ترجع بدايات تأسيس مرفأ بيروت الى القرن ١٥ قبل الميلاد، وقد ورد اسمه في رسائل “تل العمارنة” التي تشير الى علاقات تجارية بين ملك بيروت الفينيقي وفرعون مصر. وفي العصر الروماني، بنى الامبراطور أغسطس قيصر سدين وبرجين وسلسلة حديدية لحمايته، ومنه انطلقت الحركة التجارية بين الشرق والغرب، وتابع ازدهاره مع الحقبات التاريخية اللاحقة، فها هو خلال الدولة الاموية، يصبح مركزا للاسطول العربي ولصناعة السفن الحربية وكذلك في عهد الدولة الايوبية (القرنين ١٢ و ١٣م). مع الصليبيين أعيد تنشيط الحركة مع الغرب، وبني على جانبه قلعتين.
وخلال الحقبة العثمانية، بات موقعا تجاريا وعسكريا في ان واحد، وقوي دوره مع حكم الامير بشير الثاني في القرن ١٩ الذي ابرم اتفاقية مع حاكم مصري محمد علي باشا موفدا ابنه ابراهيم باشا لاحتلال المنطقة (١٨٣١_١٨٤٠)، فأنشأ منطقة الحجر الصحي في محلة الكرنتينا، لحجر الوافدين ٤٠ يوما خصوصا بعد تعاظم وباء الطاعون وسواه من الامراض المعدية درءا لتسللها في صفوف الاهلين. ووفدت اليه خلال تلك الفترة بوتيرة متصاعدة البضائع الاوروبية والاميركية، خصوصا بعد تزايد نفوذ القناصل الاوروبيين (المسألة الشرقية) وبعد توافد الارساليات الاجنبية وفتح مؤسسات تعليمية في بيروت والجبل على السواء نذكر منها تأسيس الجامعة الاميركية في ستينيات القرن ١٩، والجامعة اليسوعية بعدها بسنين معدودة…، فتزايد الاحتكاك مع الغرب، ولا ننسى تواجد عشرات الخانات القريبة من موقعه، التي كانت تستقبل التجار مع بضائعهم، فزادت حركته التجارية. يضاف ايضا، ادخال المطابع اليه بغية تحفيز حركة الطباعة والنشر، ومسألة اتخاذ تجار اوروبيين كثر، مركز اقامتهم على الطريق المحاذية له، التي عرفت حينها ب”طريق الملاحين” مستفيدين من تحويل مدينة بيروت مركزا لقنصليات اوروبية عدة نذكر منها تأسيس القنصلية الفرنسية سنة ١٨٢٢ ما اعطى زخما للعديد من التجار الغربيين. بالاضافة الى تحويل المدينة ولاية عثمانية سنة ١٨٨٨ ضمت اكثر من ١٢٠ الفا من السكان وامتدت من اللاذقية شمالا حتى يافا جنوبا.
سنة ١٨٦٤، أنشئ في المرفأ حوض اضافي مع مخازن ومستودعات للتجار ولبضائعهم ومقتنياتهم الشخصية وتم تخصيص موانىء توزعت على منتوجات عدة؛ فوجد ميناء للخشب واخر مخصص للقمح وميناء البصل وسواها. وكانت تجارة الحرير خلال القرن ١٩، من اهم السلع التجارية التي ارتكز عليها المرفأ وكذلك ابناء جبل لبنان عموما. سنة ١٨٨٧ صدرت “ارادة سنية عثمانية” قضت بمنح امتياز بتطوير وتحسين المرفأ لشركة يديرها يوسف افندي المطران لمدة ٦٠ عاما. بوشرت الاعمال وانتهت سنة ١٨٩٤ بافتتاح رسمي، وشهد المرفأ اواخر هذا القرن زيارة الامبراطور الالماني غليوم الثاني (وليام) سنة ١٨٩٨.
