في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، لفت انتباهي الصديق المؤرخ عبد اللطيف فاخوري إلى صورة التقطها المهندس عبد الله عبسي في موقع “الدباغة” بمنطقة أسواق بيروت ورفعها على صفحته على الفيسبوك. بدى جلياً في الصورة إختفاء درجين قديمين مُوصلين لجامع الدباغة ولقاعتي الجامع. وكنت قد قمت بتصوير المعالم التاريخية المتبقية في هذا الموقع في مطلع شهر حزيران/ يونيو 2015 برفقة الأستاذ فاخوري والصديق الأستاذ إبراهيم صيداني، وهي مجموعة أحتفظ بها وتُبين موقع الجامع وعقوده ودرجه وبعض جدرانه. وقد وثق تاريخ هذا المسجد ورجاله وأوقافه ووصفه صاحبنا الفاخوري في كتابه الماتع الجامع “زوايا بيروت”.
بالطبع هذه ليست المرة الوحيدة التي يتم فيها التعدّي على التراث المادي البيروتي نتيجة عوامل ثلاثة هي الجهل والإهمال المتعمد والتدخلات السياسية. الأمثلة أكثر من أن تسعها مقالة واحدة، وإليك بعضها:
- ساحة البرج (الشهداء) وما أصابها من إهمال وتخلٍّ مقصود رغم أنها تحكي تاريخ مدينة منذ عقود، بل قرون.
- السرايا الصغيرة (مقر الحكومة القديم) التي كانت آية في الجمال العمراني. بنيت عام 1881 وهدمت عام 1950 بحجج واهية لا تخفى على لبيب.
- الأسواق القديمة وما كانت تحويه من عمارة تراثية أذكر منها السبيل الأندلسي كمثال.
- زوايا بيروت الدينية القديمة التي وصل عددها إلى ثلاثين زاوية. هدمت كلّها.
- الإهمال المتعمد للمباني التراثية بسبب عدم وجود قانون واضح يحميها ويعوض على مالكيها، ولأسباب يتدخل فيها رأس المال المتسلط من قبل بعض السياسيين والمقاولين.
- التعدّي السافر على الأملاك العامة. مثلاً كما في محلتي الروشة (حجب منظر صخرة الروشة ومحيطها البحري عن عيون المارة) والرملة البيضاء (إقامة مشاريع ومراكز سياحية بطريقة مخالفة للقانون). كلها نتيجة عوامل سياسية معروفة يستفيد منها “الزعيم” وبطانته على حساب الشعب وحقه الطبيعي المنصوص عنه صراحة في الدستور والقوانين.
- إهمال غير مبرر للمساحات الخضراء التي تعتبر متنفساً للمدينة وأهلها، وقضية حديقة المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد خير مثال.
هذا غيض من فيض، وللمزيد يمكن الرجوع إلى منشورات “قضايا تراثية بيروتية” على هذا الموقع.
هذا الإجحاف بحق المدينة وأهلها سبقه منذ زمن بعيد عملية طمس متعمد لتراثها المعنوي أيضاً نتيجة عوامل سياسية طائفية ومذهبية لا تخفى على أحد. في هذه الدراسة سأتناول فهم الموروث المادي المعماري البيروتي مع إشارة تعريف بالتراث المعنوي أي غير الملموس.
هل كل بناء قديم هو تراثي؟ وهل كل بناء مصنّف تراثي هو حقّاً تراثي؟ ما الفرق بين التراثي والتقليدي؟ هل “بابور الكاز” و”صحن المفتقة” أشياء تراثية؟
من الواضح أن هناك إشكالية في فهم التراث، ومن خلال مشاهدات جمعيتنا وما دوناه في هذا المجال منذ أكثر من ستة أعوام، لاحظنا وجود حالات لا تتناسب فيها المواقف التي يجب فهمها مع أنظمة المعرفة الحالية. وفي مثل هذه الحالة ، غالبًا ما يرتبط إدراك الظاهرة بإعادة هيكلة المجالات الإشكالية وإعادة صياغة الأهداف في الفهم. ولحل هذه الإشكالية لا بد من تقديم مفهوم واضح للتراث من الناحيتين العملية والنظرية فمن المسلّم به أن التراث جزء من الواقع الاجتماعي لا يمكن اعتباره منفصلاً عنه. ولكي نستطيع إيصال رسالة مفهوم التراث الواضحة، لا بد من مراعاة الجوانب الاجتماعية المختلفة للواقع الموضوعي.
