رحلة العودة قوافل الحج قديماً إلى ديارهم بعد تأدية المناسك، لم تكن أقل مشقّة وخطر من رحلة الذهاب إلى أرض الحجاز.
فقد كانت رحلة العودة مسرحاً للمشاعر المتناقضة. فإلى جانب الأهالي الذين يحتفون بالزغاريد بعودة ذويهم سالمين من رحلتهم الشاقة متوّجين بلقب “الحاج”، كانت هناك مناظر للحزن تتقطّع لها القلوب، ولاسيما عندما “تولول” النساء أو يجهشن بالبكاء، عندما يعلمن بوفاة من كنَّ يترقبن حضوره، أو عندما يتسلمن متعلقات المتوفي.
إذن، عودة محامل الحج لم تكن دائماً وردية الملامح بهيجة المنظر، فكثيراً ما لفّتها أجواء من الحزن والأسى ولاسيما عندما كان يعجز أمراء الحج لأسباب مختلفة عن حماية القافلة عند عودتها من إعتداءات على طول الطريق!!!
لذلك، جرت العادة عندما تعود قوافل الحج إلى ديارها أن تقام لها طقوس خاصة لإستقبالها، حيث تطلق المدفعية تحية لعودة المحامل، وتغص الشوارع بالناس الذين يُبدون حرصاً شديداً على الإقتراب من المحمل ولمسه ثلاث مرات ومسح وجوههم طلباً للبركة…
**
لذلك، وبسبب تلك المعاناة كانت قوافل الحج تستقبل بحفاوة كبيرة في ديارها، حيث تُعدّ العدّة لإستقبال الحجّاج إحتفالاً بعودتهم سالمين غانمين وقد غقر الله تعالى ذنوبهم.
وإستقبال الحجّاج العائدين إلى بلادهم ومدنهم بعد أن أدوا فريضة الحج يكاد يتشابه في معظم بلاد العالم الاسلامي، والقاسم الأكبر الذي يجمع بينهم هو الاحتفاء الكبير بالعائدين منهم، والتباري على التعبير عن هذا الاحتفاء بمختلف الطرق التي تشمل الولائم، ولافتات الترحيب، والأهازيج المتداولة خصيصاً لهذه المناسبة.
وكانت مظاهر الإحتفاء بعودة الحجيج تستمر أياماً، وتخصّص لها نفقات كبيرة، ومظاهر متنوّعة وتنظّم لها فعاليات كثيرة، إختصرها الوقت الحالي في بعض مجتزأ من الماضي، يحمل القليل من ملامحه، والقليل من مشاعره، والقليل من طقوسه…
**
مدينة بيروت كغيرها من المدن العربية والإسلامية كانت تولي الإحتفلات بعودة حجّاج بيت الله الحرام اهتماماً كبيراً، وتُعدّ لهم إستقبالات حاشدة، لأنّ المسافر للحجِّ قد لا يعود من سفره لبُعد المسافة وطول مدَّة السَّفر وبعض الأخطار التي يواجِهُها فيه.
ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق، تأكيداً على مخاطر رحلة الحج في الماضي، وقبل التسهيلات الحديثة بطرق المواصلات، أنه جرَت العادة عند أهل بيروت، أن يقوم الحاجّ قبل سفره، بوداع الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران فرداً فرداً، ويعتذر لِمَنْ أساء إليه، ويطلب السَّماح ممَّن آذاه، ويُسدِّد الدُّيون المُترتِّبة عليه، ثمَّ يوكِلُ الأمور التي كان يتولاّها، عائليَّةً أو تجاريَّةً أو غيرَها، إلى أكبر أبنائه سِنّاً أو إلى أحَدِ أشقّائه.
وفي وقتها كان الحجّاج البيروتيون يتنقلون براً حيث يلتحقون بقافلة المحمل الشامي، أو بحراً عبر مرفأ بيروت.
لذلك، كانت تُعدّ العدّة لإستقبالهم عند عودتهم من خلال إحتفالات ترحيبية تمتد لأيام عدة، يتخلّلها الكثير من الفعاليات التي صارت مع مرور الزمن من العادات والتقاليد الشعبية ترحيباً بالحجّاج.
ورغم أن تلك العادات تغيّرت عبر الأزمان، لكنّ بعضها لا تزال معتمدة إلى حدٍّ ما، ومنها تزيين بيوت الحجّاج بسعف النخيل وأحياناً بأوراق أشجار السرو، بالإضافة إلى عبارات الترحيب واللافتات الترحيبيّة التي تحمل آيات قرآنية.