مع القرن ٢٠، شهد المرفأ سلسلة من الاحداث والانجازات، ففي العام ١٩٣٢، وتحت رعاية الانتداب الفرنسي، افتتح فيه مبنى مخصص للجمارك، وبعدها بسنتين؛ بني الحوض الثاني وتوسع بناء السد. سنة ١٩٦٠، انشئ الحوض الثالث وبدأت الاعمال بالحوضين الرابع والخامس وباتت ادارته تحت وصاية الحكومة اللبنانية. وخلال عهد الرئيس شارل حلو، تم بناء صوامع للقمح بدعم كويتي، انتهى العمل بها في العام ١٩٧٠.
نكبات تعرض لها المرفأ عبر التاريخ:
نتوقف عند البعض منها، ففي السنة ٥٨٦ ق.م، دمّر الملك البابلي نبوخذ نصّر المنطقة الساحلية لبلاد الشام بما فيها بيروت بعد انتصاره على المصريين، وكذلك فعلت الزلازل التي ضربت بيروت مرات عدة في القرنين الرابع والسادس وكذلك في القرن ١٣ و القرن ١٨. وسنة ٩٧٤ ضربه البيزنطيون وتعرض لضربات ممتالية بين ١١٠٠ و١١١٠ ابان الصراع بين الصليبيين والعرب. سنة ١٨٤٠ ضربته اساطيل القوات الاوروبية المتحالفة مع العثمانيين بهدف طرد القوات المصرية. وخلال الحربين العالميتين تعرض لهجمات عدة كذلك خلال الحرب اللبنانية (١٩٧٥_١٩٩٠)، نال نصيبه من الدمار، وكان بعد كل محنة ينهض ويتابع دوره التجاري. غير ان الضربة الموجعة كانت ما حل به في الرابع من شهر اب ٢٠٢٠، وما خلفته تلك النكبة من ضحايا بالمئات وخسائر مادية جسيمة لحقت به وبالمنطقة المجاورة…
قدراته التجارية: تبلغ مساحة الميناء الاجمالية ١.٢ مليون متر مربع، ويتألف من ٤ أحواض يتراوح عمقها بين ٢٠ و ٢٤ مترا، ويشمل ١٦ رصيفا ومستودعات ومخازن متعددة والات تحميل وتفريغ حديثة وفق معايير عالمية. وكان لسنين خلت قبل الحرب الاليمة يعتبر من اهم الموانئ على البحر المتوسط في زمن لقبت بيروت ب” باريس الشرق”. وفي تصنيف حديث، وضعه في المرتبة السادسة اقليميا. وتكمن اهميته ايضا بكونه نقطة استراتيجية مهمة نظرا لتوسط موقعه بين الشرق والغرب ولكونه نقطة ترانزيت (نقطة عبور او مرور) للبضائع والاشخاص، يضاف الى ذلك وجود المنطقة الحرة فيه التي تشغّل مع مختلف ادارات المرفأ الاف المواطنين، ويؤمّن المرفأ عائدات مالية ضخمة للخزينة العامة…
يستقبل سنويا اكثر من ٣٠٠٠ سفينة تجارية ويقيم علاقات مع اكثر من ٣٠٠ ميناء دولي.
***
المراجع؛_ د. سهيل منيمنة، مرفأ بيروت تاريخ من العز والنكبات… اساس ميديا، ١٠ اب ٢٠٢٠.
_ د. عبد الرؤوف سنو، د. عصام شبارو، د. حسان حلاق، مرفأ بيروت في ذاكرة ٣ مؤرخين، النهار، ١٥ اب ٢٠٢٠.
_ نور علوان، مرفأ بيروت المنكوب… نون بوست، ٥ اب ٢٠٢٠.
_ محمد بهجت ومحمد التميمي، ولاية بيروت في العهد العثماني، دار خاطر، ٢٠١٠.
_امين حبلا، مرفأ بيروت بين الامس واليوم، موقع الجزيرة، ٥ اب ٢٠٢٠.
________
*أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية/ صديق جمعية تراثنا بيروت