من هذا المنطلق سأذهب إلى ما أبعد من ذلك لأثبت أن التراث هو مادة هامة تستحق أن تكون في مناهج المواد التعليمية التي تدرّس في مدارس الناشئة في لبنان لترسيخ جذور المواطنة الحقة في نفوسهم وليكون لديهم عتاد يواجهون به من يتآمر على هويتهم ومحيطهم وتاريخهم!
مفهوم التراث ومكانته في تفسير التراث:
للتراث معاني مختلفة يتفرع عنها تعريفات مرفقة به. ويمكن تعريفه على أنه “أي شيء يرغب شخص ما في الحفاظ عليه أو جمعه”. ويمكن وصف هذا المعنى كشيء يريد المرء الاحتفاظ به أو الحفاظ عليه إلى حد كبير. ويحدد أكثر الباحثين العالميين خمسة جوانب موضوعية للتراث هي:
1. مرادف لأي أثر للبقاء المادي للماضي.
2. فكرة الذكريات الفردية والجماعية من منظور الجوانب غير المادية للماضي عندما يُنظر إليها من الحاضر.
3. كل إنتاجية ثقافية وفنية متراكمة.
4. البيئة الطبيعية.
5. نشاط تجاري رئيسي، مثل صناعة التراث.
هذا التوسع في مفهوم التراث يتضح أيضاً إذا قام المرء بتحليل الوثائق الدولية الرئيسية الموجودة التي أنتجتها منظمات عالمية مثل الإيكوموس واليونسكو لحماية التراث والحفاظ عليه حيث تتطرق إلى توسيع نطاق التراث من المعالم والمباني التاريخية إلى مجموعات من المباني والمراكز الحضرية والريفية التاريخية والحدائق التاريخية والتراث غير المادي بما في ذلك البيئات والعوامل الاجتماعية ونسيجها.
على الرغم من أن معرفة جميع جوانب التراث مفيدة لفهم طابعه المعقد ، إلا أنه عادةً لا يساعد في الحفاظ على مواقع التراث وإدارتها يومياً. وهكذا يتم تطوير نماذج التراث للمساعدة في تحسين سياسات الحفظ والإدارة المناسبة ، فضلاً عن أعمال الترويج وزيادة الوعي. وفي الوقت نفسه، ثبت أن مهمة تصنيف التراث هذه صعبة للغاية لأن مفهوم التراث هو مفهوم متعدد الأبعاد، حيث يمكن تصور التراث بطرق مختلفة داخل ثقافة واحدة وعبر الثقافات، بالإضافة إلى أشكال رسمية وغير رسمية.
في الوقت الحاضر، هناك فئتان رئيسيتان من التراث تهيمنان على المستوى الدولي: المادي وغير المادي ، ويمكن تصنيف كل منهما بدرجة أكبر. وهكذا، على سبيل المثال، يتم تصنيف التراث المادي في اتفاقية اليونسكو لعام 1972 بشأن حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي إلى ثقافي وطبيعي، ولكل فئة المزيد من التقسيمات الفرعية. في الوقت نفسه ، لم يعد يُنظر إلى فئات التراث الثقافي والطبيعي على أنها منفصلة تماماً، وتم دمجها من خلال فئة “المناظر الطبيعية الثقافية” والتي بدورها تشتمل أيضًا على عنصر غير ملموس. ومن أجل دمج العناصر غير الملموسة، تم تعديل نطاق اتفاقية التراث العالمي لعام 1972 وتوسيعه من خلال المبادئ التوجيهية التشغيلية لتشمل نواحٍ مختلفة مثل المسارات الثقافية، والمناظر الطبيعية الثقافية، والمواقع الترابطية والمواقع التذكارية، وكلها تعترف بالمكونات غير المادية كجزء من أهمية الموقع.
