عفيف دمشقية.. عاشق الإثنين: اللُّغة العربيَّة والحياة

د. وجيه فانوس*

نَشَأَ، مُنْذُ نُعومَةِ أظافِرِهِ، عصاميَّاً؛ وخَطّ طريقَهُ في ساحاتِ المعرِفَةِ والتّربيةِ والتّعليمِ ومجالاتِ التَّبحُّرِ في اللِّسان العَرَبيِّ وبيانه بِما بَزَّ فِيهِ كِبارَاً مِنْ أَرْبَابِ التَّرْبِيَةِ والتَّعلِيمِ وعُلومِ اللُّغَةِ؛ حَتَّى غَدا فِي هَذهِ الحُقُولِ مَرجعاً وعًلَماً.

هو الدكتور عَفيف دِمَشْقِيَّة، الذي وُلِدَ في مدينة «بيروت» سنة 1931؛ ابناً لصحافيِّ وناشطٍ ثقافيٍّ وكاتبٍ وشاعرٍ وإذاعيٍّ بيروتيٍّ لامعٍ، هو الأستاذ أحمد دِمَشْقِيَّة؛ الذي عُرِفَ بِوَعْيِهِ العُروبِيِّ والوطنيِّ، عَبْرَ منظوماتٍ ومقالاتٍ عديدةٍ، منها ما نشره في صحيفةٍ كان يُصدرها باسم «وفاء العرب». والدكتور عفيف دمشقيَّة، هو، عَيْنُهُ، الأستاذ الجامِعيِّ الفَذ، والباحِثُ اللّغويُّ العَلَم، الذي وافته المَنِيَّةُ الصَّاعِقَةُ، سنة 1996؛ آنَ كانَ في ذُرْوَةِ نُضْجِهِ المَعْرِفِيِّ وقمَّةِ عطائهِ الأكَّادِيميّ!

يَوْمَ التحقتُ، سنة 1980، أستاذاً للنَّقد الأدبي والأدب المقارن، في «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّةِ» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»، كان الدكتور عفيف دمشقيَّة من أوَّل الأساتذة الذين تعرَّفت إليهم، وكان الزَّميل الأوَّل الذي شرَّفني وزوجي بدعوتنا إلى عشاء في منزله. وكانت سهرةً من العُمرِ، بالنِّسبة لي، تعرَّفتُ فيها على زميل استمرَّت صداقتي معه، إلى حين كان عليه أن يغادر هذه الحياة؛ وكانت صداقة احترام ومحبَّة ومودَّة، ستبقى في وعيي ووجداني، إلى أن أعود وألتقي بهِ، حيثُ يأملُ كِلانا بِلِقاء.

عاش عفيف دمشقيَّة، منذ يناعة طفولته، وحتَّى وفاته الصَّاعقة سنة 1996، حياة ما عرفت سوى العصاميَّة وحريَّة الرَّأي وعمق التَّفكير وصدق الطَّويَّة والاندفاع الجميل في حب الحياة. اكتسب معارفه وعلومه، منذ المرحلة الابتدائيَّة، وحتَّى تخرُّجه بشهادة الدكتوراه من جامعة السوربون، وبجهده الشَّخصيِّ وكدِّه المعرفيِّ؛ عبر معاناته اليوميَّة مع لقمة العيش، وصراعه العقائدي ضدَّ التَّسلُّط والظُّلم والاستعمار والإمبرياليَّة، وتمسُّكه الدَائم بالكرامة والعِزَّة وشرف الانتماء إلى ما يؤمن به. 

بدأ، عفيف دمشقيَّة، رحلته مع التَّدريس أستاذاً في «مدرسة عثمان ذي النُّورين» لـ «جمعيَّة المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت»، في منتصف ستِّينات القرن العشرين؛ فبرع في التَّعليم، كما كان من بين الأكثر نجاحاً في كسب ثقة التَّلاميذ ومحبَّتهم وشغفهم بما كان يشرحه لهم من قواعد اللُّغة العربيَّة وجمالاتها. والتحق، «الأستاذ عفيف»، خلال هذه المرحلة من حياتهِ، بـ «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»؛ طالباً في «قسم اللُّغة العربيَّة وآدابها»؛ فتخرَّج فيها سنة 1969، بشهادة «الإجازة التَّعليميَّة» في اختصاص اللغة العربيَّة وآدابها، وسنة 1970، بشهادة «الماجستير»، في العلوم اللغويَّة؛ ثمَّ كان له أن يتابع دراساته العُليا في فرنسا؛ فالتحق بـ «جامعة السُّوربون»، ليتخرَّج فيها، سنة 1972، بشهادة «الدكتوراه» في العلوم اللُّغويَّة والبلاغيَّة؛ وليلتحق، تالياً، بـ «الجامعة اللُّبنانيَّة»، أستاذاً للعلوم اللُّغويَّة في «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّة».

