سأحدثكم عن بيروت (24).. مقاهي رصيف شارع الحمراء

زياد سامي عيتاني*

مقاهي رصيف شارع “الحمراء” كانت فضاءً رحباً لنخب المثقفين.

أطلّ شارع “الحمراء” في أربعينيات القرن الماضي ليكون منارة بيروت، وروحها النابضة، ومقراً للنّخب اللبنانية والعربية في آن، وليعكس صورة بيروت الحضارية، والثقافية، كما أحبّها اللبنانيون…

**

وأبرز ما تميّز به شارع “الحمراء”، مقاهي الرصيف التي نشأت في بدايات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مع الإزدهار الإقتصادي والإجتماعي، الذي شهدته بيروت، وذلك كإقتباس “ملبنن” لفكرة شارع “الشانزليزيه” في باريس الذي تصطفّ على جانبيه مقاهي الأرصفة، التي تقصدها طبقات مثقّفة من حول العالم.

وتميّزت مقاهي “الحمراء” بفخامتها ورقيّها، وغالباً ما كانت على الطراز الأوروبي، سيما وأن أعداداً كبيرة من روادها من الطبقة الميسورة، تماشياً وتفاعلاً مع طبيعة الشارع الراقي بمحلاته، وفنادقه، وصالات العروض السينمائية.

ولإضفاء المزيد من الرقي على مقاهي “الحمراء”، حرص أصحابها على إطلاق أسماء غربية عليها، للدلالة على أنها تمثّل روح الحداثة…

**

وكانت مقاهي شارع “الحمراء” تستقطب شعراء، وأدباء، وكتّاب، وصحافيين كبار من لبنان، ومختلف الأقطار العربية. ففي تلك “مقاهي الرصيف” كانت تُنسج العلاقات الاجتماعية، وتُولد القصائد، وتُكتب عناوين الصحف ومقالاتها السياسية.

وأشهر الشعراء الكبار الذين كانوا من الرواد الدائمين لمقاهي “الحمراء” محمد الماغوط، ونزار قباني، ويوسف الخال، وأدونيس، وغيرهم الذين أنتجوا معظم شعرهم على طاولات تلك المقاهي…

فطوال ثلاثين عاماً كانت مقاهي “الحمراء” (1960 – 1990) بمثابة أمكنة يداوم على ارتيادها مثقّفون وصحافيّون وسياسيّون وفنانون لبنانيّون وعرب.

يومها، كانت المدينة تمتلئ وتغلي غلياناً بالوافدين إليها من الدول العربية، حيث أصبحت ملجأ رحباً لمفكرين عرب وجدوا في مقاهي “الحمراء” الملاذ لاطلاق كلماتهم

وصرخاتهم، التي كانت تعبّر في أغلب الأحيان عن ثورة اجتماعية

وسياسية وفكرية دفينة.

وفي فترة ما بعد العام 67، ذاع صيت هذه المقاهي بوصفها غرف سريّة وضِعت فيها بيانات تأسيس أحزاب عربيّة معارضة، ورُسِمت فوق طاولاتها خطط الإنقلابات في غير دولة…

فقد شكّلت “المودكا” “قبلة” فرضت نفسها، وأقام مع “الويمبي” و”الكافية دوباري” مثلثاً ذاع صيته في العالم العربي.

وسبقهم إلى الشهرة مقهى “هورس شو” الذي إنطلق عام 1959 كأول مقهى رصيف في الشارع، وتحوّل إلى أهم ملتقى للمثقفين اللبنانيين والعرب على اختلاف مشاربهم، وعقائدهم، وأحلامهم، ثم مقهى “إكسبريس” و”مانهاتن” و”نيغرسكو” و”إلدورادو” و”ستراند”…

**

وبالرغم من أن مقاهي “الحمراء” كانت متنفساً، وفضاءات للحرية، واللقاءات، والأحاديث الشعبية، وللمفكرين والأدباء والفنانيين، فإنها وتباعاً منذ مطلع التسعينيات بدأت الإقفال الواحدة بعد الأخرى.. وبإقفالها كان يُقفل شيئ من الذاكرة(!) وكأنها بداية النهاية لقصة مقاهي الرصيف في شارع “الحمراء”، التي كانت نقطة إستقطاب للنخب والتنوّع والإبداع الفكري والثقافي والأدبي!

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website