لكن بالطبع لم يكن كافياً توسيع نطاق اتفاقية عام 1972 لتشمل عناصر غير ملموسة فتم تطوير ميثاق دولي مختلف لضمان الحفاظ السليم على التراث غير المادي. ثم تم بعد ذلك اعتماد اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي غير المادي في تشرين الأول/ أكتوبر 2003 ، ودخلت حيز التنفيذ في نيسان/ أبريل 2006. وتعرف الاتفاقية التراث الثقافي غير المادي بأنه الممارسات والتمثيلات وأشكال التعبير والمعرفة والمهارات – فضلاً عن الأدوات والأشياء والمصنوعات اليدوية والمساحات الثقافية المرتبطة بها – التي تعترف بها المجتمعات والجماعات، وفي بعض الحالات، الأفراد كجزء من تراثهم الثقافي (اليونسكو 2003، المادة 2).
هناك مراحل مميزة يجب أن يمر بها عنصر ما حتى يطلق عليه التراث، مثل تكوين التراث والاعتراف به وتخصيصه وتفسيره وفقدانه. وهناك أسباب مختلفة تجعل العناصر تصبح تراثاً، ولكن ربما تكون أكثرها شيوعاً هي التقادم، والبقاء، وندرة القيمة، والإبداع الفني، والارتباط. ومع مرور الوقت والتقدم التكنولوجي، تصبح بعض الأشياء قديمة ولم تعد مستخدمة، ولكن بالنسبة للبعض لا تزال تمثل قيمة خاصة كبابور الكاز وماكينة الخياطة القديمة ومطحنة البن وغيرها من الأشياء اليومية العالقة بذاكرة الطفولة خاصةً. ولا تزال هناك عناصر أخرى قيد الاستخدام ولكن عمرها المحض وندرتها تجعلها تراثاً (مثل الأماكن الدينية القديمة كمساجد العمري الكبير والأمير عساف والأمير منذر والكنائس القديمة التي لم تزل صامدة في وسط بيروت)؛ ويمكن إدراج المخطوطات القديمة أيضاً في هذا التصنيف. أيضاً، يعتبر الإبداع الفني البشري إحدى طرق الإنتاج المتعمد للتراث مثل جمع الأعمال الفنية والموسيقى والأدب والحفاظ عليها. وتصبح أشياءً الأخرى تراثاً بسبب ارتباطها بالناس أو الأحداث كمبنى بركات في محلة السوديكو وبيت الاستقلال في القنطاري ومتحف سرسق في الرميل ومدرسة المعلم بطرس البستاني في زقاق البلاط، والأمثلة كثيرة.
ويمكن أن نلاحظ أن الأكثر أهمية في عملية تكوين التراث هو الاعتراف، حيث تصبح العناصر تراثاً فقط إذا تم الاعتراف بها على هذا النحو. فليس كل ما هو قديم أو نادر يصبح تراثاً. ويتم التعرف على الأشياء على أنها تراث لأسباب مختلفة، مثل البحث الشامل حول عنصر معين، والذي يعدد الأسباب المقنعة التي تجعل العنصر له أهمية ويستحق الحفاظ عليه. ومع ذلك، وفي الحياة اليومية أميل إلى أن التراث هو بناء العقل الذي لا يمكن دائماً حسابه من خلال ممارسة الآثار أو الحفظ. لن يخضع معظم التراث الذي يعني أكثر من غيره للأفراد للتسجيل أو الحفظ وبالتالي الاعتراف به باعتباره تراثاً. وسبب آخر للاعتراف بالتراث قد يكون تحولًا في الهيكل السياسي أو الإداري، عندما تظهر العناصر المنسية مرة أخرى، وذلك أساساً لتبرير أو دعم نظام قائم. فكثيراً ما يكون تحديد التراث والاعتراف به هو عمل سياسي لأن “القرار بشأن ما يعتبر جديرًا بالحماية والحفظ ويتم اتخاذه عمومًا من قبل سلطات الدولة على المستوى الوطني والمنظمات الحكومية الدولية – التي تضم الدول الأعضاء – على المستوى الدولي”.
