سأحدثكم عن بيروت (25).. مسرح “فاروق”، الشاهد الأمين على تقلبات المدينة وتغيراتها!

زياد سامي عيتاني*

لا يمكن أن نتذكّر ماضي بيروت الجميل، دون أن يسرقنا الحنين إلى مسرح “فاروق”. هذا المسرح الذي نقش إسمه في الثلاثينيات من القرن الماضي في جغرافيا العاصمة، كواحد من معالمها، والشاهد الأمين على تقلّبات المدينة وتغيراتها في فترة إمتدت سبعين عاماً…

مسرح “فاروق” كان خشبة لمسرح دائم للأحداث والتطورات المختلفة، من شتى أشكال الدراما والتراجيديا، التي توالت على بيروت على مدى حقبة طويلة من الزمن، كأنّه وعلى مدى تاريخه، كان يدوّن تاريخ بيروت…

وقد تميّز مسرح “فاروق” عن باقي مسارح العاصمة بإنفراده في إنتقاد السلطة السياسية والحكومات المتعاقبة في البلاد. وهذا ما جعل المؤرخين يصفونه بالمسرح السياسي الأول في لبنان.

وكان يعتبر مسرح “فاروق” في تلك الفترة أهم مسارح المدينة، فوصل في أيام “عزّه” إلى إستيعاب أكثر من ألف شخص، وتنظيم حفلتين يومياً. كما قدّم الكثير من العروض والحفلات لفرق سورية ولبنانية ومصرية مرّت على بيروت في تلك الفترة.

فهذا المسرح المَعلم، هو حكاية جميلة من حكايات بيروت التي لا تفنى ما دام ثمة من يسقي زرعها في أحواض الذاكرة، مهما تعبت وشاخت.

**

خلال الربع الأول من القرن العشرين أخذت الحركة المسرحية في بيروت تزدهر، الأمر الذي إستدعى إنشاء صالات عدة تستوعب الفرق التمثيلية الوافدة من مصر، فضلاً عن الفرق المسرحية المحلية. ومن أول المسارح كان مسرح “زهرة سوريا”، الذي تحوّل في ما بعد إلى مسرح “فاروق”، ثم مسرح “التحرير”.

فمسرح “زهرة سوريا” في ساحة “البرج” هو أقدم مسارح بيروت المستوفي الشروط الفنية، يُرجّح أنّه تأسّس في العام 1887. أنشأه سليم آغا كريدية وشريكه سليم بدر، على الطريقة الأوروبية النمسوية، بناءً على نصيحة والي بيروت خالد بك البابان، الذي كانت تربطه علاقة صداقة بكريدية، حيث عرض عليه فكرة إنشاء المسرح وساعده على ذلك بعد زيارته للنمسا (بحسب ما ورد في كتاب “مسارح بيروت وتواريخها”)، الذي يشير أيضاً إلى أن إسم “زهرة سوريا” أُطلق على هذا المسرح لأن بيروت كانت تطلق عليها هذه الصفة في القرن الثامن عشر. وإستمر في العرض حتى 1903.

وما يؤكد أنه أوَل مسرح عرفته بيروت في عصر النهضة، ما جاء في جريدة “الأهرام” المصريَة الصادرة بتاريخ السابع من كانون الثاني سنة 1899 ما يأتي: “وقد مُثّلت في بيروت في مساء 30 ديسمبر الفائت في ملعب زهرة سوريَا رواية (كوكب الشرق)، وهي رواية بديعة الوضع، حسنة التنسيق… وسُرَ الجميع منها وطربوا بنغمات حضرة مدير الجوقة أنطون أفندي مزَاوي الشهير، والتمسوا إعادة تمثيلها…”

وفي وقت لاحق إستثمره المسرحي يوسف بشارة لثلاث سنوات، ثم حوّله كريدية وبدر إلى دار للعرض السينمائي والمسرحي.

مع بدء الحرب الأولى تحوّل المسرح إلى مركز إمداد للقوات العثمانية إلى حين إنسحاب الجيش التركي من بيروت، ليعاود المسرح نشاطه حتى 1927، عندما إشتراه علي حموي وجعله مقهى بإسم “الكريون”، ومن ثم مخزناً للمواد الغذائية.

في عام 1940 إستثمره الممثلان ناديا تقلا شمعون وعلي العريس، وأطلقا عليه إسم “تياترو ناديا”، إلا أن شركتهما أفلست عام 1945 ليتوقّف المسرح عن العمل.

**

بعد ذلك، إشتراه عفيف كريدية أواخر عام 1945 وجدّده وأطلق عليه إسم مسرح “فاروق” تيمناً بملك مصر والسودان، وبعد ثورة 1952 في مصر، غيّر إسمه وأطلق عليه إسم مسرح “التحرير” تعاطفاً مع ثورة عبد الناصر، وإستمر على هذا الإسم حتى 1971 عندما تعرّض لحريق كبير قضى على أرجائه.

**

قدَم مسرح “فاروق” عدداً كبيراً من المسرحيّات، وتذكر جريدة “لسان الحال” سنة 1901، بأنّ بدل دخول المسرح كان (بشلكاً، وبدل اللُوج مجيديًّا واحدًا).

نذكر من الفِرَق التي مثَّلت على خشبة هذا المسرح: فرقة إسكندر صيقلي، وفرقة سليمان القِرداحي، وفرقة سوريَا الفتاة، وفرقة جورج أبيض، وفرقة الشيخ سلامة حجازي، وغيرها.

كما أنّه كانت تقدَم في هذه الصَالة ليالي طرب، بحسب خبر أوردته أيضًا جريدة “لسان الحال” في عددها الذي صدر بتاريخ 5 كانون الثاني من عام 1903، تتحدَث فيه عن هذه اللّيلة وتقول: “إنَ من شأن مثل هذه الحفلات أن تجذب قلوب القوم عفوا بلا طلب ولا تكلُف ولا إحجام ، بحيث لا يمكن لزيد مثلا أن يقول: (بَلصونا)! ولا لعمرو أن يتأفّف، ولا لخالد أن يشكو ويتبرَم، وكان ريعها مخصصا لاقامة مدرسة مجَانيّة لأولاد الفقراء… كتب موضوعها الشاعر شبلي الملاَط ورتَب ألحانها شكري السودا، وتبرَع بتمثيل أدوارها الغنائيَة صاحب الصوت الرخيم والنغمات الرائعة الحاج عبد الرحمن الصفح، وحليم نحَاس، وبين الأدوار دور مستعذب لحنته الممثلة (رضحلو)، ودور آخر لأحد طلاَب المدرسة الخيريَة المارونيَة إميل خضرا. وقد جُعِل ثمن الورقة ريالا مجيديًّا، ومحل بيعها في صيدليَة الشيخ يوسف الجميّل على طريق النهر”.

**

رغم هذا التاريخ العريق لمسرح “فاروق”، فإنّه ما يؤسف له، أنه مع بداية الستينيات بدأ مرحلة التقهقر والإنحدار، ليتحوّل إلى خليط من العروض المسرحية ووصلات الرقص الشرقي المبتذلة “التيرسو”(!) إلى أن تعرّض المسرح بسبب الإهمال إلى حريق قضى عليه، ثم كانت الحرب لتجهز عليه نهائياً!

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website