أمضى الدكتور عفيف دمشقيَّة زهاء ربع قرنٍ من الزَّمَنِ أستاذاً للعلوم اللُّغويَّة في «كليَّة الآداب والعلوم الإنسانيَّةِ» في «الجامعة اللُّبنانيَّة»؛ وكان له أن يزامل، من أساتذة العلوم اللّغويَّة فيها، الكبيرين الشَّيخ عبد الله العلايلي والدكتور الشَّيخ صُبحي الصَّالح؛ مع نخبةٍ من أساتذة العربيَّة الزَّائرين، من الجامعات العربيَّة. ولم يكن «الدكتور عفيف»، في كلِّ هذا، إلاَّ المتربِّع سعيداً على عرش ثقة زملائه العلماء اللّغويين بعِلمِه، وإعجاب سائر الأساتذة والمحاضرين بحضوره الاجتماعيِّ المحبَّبِ ورُقِيِّه الثَّقافيِّ الواسِعِ وموضوعيَّته الأكَّاديميَّة الدَّقيقة، فضلاً عن التزامهِ الوطنيِّ الصَّريحِ إلى الفِكرِ اليساريِّ. لم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، على الإطلاق؛ بل إنَّ الدكتور عفيف دمشقيَّة ظلَّ، منذ أن التحق بالهيئة الأكَّاديميَّة في الجامعة، حبيب الطلاَّب؛ على مختلف توجُّهاتهم الثَّقافية وانتماءات بعضهم السَّياسيَّة وتنوُّعات أصولهم المناطقيَّة والاجتماعيَّة. حاز ثقة كلّ من تعامل معه؛ وما كان تعامل «الدكتور عفيف»، مع كلِّ أمر، إلاَّ بالوضوح والصِّدق والمباشرة والسَّعي إلى الخير. ولقد عرفتُ، في الدكتور عفيف دمشقيَّة، عَيرَ تشرُّفي بزمالته في «الجامعة اللُّبنانيَّة»، وتالياً سعادتي بصداقته، مُحِبَّ حياةٍ بأسلوبه الخاص؛ أمَّا قِوامُ هذا الأسلوب، فصفاءُ الشُّعور الإنسانيِّ، وعُمْقُ الغَوْصِ في الدِّفاعِ عن جَوْهرِ كلِّ ما هو حقٌّ لكلِّ إنسانٍ في العَيْشِ الكريم، يرافق هذا جميعه نَهَمٌ لا حدودَ له في البَذْلِ والعَطاءِ، مع هَوىً لاسْتِمْتاعٍ أَنِيقٍ بالموسيقى وسائرِ الفنونِ الجميلةِ، وجموحٌ مُسْتَحْكِم، صارَ في النِّهاية قاتلاً، إلى التَّدخين.

انتسب الدكتور عفيف دمشقيَّة إلى «اتِّحاد الكُتَّاب اللُّبنانيين»، وكان من النُّخبة النَّاشطة في «الإتِّحاد» لسنواتٍ عديدة؛ وهو من دعاني إلى تقديم أوَّل محاضرة لي من على منبر الإتِّحاد سنة 1984. وكان للإتِّحاد أن يسعد، يوماً، أن يكون الدكتور عفيف دمشقيَّة أميناً عامَّاً له؛ بكلِّ ما يعنيه «الدكتور دمشقيَّة» من عُمْقِ فِكْرٍ وحُرِيَّةِ رأيٍ وإخْلاصٍ وَطَنِيٍّ ووَعْيٍّ سياسيٍّ والتزامٍ بقضايا الكُتَّابِ وسَعْيٍّ حثيثٍ إلى تأمينِ حلولٍ لما يمكن من مشاكلِ عيشهِم وتحصيلِ حقوقِهم.