فإذاً نحن نحافظ على التراث لأسباب عديدة أهمها:
- هي أحدى أهم الوسائل للحفاظ على هويتنا.
- هي واقع ثقافي يمهد الطريق لجميع الأشخاص من مختلف مجموعات المهارات والتخصصات الأكاديمية ليكونوا واجهة موحدة لقضية نبيلة للغاية.
- لا يخفى على أحد أن التراث المادي يجذب السياحة، والتي بدورها توفر تمويلًا خارجيًا للاقتصاد المحلي، مما يحتمل أن يحفز النمو الاقتصادي والازدهار. وكل تعدٍّ على التراث المادي سواءً كان نتيجة الجهل أو الإهمال أو لغايات سياسية مريبة هو خسارة للاقتصاد الوطني.
- المباني والمواقع التراثية هي بقايا أسلافنا، وهي انعكاس لماضينا ومصدر أساسي للمعلومات لتتبع تطور مجتمعنا كحضارة. صمدت العديد من المواقع التراثية أمام اختبار الزمن. ولكن، مثل صحة الإنسان التي تتطلب احتياطات وفحوصات من وقت لآخر، تتطلب هذه المباني أيضاً صيانة وترميماً دؤوباً.
- الحفاظ التراثي هو شكل من أشكال التنمية السكنية، والحفاظ عليه يقلل من الاعتماد على المواد الجديدة ومواد البناء الملوثة والتصنيع كثيف الطاقة.
- لأن المعالم التراثية هي عنوان للجمال والفخر في المجتمع. ومن خلالها يتم تعزيز الهوية الثقافية القوية بين السكان من مختلف الأجيال وبالتالي المحافظة على النسيج الاجتماعي الذي يشكّل هذه الهوية.
- في الحفاظ على تراثنا الثقافي يمكننا التواصل مع الناس في جميع أنحاء العالم لمشاركة تراثهم الثقافي والتاريخي مما يعود بالمنفعة الثقافية والاقتصادية على بلدنا من خلال المؤسسات الكبيرة التي تعنى بالتراث العالمي.
مسؤولية جيل الشباب
يجب أن يدرك جيل الشباب قيمة وضرورة الحفاظ على التراث الثقافي وأن يكون ذلك أمر يفخر به. من المؤكد أن الجيل الحالي يتمسك بقوة بمجتمعه الراهن، ولكن عليه مسؤولية نقل هذه الأمانة إلى الجيل التالي حتى تستمر في الازدهار لعدة أجيال أخرى؛ وهذه غايتنا الأساسية في جمعية تراث بيروت التي أفتخر بتأسيسها ورئاستها. وعلينا الانتباه أن الحفاظ على التنوع الثقافي لا يساعد فقط أولئك الذين نحمي تقاليدهم، لكنه يحافظ أيضاً على أساليب التفكير التي يمكننا أن نتعلم عنها ومنها. وهنا، لا بد لي أن أكرر ما كتبته فوق لأهميته في نظرنا كجمعية تهتم بالتراث بجميع جوانبه: “.. التراث هو مادة هامة تستحق أن تكون في مناهج المواد التعليمية التي تدرّس في مدارس الناشئة في لبنان لترسيخ جذور المواطنة الحقة في نفوسهم وليكون لديهم عتاد يواجهون به من يتآمر على هويتهم ومحيطهم وتاريخهم”.
________
*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت