دكان الحلاقة زمان، قبل أن يطلق عليه “صالون”، لم يكن يوماً مجرّد محلّ روتيني، بل كان مجتمعاً ومجمعاً قائماً بذاته، للقاء الأصدقاء والجيران وأبناء “الحي”، سواء كانوا من الزبائن، أو من يقصدونه لتمضية الوقت، لا سيما المتقاعدين منهم.
كان دكان الحلاق تتجمع فيها أخبار وقائع وأحداث الحي اليومية بخيرها وشرها، حلوها ومرها، صادقها أو كاذبها.. وكان أيضاً وكالة أنباء، وكاناً لوضع الأمانات، ومعرفاً عن أبناء وبنات محلته، وذكلك عيادة طبية تضمّ كل الوصفات القديمة والجديدة، وتلك التي ما أنزل بها الله من سلطان، لولا قلة العلم وسعة الحيلة لما خرجت الى الوجود!!!
كل شيء في دكان الحلاقة يخفي في ثناياه قصص كثيرة، لا سيما ذلك الكرسي الخشبي، الذي إن وجد في عصرنا، فهو بات تراثاً وجب وضعه في المتحف(!) مرت عليه أجيال وأجيال من مختلف الفئات والشرائح، وكأن ذلك الكرسي، هو الوحيد في بلادنا ليس حكراً لطبقة معينة من السياسيين، كما أن مدة الجلوس عليه لا تتعدى مدة الحلاقة…
**
والحلاق ليكون ذو شأن في مهنته، لا يكفي أن يجيدها ببراعة، وأن تكون عليه “ضربة مقص”، بل عليه أيضاً أن يتمتع بمواصفات أخرى، لا تمت إلى مهنته بصلة، أبرزها على الإطلاق أن يكون “ثرثاراً” والنميمة وأن يتمتع بمخيلة واسعة في نسج الأخبار والحكايات، لكي يظهر دوماً بمظهر العارف بكل شيء.
حتى أن البعض منهم كان متهماً بأنه وسيط غير نزيه(!) بين أبناء منطقته، وبين السلطة، حيث يزودها بما يطلبه من معلومات عن أشخاص معينين!!! لكن لم يكن يوجد أي دليل قاطع عن هذه التهمة.. ربما كانت هذه التهمة مجرد تحامل وإفتراء على الحلاقين…
أياً يكن توصيف حلاق أيام زمان، فلا شك أنه كان جزاءاً من تكوين كل محلة وحي في مناطق بيروت المختلفة، وبالتالي فإن دكانه يشكل نسيجاً مصغراً للأهالي، والمطلع على أحوالهم وأوضاعهم، والمعالج لمرضاهم، والمرشد لكل سائل، والسمسار لكل من يبحث عن سكن أو دكان…
فإذا سألت أيّاً كان من المعمرين، عن علاقته بالحلاق أيام زمان، ستجد لديه عشرات الخبريات والمرويات من نوادر وطرائف عما كان يدور في دكانه، إضافة إلى وكوارث، غير طبيعية حصدت شعر رأسه أو جعلته أرضاً شائكة!!!
**
صفة الثرثرة التي إلتصقت بالحلاق، يبررها البعض بأن سببها تواجده الدائم في دكانه منذ الصباح حتى إقفاله، مما يجعله بحاجة لمحادثة زبائنه على سبيل التسلية من جهة، ومن جهة أخرى بهدف المحافظة عليهم، فيتحدث معهم بشتى المواضيع التي من خلال خبرته يعرف كل واحد منهم ما هي المواضيع التي تثير إهتمامه.
لذلك، كان يروى لهم قصصاً مذهلة، وكان البعض من زبائنه يستمعون إلى قصصه بإهتمام، والبعض الآخر يعرفون عادته الخاصة بالنميمة والثرثرة.
ولكن ما لا يعرفه الكثيرون أن صفت الثرثرة التي علقت بالحلاق لها جذور وخلفية تاريخية، فالفراعنة، الذين كانوا إذا مات ملكهم يدفن معه حلاقه، بدعوى ليهتم بزينة الفرعون في العالم الآخر أو لربما حتى يكون الفرعون مطمئنا على سره فيدفن معه.
أما الإغريق فكانوا ينظرون إلى من كثف شعره وخاصة إذا طالت لحيته على أنه حكيم، لأنه زهد في الذهاب إلى الحلاق بسبب ثرثرته.
**
والحلاق إضافة إلى الحلاقة، كان يقوم بما يقوم به الطبيب اليوم، فكان جراحاً وكحالاً وطبيب وعيون وأمراض جلدية، ووختاناً للأولاد، كما كان يمارس مهمة طبيب الأسنان، فيشرط اللثة ويعالج الأضراس والأسنان، وإذا عجز عن معالجتها، عمد إلى إقتلاعها، ومن هنا جاء المثل الشعبي: “بيكون عم يحلق بيصير يقلِّع أضراس”…
**
غالباً ما كانت دكان الحلاقين ذات أبواب خشبية، تتضمن فتحات زجاجية، وفي وسط الدكان كرسي الحلاقة، مصنوع من الخيزران، له مسند متحرك يُوضع خلف رقبة الزبون ليستند عليه، وأمام هذا الكرسي، كرسي آخر صغير يُوضع تحت قدميه.
وأمام الكرسي، رف من الرخام مخصص لوضع عدة الحلاقة عليه، التي كانت تتألف من “الموس” وهو أداة حادة جداً، ذات نصل عريض، تستخدم في تحديد أطراف شعر الذقن، ورسمه بالشكل المرغوب، وهي تحتاج لدقة عالية في التعامل، والمقصات بأحجام مختلفة، لكل واحد منهم إستخدامه الخاص، وبخاخ ماء، وهو عبارة عن عبوة معدنية، تستخدم لرش الشعر برذاذ الماء قبل القيام بعمليّة قَص الشعر، وماكينة التنعيم اليدوية لتنعيم الرقبة، بعد رشها ب “البودرة” للحد من “قرصة” شفرات الماكينة، فرشاة لإزالة بقايا الشعر المقصوص عن وجه الزبون، وفرشاة الذقن التي توضع وعاء معدني بداخله ماء لترطيبها، قبل إستخدامها لتوزيع الصابون على وجه الزبون.
كذلك من مستلزمات “عدة” الحلاقة المناشف، وزجاجات “الكولونيا” للتعقيم والطعتير بعد الحلاقة، ومرآة يدوية تفيد الزبائن في النظر إلى نتيجة عمل الحلاق، و”الشبّة” التي تستخدم لإيقاف سيلان دماء الزبون في حال تعرض لجرح أثناء الحلاقة.
وعدة الحلاقة زمان كانت وفيّة للحلاقين، لم تصب يوماً بعطل أو كسر، كانت متينة، لذلك لم يكونوا يحتاجون إلى إستبدالها، كما هو حال هذه الأيام.
**
زمان كان الحلاق بمعزل عن كل ما أحاط به من تهم، وإن كان بعضها على سبيل التهكم، مخلصاً لمهنته ولزبائنه، بينه وبينهم علاقة مودة ووفاء متبادلة، فعندما يعتاد زبون على حلاق معين، يبقى ملازماً له، يسلمه رأسه وذقنه بكل ثقة وأمان، دون خوف عليهما…
________
*إعلامي وباحث في التراث الشعبي