لم يكن عفيف دمشقيَّة إنساناً عاديَّاً على الإطلاق؛ بل كان ينمازُ بألف وَشْمٍ ووَشْمٍ. لم يكن نهجه في العيش نهجاً تقليديَّاً؛ كما لم يكن فهمه للحياة ذلك الفهم الذي يستطيعه كثيرٌ من النَّاس إدراكَ سموِّ رحابته، وإن كانوا يستسيغونه. ولهذا فإنّ عفيف دمشقيَّة كان فذاً في وجوده الإنسانيِّ، ورائعاً في معاناته لهذا الوجود.

يوم تفتّح قلب بيروت عنه، احتضنه قلب والده الصَّحافيّ أحمد دمشقيَّة؛ فقبس من أبيه حبَّ الحياة. ويوم فتحت مدرسة «جمعية المقاصد الخيريَّة الإسلاميَّة في بيروت» باباً لها، تستقبله منهُ تلميذاً يتعلّم في رحابها، عانقته اللًّغة العربيةُ، ميزةَ وجودٍ ومصيرٍ؛ فعرف كيفَ تكون اللُّغة فِعْلَ حياةٍ ونهج عيش، كما هي منطلق تفكيرٍ ووسيلة تعبير. ولذا، أصرّ، «عفيف دمشقيَّة» على أن يكون في عَيْشِهِ عاشقَ حياةٍ ومُغْرَمَ لُغَةٍ، في آن واحِد؛ ولَمْ يَكُن له أنْ يحقّق هذا الكيان، إلا بوجوده في الحياة مُمارساً للتّعليم، بل مُعَلّماً للُّغة العربيَّة، ومناضلاً فذَّاً على دروبِ الحريَّةِ وفي ساحاتها. وما برح كثيرون من طلاَّبه يروونَ، بشغفٍ أخَّاذ، كيف كان «عفيف دمشقيَّة» يسهرُ معهم اللَّيالي، سنة 1982، عند متاريس مواجهةِ الغَصْبِ الصُّهيونيِّ المُجرِمِ لِسَيِّدةِ العواصِمِ العربيَّةِ «بيروت»؛ في منطقةِ «رأس النَّبع». وما انفكَّ كثيرٌ من هؤلاء الطلاَّب المناضلين، يَحْكونَ بغبطة جَذِلَةٍ كيف كانت تَتَحَوَّلُ «سَهْرَةُ المِتْراسِ مَع الدَّكتور»، كما يَحلو لَهُم تسميتُها، إلى ندوةِ ثقافةٍ وعِلْمٍ وسياسةٍ ونضالٍ وإنشادٍ حماسيٍّ لأغاني الحريَّة والكرامة.

كان الدكتور عفيف دمشقيَّة، غزير العِلم، واثقاً من معارفه، وضليعاً في تسويغ ما يذهب إليهِ من آراء واجتهادات؛ غير أنَّه لم يكن يوماً إلاَّ شديد التَّواضع مع مُحدِّثه. لَمْ يَركَبْ الغرور، عفيف دمشقيَّة، ولو لثانيةٍ واحدةٍ في حياته؛ ولَمْ تَسْتَهْوِهِهِ الكِبرياءُ الفارِغَة، كما لَمْ يَتَمَلَّكَهُ، أبداً، ذلكَ التَّعَاظُمُ الوَخِمُ الذي كانَ يَعيشُهً بَعضُ مُثقَّفي تِلْكَ المرحلة. ومِن جهةٍ أخرى، فَلَمْ يَدْفَعْ بالدكتور عفيف دمشقيَّة، تَمَكُّنًهُ مِنَ المعرفةِ، إلى ذلكَ التَّشاوُفِ الفارغِ الذي طالما مَسَّ بِشرارتِهِ، القَبيحَةِ والسَّمِجَةِ والمَكْذوبَةِ، بعضَ غَليظِي الطِّباع مِنَ السُّمَجاءِ العامِلِينَ في الشَّأنِ الأكَّادِيمِيَّ ومجالاتِ الفِكْرِ والثَّقافةِ.

