سيران الربيع البيروتي: عيد شعبي قديم أنهته أحداث 1958
أربعاء أيوب” هي واحدة من المناسبات في العادات والتقاليد الشعبية التي كان أهل بيروت يحتفلون بها في حقب مضت من تاريخ المدينة، يوم كان يحوطها حزام أخضر من غابات الصنوبر وأشجار الصبير والجميز والخروب والتوت البري، فيخرجون إلى شاطىء الرملة البيضاء ويقضون نهارهم في لهو ومرح، فيغتسلون بماء البحر ويأكلون حلوى “المفتقة” الخاصة بالمناسبة.
إحتفالات أهل بيروت في هذه المناسبة مقرونة بقصة النبي أيوب وصبره وشفائه، كما ورد عنه في “العهد القديم” وفي خمس آيات وردت في سورتين في القرآن الكريم.
يربط العديد من الباحثين ما بين الإحتفالات الشعبية بـ”أربعاء أيوب” والأعياد المتصلة بفصل الربيع كأعياد الفصح المجيد وشم النسيم والنيروز التي يُحتفل بها خلال شهر نيسان من كل سنة، حين تستقر أركان الربيع باعث البهجة والفرح، فتتفتح الأزهار وينمو الزرع ويعتدل الطقس ويصفو الجو. لذلك تردد العامة: “في نيسان بتصير الدني عروس وبيخف الغطاء والملبوس”.
وقصة النبي أيوب أنه كان رجلاً ثرياً، فأوحي إليه، وصار كثير العبادة، رحيماً بالمساكين والسائلين. لذا حسده إبليس ففقد ثروته وأولاده وإبتلي بمرض جلدي لا شفاء منه، ومع ذلك ورغم كل ما أصابه من ويلات بقي صابراً حامداً ربه على ما ابتلي به.
البلاء الذي أصيب به النبي أيوب، والصبر الذي أبداه يفوق طاقة احتمال البشر، فضُرب المثل به وبصبره، وصار الناس يرددون “يا صبر أيوب” عند كل موقف يتطلب التغلب على الشدائد بالصبر. وذات يوم ضرب النبي أيوب الأرض برجله، فانبعثت عين ماء، اغتسل بها النبي وشرب منها فذهب مرضه وشفي تماماً. لذلك كان الناس يغتسلون بمياه البحر في سبع موجات متتالية. من هنا قول العامة في أمثلتهم الشعبية: “يلي ما بيغتسل بأربعة أيوب، جسمه بدو يفنى ويذوب”. ومن لم يكن يشارك في طقوس “اربعاء أيوب” على شاطىء الرملة البيضاء، كان يغسل وجهه بماء تنقع فيه “حشيشة أيوب”، أي عشبة العرعر المعروفة بفوائدها الطبية منذ أيام الفراعنة.
وعن فوائدهذه العشبة يقول داوود الإنطاكي الطبيب إن العرعر البري أصفر اللون يميل إلى الحلاوة، يشفي من السعال المزمن وأوجاع الصدر وضعف المعدة ويقاوم السموم ويشد البدن.
خدرج وجمّول
السائد هو أن توقيت هذه المناسبة يصادف في آخر يوم أربعاء من شهر نيسان. وعندما يلتبس الموعد كانت النسوة يلجأن إلى الست حدرج لتحديد موعد الإحتفال الشعبي. والست خدرج (خديجة) هي سيدة من آل عيتاني “جب” المصيطبة، وكانت مرهوبة الجانب في منطقتها، يهابها الكبار قبل الصغار. فهي “أخت الرجال، مسدسها على وسطها على الدوام”، كما يروي المعمرون من البيارتة. وكان صوتها عريضاً من كثرة تدخين “التطلي” العريضة، ولسانها سليطاً كسوط. وفي “أربعاء أيوب” كانت تقود العائلات البيروتية في تظاهرة حاشدة إلى الرملة البيضاء.
وفي المقلب الآخر من المدينة، أي في محلة رأس بيروت، كانت الحاجة جمول هي التي تشرف على نصب الخيم على شاطئ الرملة البيضاء. والحاجة جمول لا تقل شأناً عن الست حدرج، فكانت لها الطاعة من الجميع وزعيمة النساء في خندق “ديبو” بلا منازع. فهي تدفع “دية الدجاجة التي دهستها البسكلات. وإذا “لبط حمار ولداً تسقيه ماء من طاسة الرعبة”. وكان صوتها على الدوام ملعلعاً في الحي ينبعث من عنقها الضخم الشبيه “بمدخنة” وتبرز على جوانبه الشرايين الزرقاء.
وكانت التحضيرات لاحتفالات “أربعاء أيوب” تبدأ قبل أسبوع من موعدها. فيقوم الشباب بتنظيف رمال الشاطىء ونصب الخيام والعرازيل وتوزيعها وفق المناطق والعائلات. وكانوا يعدون أيضاً طائرات الورق الملونة.
أما النساء فكن ينصرفن لإعداد وطهو “المفتقة” وهي الحلوى الخاصة بالمناسبة، حيث كانت تطبخ في البيوت من الأرز والسكر وطحينة السمسم والعقدة الصفراء. وارتبطت حلوى “المفتقة” بـ”اربعاء أيوب” لأنها ترمز إلى الصبر الذي كان ميزة النبي أيوب. فتحضيرها يتطلب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاً وصبراً وافراً، لإنها تحتاج إلى التحريك المتواصل الذي بدوره يتطلب قوة جسدية.
