من الطبيعي في مجتمع قليل عدد سكانه ضمن سور يحيط بمنطقة جغرافية صغيرة أن تتوثق وبغياب أجنبي العلاقة بين العائلات والأفراد وأن تتداخل رابطة النسب لتشمل ما يشبه الأواني المستطرقة. ويعود الكثير من ألقاب الأسر الى أسماء أشخاص تصبح مع الزمن أسماء لأسر توزّع أبناؤها بين عدة فروع بعضها عن بعض وتضيع الصلة فيما بينها. ففي بيروت عدّة أُسر تحمل لقب فتح الله، منها فرع الثلاثي غندور فتح الله الشيخ ومنها فتح الله وفتح الله المفتي، وهذين الأخيرين هما من أصل واحد شغل أحدهما منصب ووظيفة الإفتاء في بيروت واستمر الإفتاء في أبنائه فحملوا لقب المفتي.. وهذه الظاهرة كانت طبيعية ومعروفة في أُسر بيروت، وبرأينا ان ذلك عائد لسبب اقتصادي أو لعمل خيري، فقد راجت تجارة حمزة أحد أفراد عائلة سنو وذاعت شهرته فصار أبناؤه يتباهون بانتسابهم إليه، وأصبح اسم حمزة لقبا لهم عُرف منهم: عارف حمزة تاجر الأقمشة الحريرية الشهيرة للعرائس في محله بشارع المعرض. وتوسّعت أعمال رضوان الدنا فأصبح اسم رضوان لقبا لأبنائه وأحفاده. وقام أحد أبناء أسرة العيتاني بكفالة بنات جاره اليتيمات مقام والدهن فحمل أبناؤه لقب بيهم. وفي عائلات بيروت الكثير من فروع تعود لأصل واحد مثل بالوظة قليلات وخرما شقير وزنتوت ناصر العريس وفرشوخ مسالخي وسعادة خاطر الدبس جعنا وسنو يموت النحاس والعجوز الطيارة الخ…
آل فتح الله وفتح الله المفتي
رجّح زهير فتح الله ان أُسر بيروت التي تحمل لقب فتح الله نزحت من شمال أفريقيا مستدلّا بالكتاب الذي أصدرته دار الكشاف سنة 1969 عن سيدي عبد السلام الأسمر الذي كان من نسله سيدي فتح الله، فقد قَدِم أحفاد هذا الأخير الى بيروت وتولّوا افتاءها فحملوا لقب المفتي. فيما حمل آخرون لقب فتح الله، فممن حمل لقب فتح الله شيخ الشيخ أحمد البربير عبد الحي بن أبي بكر بن أحمد فتح الله المُكنّى بأبي التايب البيروتي أصلا الدمياطي مولدا المولود سنة 1150هـ وعبد الباسط حسن فتح الله ومصطفى آغا بن عبد الغني فتح الله الذي قام بالوكالة عن الأمير بشير الشهابي بوقف قصر بيت الدين، ومن المرجح أن يكون قد تمّ الوقف بالتواطؤ بين الوكيل والأمير وزوجة هذا الأخير وابنته والفقيه الذي رتّب أمر إبطال الوقف بحجة انه تم على مال بيع قبل وقفه [أيام بيروتية (15)].
وممن حمل لقب الطبجي (المدفعجي) كما بيّنا في [أوراق بيروتية (21)] ان الوثيقة المؤرخة في السابع عشر من شهر شعبان سنة 1259هـ/ تدور حول تركة ذيب الطبجي، وتبيّن بشهادة أمينة بنت زين عز الدين زوجة المفتي الشيخ عبد اللطيف بن علي فتح الله وليلى زوجة مصطفى بن وهبه فتح الله المفتي بأن حسن بن عبد الحي بن بكري ابن الشيخ أحمد ابن الشيخ فتح الله المفتي وان أحمد بن ذيب بن محمد بن عبد القادر ابن الشيخ عبد الرحيم الطبجي ابن الشيخ مصطفى فتح الله المفتي، ويمكن القول وفقا لتسلسل النسب ان تسمية الطبجي تعود الى سنتي 1772 و1773 تاريخ قصف الاسطول الروسي لبيروت وحصارها. ويتبيّن من ديوان المفتي عبد اللطيف فتح الله قرابة نسب بينه وبين عز الدين عائلة زوجته. وقرابة بينه وبين أسرة البربير، وقد عرفت محلة بإسم فتح الله قرب الحمام الصغير في بيروت القديمة كانت فيها دار المفتي المذكور.