يشهدُ التَّاريخُ أنَّ الدكتور عفيف دمشقيَّة كان أحد كِبارِ أساتذة علوم الُّلغة العربيَّة؛ إذ تولَّى تدريس هذه العلوم في عددٍ من الجامعات العربيَّة، كما درَّسها في «الجامعة اللًّبنانيَّة». ولقد وضعَ «الدكتور دمشقيَّة»، في اختصاصه هذا، عديداً من الكُتب والدِّراسات؛ التي ما بَرِحَت تُعْتَبَرُ، مِنْ قِبَلِ الباحثين، مراجعَ في مجالاتها. لعلَّ مِن أشهرِ أعماله، ههنا، «تَجديدُ النَّحوِ العَرَبِيّ»، 1976، و«خَواطِرَ مُتَعَثِّرَةٍ عَلى طَريقِ تَجْدِيدِ النَّحْوِ العَرَبِيّ»، 1981، فضلاً عن «الانْفِعالِيَّةِ والابْلاغِيَّةِ فِي بَعْضِ أَقاصِيصِ مِيخَائِيل نعَيْمَة»، 1979، و«المُنْطَلقاتِ التَّأسِيسِيَّةِ وَالفَنِّيَّةِ إِلى النَّحْوِ العَرَبِيّ»، 1978، و«أَثَرُ القِراءاتِ القُرآنِيَّةِ فِي تَطَوُّرِ الدَّرْسِ النَّحويّ»، 1978، و«لُغَتُنا»، 1990. يُضاف إلى كُلِّ هذا، أنَّ الدكتور عفيف دمشقيَّة أحد سادة المُعَرِّبين مِن اللُّغةِ الفرنسِيَّةِ إلى اللُّغةِ العربيَّةِ؛ وقد أشتُهر لَهُ تعريبُهُ لِعديدٍ من المؤلَّفات الفرنسيَّة، لعلَّ كثيراً مِن رِواياتِ الكاتِب الفرنكوفوني «أمين المعلوف»، تَقِفُ بين أبرَزِها؛ ومِن هذه التَّعريبات «لِيُون الأفريقي»،1997، و«الحُروب الصَّليبيَّة كما رآها العرب»، 1998، و«سَمَرْقَنْد»، 1991؛ فضلاً عن مُعَرَّبات لأعمالِ آخرينَ؛ منهم «إنسانيَّة الإسلام» لـمارسيل بوازار، 1980، و«قصة مدينة الحجر» لإسماعيل كاداريه، 1989، و«خفة الكائن التي لا تحتمل» لميلان كونديرا، 1991، و«الوحش» لإسماعيل كاداريه، 1992.

أرى أنَّ «عفيف دمشقيَّة» الإنسان، هو عَيْنُهً «عفيف دمشقيَّة» اللّغوي، إِذْ يتساوى إِقبالُهُ على اللُّغة وشُؤونِها، وَيَتوازى مَع إِقبالِهِ على الحَيَاةِ وعَيْشِها؛ بانْفِتاحٍ رُؤيَوِيٍّ وفَلْسَفِيٍّ عَمِيقٍ، احْتَرَمَ الجَوْهَرَ، وَتَرَكَ لِنَفْسِهِ تَكْييفَ فَرَحِها بِمُعايَنَةِ الحاضِرِ ومُعاناتِهِ.

لَعَلَّ تبنِّي «عفيف دمشقيَّة» لِرأيٍ ورؤيةٍ وتَوَجُّهٍ، في مقال له عنوانه «استجابةُ اللُّغةِ العربيَّةِ لتحوُّلاتِ العصرِ»، نٌشِرَ في العدد 34 من مجلة «الآداب» سنة 1986، لا يُصَوِّرُ مُجَرَّدَ منهجِهِ في التَّعامل مع اللُّغة؛ بل يُضِيءُ، كذلك، على مبدأ شديدِ الأهمِيَّةِ وبَهِيِّ الحُضُورِ في حياةِ «عفيف دِمَشْقِيَّة»؛ ولعلَّ في هذا ما قد يُبَيِّنُ فلسفةً أساساً له،ُ تَبَنَّاها في تَعامُلِهِ مع الحياةِ عامَّةً ومع العَيْشِ في رِحابها خاصَّةً.