مواكب السيران
في يوم الإحتفال الشعبي كانت تنطلق “وش الصبح”، أي عند الفجر، مواكب النساء والأولاد من كل الأحياء في اتجاه الرملة البيضاء على ظهور الخيول والحمير والطنابر (أوتوبيسات ذلك الزمان). فيعبرون دغلات القصب والصبير وحقول الخس والفجل والرشاد وسط خوار الأبقار وصياح الديوك وقرقعة عجلات الطنابر وصراخ بائعي الجميز الذين ينادون بأصواتهم النحاسية: “تمر يا جميز تمر”، وهم يصفقون ويغنون ويهزجون، فيما تكون الشرطة قد أرسلت دورياتها لحفظ النظام.
ولدى وصول النسوة إلى الشاطىء يفرشن الأرض بالحصر والبسط ويغطين الخيم من الداخل بالشراشف البيضاء للوقاية من حرارة الشمس ويصفون كراسي الخيزان والطبليات الخشبية خارج الخيم ويرتبن صحون المفتقة وطناجر الطعام ويشعلن طبّاخ الفخار ويحضرن الأراكيل. فتنادي سيدة لأخرى:
“بحياتك يا نفوس خدي ها البقاب ودقي عامود الخيمة شوي، شكلو ألوأ…”
وما إن تصبح النراجيل جاهزة للتدخين حتى تبدأ جلسات الأحاديث مع أقداح الشاي وفناجين القهوة، فتحكى الحكايات وتروى الروايات، مصحوبة بتناول الترمس واللوز الأخضر والجنارك وخصل “إم قليباني” و “الحميضة”. ولا تخلو جلسات النساء بين الفينة والأخرى من بعض “تركيب المقلة” (النميمة) وهذه بعض نماذجها :
– “وليّ عاقامتها مرت القباقيبي كل خلفتها بنات”.
“دخلك! إنو حماتك شو عاملي معها أني!؟ كراتي تكرتها صحيح”.
“وئي شو عتبة بيتنا واطية، ما بتجي لعندي خديجة بنت حماك؟!”.
– “يسلمو إديكي يا فطوم على هل نفس الأركيلة المنظوم”.
ثم تنطلق الأجواء الطربية من داخل الخيم، فتبدأ إحدى السيدات بالنقر على “الدربكة” لتتبعها أخرى بالغناء: “على بلد المحبوب وديني”، و “يا حبيبي أنا قلبي معاك… طول الليل سهران وياك”. فتأخذ نشوة الطرب النسوة اللواتي يتمايلن على أنغام الأغاني ويرددن القفلات وراء مطربة الجلسة التي لا يخلو صوتها من النشاز.
خارج الخيم ينتشر بائعو الكعك واللوز والترمس والبرتقال المشكوك بالقرنفل والتفاح المغلف بالمعلل والصفوف والفستق السوداني وقصب المص وغزل البنات. في هذا الوقت يتسابق الشبان حفاة على الرمل ويلعبون لعبة شد الحبال ويسبحون. أما الفتيان فيتبارون بتطيير “طيارات الورق” في سماء الرملة البيضاء، وغالباً ما كانت تحصل مشاجرات عندما “تتشركل” خيوط الطيارات وتتشابك، فتصرخ بهم الحاجة جمول: “تعا وكّي خالتي صالح إبن جيرانك عبدون وبوسو”.
أما الأولاد فيلهون بلعب “الكلل” و “بزر المشمش” وجمع الأصداف التي تدفعها الأمواج وزبدها الأبيض المتمايل على الشاطىء ورماله الذهبية.
عند العصر يحضر الرجال آتين من أعمالهم، فتفرش الموائد ويبدأ شوي اللحم وتحضير التبولة، ويتناول الجميع وجبة الغداء، ويتحلون بعدها بالمفتقة. ثم يصعد الرجال إلى سطوح “العرازيل” ويأخذون القيلولة، في حين ينصرف بعضهم إلى لعب الورق والداما خارج المخيم.
طقس الاغتسال
عندما يحين موعد طقس الإغتسال تتجمع العائلات ويضرب الشبان حلقة أشبه بطوق بشري لمنع مرور الغرباء، وتنزل النساء إلى البحر بفساتين طويلة فتغطس كل منهن سبع غطسات للتبارك أو وفاء لنذر أو رجاءً أو طلباً للشفاء تيمناً بالنبي أيوب.
فتدعو سيدة لأخرى: ” الله يبعت نصيبك ويرزقك بإبن الحلال”. أما أكثرهن ورعاً وتقوى فتبادر الى “تكبيس الأخريات” وترقي العاقرات منهن، فتضع راحة كفها على رأس السيدة التي لم تنجب رغم مرور سنوات على زواجها وتقرأ بعض الآيات القرآنية وتنفخ في وجهها لتشفى بإذن الله ويتحقق مرادها.
… هكذا كان أهل بيروت يحتفلون بـ”اربعاء أيوب” على رمال الشاطىء الذي يتمايل عليه الموج وزبده الأبيض مصحوباً بهبات الهواء. انه تقليد شعبي متوارث يدخل في قائمة التراث والعادات الشعبية الجميلة التي درجوا عليها طوال عقود من الزمن قبل أن تندثر في أعقاب الأحداث المؤسفة التي شهدتها البلاد في العام 1958. فبعد ذلك العام لم يبق من “اربعاء أيوب” إلا الذكرى وحلوى “المفتقة” التي لا يجيد صنعها إلا قلة من السيدات المتقدمات في السن.
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي/ جمعية تراث بيروت.