الشيخ علي… فتح الله
يقول الشيخ عبد اللطيف فتح الله في خطبة ديوانه «أنا العبد الذليل الفقير المحتاج الى عفو ورحمة مولاه السيد عبد اللطيف ابن المرحوم الشيخ علي أفندي فتح الله…» فوصف نفسه بالسيد دليلا على صلة أسرته بالعترة النبوية وقد جاء في ديوانه:
يا فاطمة ابنة النبي المختار
أنت الزهراء زوجة الكرار
إني لي نسبة إليك اشتهرت
حاشاك بها ان ألقى بحرّ النار
ويعود للشطي أفضل في بيان هوية علي فتح الله، فقال في كتابه «روض البشر في أعيان دمشق في القرن الثالث عشر»: «الشيخ عبد اللطيف مفتي بيروت ذكر عنه بعض المؤرخين نبذة فقال هو عبد اللطيف بن علي بن عبد الكريم بن عبد اللطيف بن زين الدين بن محمد فتح الله… أخذ عن والده الشيخ علي أفندي».
ووصف الشيخ عبد اللطيف والده فقال «انه العلّامة النحرير الجهبذ الشهير الفقيه الوجيه النبيل النبيه الشيخ علي أفندي فتح الله المفتي…»، وقال في المقامة التي كان ينوي تقديمها الى والي صيدا وطرابلس «كنت من أول عمري كارها الدخول في ذاك الباب (أي الفتوى) وراغبا التخلص منه والتخلص من سكنى بيروت وان كان الإفتاء في آبائي في بيروت أكثر من مائتي سنة في بيروت وطني ومسقط رأسي..».
وقد علمنا من الديوان ان الشيخ علي كان مفتيا في بيروت وانه توفي يوم عودة ابنه الشيخ عبد اللطيف الى بيروت سنة 1794م. وكان خاتمه «راجي عفو الله علي فتح الله».
نظام التدريس والإجازات
بدأ نظام التدريس الإسلامي في المساجد بحيث يتحلّق الطلاب حول الشيخ يفسر لهم القرآن الكريم فيما يقوم شيخ آخر بتدريس علوم البلاغة وثالث بتدريس التاريخ والمنطق ورابع في الحديث الشريف ومصطلحه. فإذا توسم الشيخ خيرا في أحد الطلبة أجازه بالتدريس ومنحه إجازة تبيّن ما درسه وتلقّاه عن شيخه. وقد تكون الإجازة مقتصرة على علم واحد وقد تكون شاملة وتدور بين رواية ودراية وتدقيق، وقد ينال الطالب إجازات من عدة شيوخ بما يشبه ما يتم في النظام التربوي الحديث بحيث يتولّى الأستاذ تعليم مادة وآخرون موادا أخرى وتجمع نتائج العملية آخر السنة الدراسية ويمنح الناجح من الطلاب الإجازة بإتمام الدروس بنجاح. وتأتي أهمية المجاز من أهمية المجيز وتسود اليوم كلمة «مجاز» يحمل «إجازة» جامعية في علم أو علوم مختلفة.
عرفت بيروت قديما الإجازات، فكان منها إجازة من الشيخ بدر الدين الحسني الى الشيخ مصطفى نجا وإجازة الشيخ عبد الرحمن الحوت للشيخ مراد العريس والشيخ توفيق خالد وإجازة الدمياطي للشيخ أحمد البربير وإجازة المفتي عبد الباسط فاخوري للشيخ رشيد الفاخوري. كما اشتهرت إجازات شيوخ الطرق الصوفية لمريدي طرقهم كإجازة الشيخ علي بدران بالطريقة السعدية وإجازة حسين الجسر للشيخ عبد الرحيم الفاخوري بالطريقة الخلوتية وغيرها.. (سوف نفصّل موضوع الإجازات فيما بعد).