يَذْكُرُ الدكتور عفيف دمشقيَّة «إنَّ اللُّغة، – أيَّة لغة – هي ’فكرُ الأمَّة»؛ لأنَّ فيها «ما ورائيَّةً، خفيَّةً تُحدِّد فِكر النَّاطقين والقارئين والكاتبين بها، وتُوَجِّهَهُ وترسم له قدره. ولا غَرْوَ، فهي ليست مجرَّد نظامٍ لسانيٍّ مهمَّته تجسيدُ الأفكارِ والآراءِ، بل هي نظامٌ لصقلِ تلكَ الأفكارِ والآراءِ، ومنهجٌ لإرشادِ نشاطِ الفردِ الذِّهنِّيِّ وتحليلِ انطباعاتِهِ، وتوليفِ ما في أعماقِ ذاتِهِ». ويَذْكُرُ، الدكتور دمشقيَّة، في هذا المقال، «أنَّ أهميَّة اللُّغة وخطورتها أكثر ما تبدوان في:

– إنَّها نظام متكامل؛ تستخدمه جماعة معيَّنة من البشر للتَّفاهم والتَّواصل.

– إنَّها مجموعة من «الرُّموز» يتَّحد فيها المدرك العقلي بالصُّورة الصَّوتية، فيؤلِّفان وحدة تامة.

– إنَّها إرث جماعي، أو بالحري، ملك خاصٌّ لكلِّ فرد من أفراد الجماعة، وملك مشترك بين جميع الأفراد في الوقت عينه.

ويتابع، الدكتور عفيف دمشقيَّة، في المقال عينه، عرض مفهوم يتبنَّاه للُّغة، فيقول «لعلَّنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنَّ سلفنا الصَّالح كان أرحب منَّا أفقاً في هذا المضمار، لأنَّه لم يشعر في مواجهة ما استجدَّ من أمور خلال مسيرته الحضاريَّة بأيِّ قصور أو دونية؛ بل راح يحطِّم العقباتِ التي تحول بينه وبين الانخراط في الحضارة العالميَّة، القائمة يومذاك؛ ليخلص، بعد ذاك، إلى الاسهام فيها ونشرِها في أربعة أقطار المعمور. ولا غَرْوَ، فقد كان رائدهم إلى ذلك أن «الاجتهاد» هو طريقهم الأوحد إلى أن يكونوا أمَّة جديرة بمكانتها على هذه البسيطة؛ وعلينا، نحن اليوم، بدل البحث عمَّا إذا كانت لغتنا قابلة أو غير قابلة للاستجابة لتحوُّلات العصر، أن ننبذ، كما نبذوا، كلَّ شعورٍ بالدُّونيَّة وأن ندرك أنَّ طريقنا الأوحد إلى اللّحاق بركب الحضارة العالميَّة القائمة اليوم، لنصبح فيها فاعلين وأسياداً، لا مستهلكين وأذناباً، هو بفتح باب الاجتهاد في لغتنا على مصراعيه؛ بدل الوقوف أمامها بين نادبٍ ومتفجِّعٍ وصائحِ «ليس هذا عربيَّاً، ولم يقل بذلك فلان من النُّحاة، ولم يُجز ذاك أهل اللُّغة»، إلى آخر الأسطوانة المجرَّحة التي تتعثَّر فوقها الابرةُ مردِّدة نفس الكلام آلاف المرَّات، بينما اسطوانة الكون في سباق مفتوح مع الزمن، وإبرة الحضارة تأتي كل يوم بجديد».

ومَنْ يُتابع مسارات حياةِ عفيف دمشقيَّة بِدِقَّةٍ؛ ويتَعَمُّقَ في استعراضِ كيفيَّاتِ تفاعلِهِ مع هذهِ المساراتِ، سيجِد، في سطوعٍ إِنْكِشَافِيٍّ شديدِ الوَضَاءَةِ والبهاءِ والجمالِ، كيف أنَّ «عفيف دمشقيَّة» اللّغويَّ، هو عينهُ «عفيف دمشقيَّة» الإنسان. ما انفكَّ، عفيف دمشقيَّة، طيلة ما عاشه من سنين وواجهه من أحداث، يعملُ على فتحِ بابِ الاجتهادِ، في شؤون الحياةِ، على مِصراعَيْهِ؛ ولم يكن لهُ أن يَقِفَ، ولو لحظةٍ واحِدَةٍ، أمامَ الحياةِ نادِباً أو مُتَفَجِّعاً؛ بل دَأَبَ على خوضِ السِّباق المفتوحِ مع الزَّمنِ، متفاعِلاً، وفاقاً لما كان يراهُ فيهِ، مع كلِّ جديدٍ.