**
فقد جرت العادة على أن يقوم أهل الحجّاج العائدين، قبل وصولهم بأيام بتزيين واجهات المنازل بسعف النخيل، وبالرسوم والأصباغ الملونة والتي تحمل بشكل أساسي رسوماً لجمال المحمل مع بعض عبارات تقليدية من قبيل، إضافة إلى تعليق يافطات قماشية تحمل عبارات: “حجّ مبرور وسعيّ مشكور وذنب مغفور بمشيئة الله”، “هنيئا لكلّ من أنعم الله عليه بحج بيت الله الحرام”،”هنيئا لمن لبى النداء”، “هنيئا لمن وقف بعرفات”، “تقبل الله منكم”…
وثمة عادة جميلة جداً كانت سائدة قديماً في بيروت، وهي أن لا تقتصر زينة الحجّاج العائدين فردياً على مداخل منازلهم، بل كان يتبرّع ويتضافر أهالي الأحياء بإقامة زينات جماعية في مختلف أرجاء محلتهم، كتعبير يجسّد أبهى صورة عن الألفة والمحبة التي كانت تجمعهم من جهة، ومن جهة أخرى تعبيراً عن فرحتهم بوصول أهليهم وجيرانهم من أبناء وأهل المنطقة سالمين غانمين من الديار المقدسة.
وعند وصول الحجّاج القادمين من الأراضي الشريفة المقدّسة إلى مناطقهم، كانوا يُستقبلون إستقبالاً حارّاً وسط العراضات والأهازيج والأناشيد وضرب الطبول والصُّنوج، وإطلاق الزغاريد ونحر الخراف، ليمرّ الحجّاج من فوقها ويطبعون أصابعهم من دمائها على جدران المنازل، ويقومون بتوزيع جزءٍ منها على الفقراء…
ومن ثمّ يبدأ الحجّاج بإستقبال المُهَنِّئين من الأقارب والجيران، وتقديم الهدايا لهم، ومنها: التُّمور ومياه زمزم والمصاحف والسُّبْحات والبخور والقماش المختَلِفُ، فيما يسهب الحجّاج في سرد وقائع رحلتهم وما تخللها من مشقة ومتاعب وصعوبات، والتي تزال كلّ آثارها وتداعياتها، بمجرد الوصول إلى المشاعر المقدسة، وكأن سحراً روحانياً قد أزال عنهم كلّ المتاعب والمشقات، فتبدأ رحلتهم الإيمانية بالتمتع بالمناسك بكلّ ورعٍ وتقوى ونفحاتٍ نورانية، تنقلهم إلى عالم آخر…
وكانت تقام قديماً أيضاً، ومن ضمن الإحتفالات بعودة الحجّاج، بعد بضعة أيام من وصولهم، بعدما يكونون قد نالوا قسطاً من الراحة، الولائم على شرفهم، حيث كان يتبرّع الجيران والأقارب لإقامة تلك الولائم، لأن بيوت الحجّاج تكون منهمكة في إستقبال المهنئين.
وكان يُدعى لتلك الولائم وجهاء الحي وأصحاب الرتب وإمام المسجد والمخاتير والأهالي، وكانوا يحرصون أيضاً على دعوة “العائلات المستورة” للمشاركة في فرحة عودة الحجّاج.
وكانت تستهل الوليمة بتلاوة مباركة من القرآن الكريم، لأحد القراء، ثمّ تكون كلمة من وحيّ المناسبة لإمام المسجد، بعدها يُدعى الجميع إلى المأدبة لتناول ما لذّ وطاب من المأكولات الدسمة التي تُعدّ خصيصاً للمناسبة.
وكانت تختتم الولائم بالسماع لتلاوة السيرة النبوية العطرة والأناشيد والإبتهالات الدينيّة من قبل فرقة المدائح التي تكون قد دُعيت لإحياء هذه الليلة…
**
صحيح أن أداء مناسك الحج في عصرنا الحديث، بعد كلّ التسهيلات والخدمات المتطوّرة العصرية التي تتزايد كلّ عام، لتوفير الأمن والأمان والراحة والطمأنينة للحجيج، لم تعد محفوفة بالمخاطر والمتاعب، ولكنّ العادات الإحتفالية التقليدية بقدومهم ما تزال قائمة، وإن أُتبعت ببعض المظاهر الجديدة، لكنها في مطلق الأحوال تطفي أجواءً زاهية ومحبّبة مع عودة حجّاج بيت الله الحرام إلى مدينتهم بيروت…
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي