروابط بين ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم.
إن هنري بريغسون (1859 – 1941) يعتبر الرائد في هذا الحقل، مطلق فكرة التراث الوطني والثقافي في اطروحته الفلسفية التي نشرها في السنة 1921.
من رحم هذه الأطروحة، ولدت اللجنة الدولية للتعاون الثقافي وتعتبر الأب الروحي لمنظمة التربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) التي أبصرت النور في العام 1945.
تعززت هذه الفكرة وأخذت تتبلور في بعد شمولي في العام 1972، تاريخ إعداد لائحة التراث العالمي وفيها مواقع تاريخية من مختلف بلدان العالم.
مع بداية القرن الحادي والعشرين تطور مفهوم التراث الثقافي، ما دفع اليونيسكو إلى طرح لائحة جديدة أضيفت على الأولى، أطلقت عليها تسمية “ذاكرة العالم”.
إن الإعتراف بأهمية التعددية الثقافية والبيئية الإنسانية والعمل على تطوريهما إستنادًا على مبدأ التنمية المستدامة بات عنوان التناغم في مختلف عناصر الأصالة التاريخية.
إننا مدعوون اليوم لحماية تراث لبنان الوطني وتعريف العالم على أهمية حواضره وعلى تميزها.
أما داخليًا، فيقع علينا واجب غرس شعور الإعتزاز في نفوس المواطنين لاسيما الأجيال الشابة، وحثهم على الحفاظ على ثرواتهم الثقافية والتاريخية والطبيعية كونها إطار شخصيتهم المعنوية وهويتهم وعلامة تميز مجتمعهم ووطنهم.
إنطوى عامان مع نكباتهما وأوبئتهما وانهياراتهما ومآسيهما، وعينانا دامعتان حتى الإحتراق لنكبة بيروت عاصمتنا بعد أن غدر بها انفجار الإهمال والفساد والإجرام، وخطف من خيرة أبنائها الشهداء والجرحى، وترك المنكوبين بالمئات، لا بل بالآلاف، وحوّل شوارعها العريقة وأبنيتها التراثية إلى ركام وأطلال.
أمام هول المأساة، كلنا مدعوون، وأكثر من أي وقت مضى، للتضامن والتلاقي للنهوض بالعاصمة المنكوبة وإعادة الحياة إلى شوارعها وحماية ذاكرتها والحفاظ على تراثها ومشهدية الجمال فيها التي أبهرت السواح والرحالة والعالم أجمع.
علينا أن نعيدها، على هذا البحر المتوسط، جوهرة براقة تضاهي مدن العالم جاذبية.
على أنقاضها، ونحن أبناؤها الأوفياء، تشدّنا هذه المدينة المتأملة فنسرع بالإمساك بأبنائها المفجوعين بيد وبتراثها المدمر باليد الأخرى.
علينا واجب الحفاظ على هذا التراث.
علينا أن نعيد ترميمه وأن نورّثه إلى أبنائنا بنبضه الراعش إرثًا لهم يرثونه ويتوارثوه.
لا يجوز أن ندع تراث بيروت ولبنان يتفتت ويندثر ويغيب في طوايا النسيان.
الإرث الحضاري نتاج خبرات إنسانية تكدّست جيلاً بعد جيل وتكثّفت.
هو تأكيد لهوية ضاربة في الزمن، صامدة بوجه التحولات والأعاصير، واستمرت مدى العصور واقعًا حسيًا تلحظه عيننا وتلمسه يدنا.
ولأن حوار الحضارات لا يقوم بدون حوار التراث ولأن تواصل التنوع الثقافي هو ثروة تحتاج لتنمية مستدامة كي تستمر.
ولأن التراث عامل جذب سياحي وثقافي وأركيولوجي.
لأجل ذلك، هو أيقونة أمس ورفيق حاضر وبداية غد.
هو هويتنا في المستقبل، به نكون أو لا نكون.
واجبنا أن نحافظ على ما تبقى وأن نسترجع البائد، وأن لا نسمح بزوال ما يتهدده الزوال.
فلنكن على حجم الوصية، وعلى مستوى الإعتزاز بما ورثنا.
ولنتحمل مسؤولية إنقاذ تراثنا، سواء كان طبيعيًا في أرضنا أم حرفيًا أم محمية بيئية أم إرثًا شفويًا أم مخطوطًا أم أيقونة أم تحفة أم مسجدًا أم كنيسة أم معبدًا أم خانًا أم سرايا أم مسرحًا أم مدرجًا أم قلعة أم قصرًا أم ناووسًا أم حجرًا محفورًا أم قماشة أم طريقًا أم واحة أم ساحة.
هذا التراث العظيم هو خبز حضارتنا في معجن الإنسانية الجائعة للحياة والسلام.
________
*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت. مستشار المنتدى الرقمي اللبناني في تراث بيروت.