كان للدكتور عفيف دمشقيَّة، في علاقته باللُّغة العربيَّة حضورٌ، تعليميُّ وتربويُّ وشخصيٌّ، ترك بصماته الواضحة والمميّزة على صاحبه؛ كما ترك معرفةً وعلماً واقتناعاً ومحبَّةً على كلِّ من تعامل معهم الدكتور عفيف دمشقيَّة، في هذا المجال. فعفيف دمشقية لم يدخل دنيا اللُّغة إلاَّ من باب عشق الحياة، ولم يعشق الحياة إلاَّ فِعْلَ إبداعٍ للُّغة.

كانت «مدرسة عثمان ذي النُّورين»، في ستِّينات القرن العشرين، الميدان الأول الذي يصول فيه الشَّاب عفيف دمشقيَّة، المتفجِّر حيويَّة ولهفة عطاء. ومع أولئك الصّغار، من تلاميذ المدرسة في مرحلة الدِّراسة الابتدائيَّة، جعل عفيف دمشقية هدفه الأكبر أن تكون اللُّغة العربيَّة الفصحى والسَّليمة كَرّةَ حَسّونٍ أو تغريده كنارٍ، يُعَبّر بها التَّلاميذ عن خلجات نفوسهم وما تسعى أذهانهم إلى ابتداعه أو تصويره من أفكار. فاللُّغة، عند عفيف، حياةٌ؛ ولا يمكن للحياةِ أن تكون صحيحةً إلاَّ بِلُغَةٍ سَليمة.

كَمْ انْكَبَّ «الأستاذ عفيف» على دفاترِ الفُروضِ المدرسيَّة لتلاميذِهِ والأبحاث الجامِعِيَّةِ لطُلاَّبِهِ؛ يُصّوب، بصرامةِ المعلِّمِ الحَذِقِ، ما فيها مِن أخطاء لغةٍ وهفواتِ تعبيرٍ وتقلقلِ رأيٍّ أو ضُعْفِ استنتاجٍ؛ ويُشيرُ بِرُفْقِ المربِّي الحنون، بقلمِهِ ذي اللَّونِ الأحمر، إلى كل هذا؛ هادِياً إلى صواب وناصِحاً بمراجعةِ أخرى للعملِ. ولا أخالُ إلاَّ أنَّ دفاتر مدرسيَّةٍ عديدةٍ، أكلَ الزَّمن كثيراً من لون غلافاتها الكحليَّة، التي كانت معتمدةً زمنذاك، ما برحت قابعةً في صناديق أصحابها، ممَّن كانوا تلاميذ صفوف «الأستاذ عفيف» في تلك المرحلة؛ ومِثْلُها أوراقُ بحوثٍ جامعيَّةٍ كثيرةٍ، ما أنفكَّت محفوظةً بِعِزَّةٍ لدى طلاَّب عملوا بإشرافه؛ ولعلَّ في كثيرٍ من الدَّوائر الحمراء المرسومة بحدَّة حول الأخطاء أو الهفوات المنتشرة بين صفحات هذه البحوث وتلك الدَّفاتر، سيبقى يشهدُ، أبداً، للمُرَبِّي الجميلِ، ما كان فيهِ مِن صرامةِ المعلِّم في متابعة تلاميذه وطلاَّبِهِ؛ أما ما فيها من التَّصويبات المشفوعة، أبداً، بعبارات التَّشجيع، فتؤكّد حَدْبَ ذلكَ المُعلِّم المِثال، على أولئك المتعلِّمين ورعايتهم لهم.

المعرفةُ فعلُ تعليمٍ وتربيةٍ معاً؛ ولا يمكن للتَّعليم أن يكون ناجحاً إلاَ بالتَّربية؛ ومن أبرز شروط نجاح التَّربية أن تكون فعل حبٍّ؛ وما من حبٍّ أشدَّ فاعليةً وعطاءً مثل حبِّ الحياة. وعفيف دمشقية مارس مع تلاميذه في «مدرسة عثمان ذي النُّورين»، كما مع طلاَّبه في «الجامعة اللُّبنانيَّةِ»، كلَّ هذا.

وكان لظروف الحياة أن تضغط على عفيف دمشقية، فيسافر إلى «الكويت»، مُرَبِّياً يُعَلّمُ اللُّغةَ العربيَّة؛ ويكون لبعض الكويتيين فرحُ العيشِ وسعادته في كَنَفِ فَهمِ «الأستاذ عفيف» للحياة واللُّغة. ولا يهدأ عفيف دمشقية؛ فما أن يحصل على «الإجازة التَّعليميَّة» في اللُّغة العربيَّة وآدابها من «الجامعة اللُّبنانيَّة»، ومن بعدِها «شهادة الماجستير» في العلومِ اللُّغويَّةِ، من الجامعةِ عينِها، حتَّى يغادر إلى «السوربون»؛ باحثاً في اللُّغة العربيَّة وآدابها، ومُحَصِّلاً لدرجة الدكتوراه فيها.