إجازات للشيخ علي بن عبد الكريم… أو للشيخ علي البيروتي
يتبيّن من الإجازات التي أُعطيت للمفتي الشيخ علي فتح الله تلقّيه العلم عن كبار علماء عصره لا سيما الأزهريين منهم، منها إجازات قصيرة مختصرة ومنها مطوّلة جامعة، ذكرت بعض الإجازات اسمه الشيخ علي عبد الكريم واقتصر البعض على تسميته بالشيخ علي البيروتي.
{ من الإجازات التي أسمته الشيخ علي عبد الكريم فتح الله:
«الحمد للّه، قد أجزت المولى الفاضل الشيخ علي بن عبد الكريم فتح الله بما تضمنه هذا الثبت كما أجازني به مشايخي وأوصيته بتقوى الله والتثبت بالنقول المعتمدة عند الإفادة والاستفادة وأن لا ينساني من صالح دعواته وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
كتبه محمد الحفناوي الشافعي الخلوتي الأحمدي سبط الإمام الحسين في رابع عشر ذي الحجة ختام سنة 1172 اثنين وسبعية وماية وألف» (1758م).
{ من الإجازات التي اسمته الشيخ علي البيروتي:
– إجازة مختصرة جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد للّه الذي جعل العلماء أعلاما للمهتدين والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
أما بعد، فقد أجزت مولانا العالم العلّامة الحبر البحر الفهامة الشيخ علي البيروتي بالسند الذي لي على مذهب إمامنا الشافعي وسائر مروياتي بشرط تقوى الله سبحانه وتعالى والتواضع وعدم التكبّر ومراجعة الاخوان والكتب المعتبرة والدعاء لي ولوالدي ولمشايخي بالرضى والرحمة وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه الفقير عيسى البراوي الشافعي» (بدون تاريخ).
– وإجازة مطوّلة:
كُتبت سنة 1172هـ/ 1857م للشيخ علي البيروتي من عبد الرحمن أبو السعود النحراوي الشافعي مؤلفة من سبع صفحات سوف نطبعها على حدة كأنموذج لما كان يتلقّاه الطلاب في مختلف العلوم الدينية، وقد جاء في مقدمتها:
«بسم الله الرحمن الرحيم وبه الإعانة، الحمد للّه رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد إمام المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فقد طلب مني الشيخ الفاضل الكامل العالم العامل من شرفت ديانته وظهرت بركته وحسنت سيرته وسريرته وتوقّدت قريحته وعظمت في ملازمة العلوم وقويت في حقائق العرفان بصيرته نتيجة أهل الاتقان وواسطة عقد أهل الاحسان الهمام سيدي علي البيروتي زاده خيرا ذو العزّة والجبروت أن أجيزه بما لي روايته وأخبره بسند تحسن معرفته بعد أن لازمني مدة مديدة وقرأ عليّ كثيرا من الكتب المفيدة قراءة دراية وتحقيق وإمعان وتدقيق كشرح الزرقاني على البيقونية وبعض من تفسير القرآن العظيم للجلالين ومن الاشموني على الخلاصة ومن شرح المنهج لشيخ الإسلام زكريا الانصاري وكشرح الجزرية لشيخ الإسلام المذكور غير مرة.
فاستخرت الله تعالى وأجزته بما سمعته وبكل ما أجازني به ورسم لي إجازته بخطّه مولانا العلّامة الهمام شيخ الإسلام وبركة الإنام ولي الله تعالى بلا نزاع جامع العلوم بلا دفاع شيخنا وسيدنا محمد العشماوي ومولانا… الخ».
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أوراق بيروتية” 66