كان «عفيف» يعيشُ، في كلِّ هذا، وجودَهُ فعلَ كفاحٍ وصراعٍ. عاندته الحياةُ كثيراً، وأوجعته حتَّى ثمالةِ ما في الوجعِ من آلام. جرَّحتهُ الدُّنيا وأَدْمَتْه، غير أنَّها لم تتمكَّن قَطْ من كسره؛ فلطالما انتصر على عنادها، وتغلّب على أوجاعها، وبلسم جراحه منها ومسح عن تلك الجراح الدِّماء النَّازفة؛ بحبِّه للحياة، بل بعشقه الأخّاذ لها.

يعودُ عفيف دمشقيَّة، في منتصف سبعينات القرن العشرين، إلى لبنان؛ يثوبُ، فرحاً بآمال له وأحلامٍ رسمها، إلى جوهرةِ لبنان الرَّائعة «بيروت»؛ فإذا به فيها أستاذاً جامعيَّاً تمكّن منه العِشقان حتى أقصى ما في الولَهِ من آفاق: عِشْقُ الحياةِ وعِشْقُ اللُّغةِ. يملأ عفيف دمشقيَّة، الدُّنيا بضحكته المجلجلة الكَلِفَةِ بفرحِ الحياةِ واستكناه أسرارها؛ وتبقى سَبَّابَتُهُ تُشيرُ، بصرامةٍ وقوَّةٍ، لكن بِحُبٍّ ورعايةٍ حنون، «أن لا» في وجه كلِّ من يرتكب خطأً بِحَقِّ اللُّغةِ العربيَّة. ولا يترك عفيف دمشقية رِحاب «جمعيَّةِ المقاصد الخيريَّةِ الإسلاميَّةِ في بيروت»؛ بل يَمُدّ يَدَهُ مُشاركاً في فاعليَّة عالمِها التَّربويِّ؛ فيَعْضُد أساتذتها، ويُساهم في الإشرافِ على المسارين التَّعليميِّ والتَّربويِّ فيها؛ كما يَسقي عطاشها، مِن فَيْضِ عِشقه للُّغةِ العربيَّة، ما يَروي بهِ ظمأهم إلى حياةٍ رائعةٍ.

ويوم قررت «مديريَّة التَّعليم» في «جمعيَّة المقاصد» أن «تُمَتْرِسَ» تعليم العلوم والرِّياضيَّات في مدارسها باللُّغة العربيَّة، وقف عفيف دمشقية إلى جانب هذا القرار ودعمه؛ بل أكَّد دعمه له، بقولته المشهورة «أنْ لا وسيلةَ لِتكونَ الحياةَ العربيَّةَ حياةَ إبداعٍ علميٍّ، إلاَّ بممارسةِ تعليمِ العلومِ لأبنائها باللُّغةِ العربيَّة».

نعم، آمن عفيف دمشقية أنَّ الحياة وجودَ عِشْقٍ لا يرتوي ولههُ إلا من كؤوسٍ أُتْرِعَت مِن مِعِينِ لُغةٍ سليمةٍ، هي حياةُ الفِكرِ المُبدِعِ. وبشَّرَ عفيف دمشقية بأنَّ تعليمَ اللُّغةِ العربيَّةِ ليسَ سِوى ممارسةٍ تربويَّةٍ مِن أجلِ إبداعِ الحياة.

يبقى، أنَّهُ يا سَعد مَن ما بَرِحَ يحتفظُ بدفتره المدرسيِّ، أو ببحثه الجامعيِّ؛ الذي خَطَّ عليهِ «الأستاذ الدكتور عفيف دمشقيَّة»، بِيدِهِ الفَخْمَةِ العَطاءِ والشَّامِخَةِ أبداُ إلى العُلا، فِعْلَ حنانٍ لا يرى في العِلمِ سِوى وجود معرفةٍ مِن أَجْلِ الحَياة.

________

*رئيس المركز الثقافي الإسلامي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website