عبد الله العلايلي هو المربي والأديب والشاعر والفقيه اللغوي والمصلح الاجتماعي والسياسي ورجل العلم الذي أثر في أكثر من ميدان من ميادين الحياة. وهو رجل الدين والعالم المنفتح على الأخر، الذي شكل الإسلام جزءاً من إنسانيته. فهم الدين على أنه قبل أي شيء مهمة اجتماعية. وعبد الله العلايلي هو الثائر على الطائفية والمذهبية، وعلى النظام الرأسمالي، وعلى التاجر الجشع، وعلى السياسي الفاسد المستبد. طالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين وبحقوق الإنسان، وانتصر لقضايا العمال المطلبية. ولم يسلم من قلمه ولسانه الحكام العرب وأنظمتهم المتجذرة في القبلية والعائلية، فهاجم الفاسدين منهم، ومن ارتبط بالأحلاف وتربع على السلطة بدعم من قوى الاستعمار.
وعلى خطٍ موازٍ، دحض العلايلي مقولة إن الثروات العربية، كالنفط على سبيل المثال، هي ملك نظام أو عائلة، ورأى أنها ملك الأمة الإسلامية وشعوبها. فحث الناس على الثورة وعلى المطالبة بحقوقهم، لأنهم شركاء فيها، معتبراً أن الثورة والتمرد هما أقصر الطرق نحو التطور. صحيح أنه أعطى قدراً مهماً للشعب للقيام بالتغيير، إلا أنه ركز على دور النُخب، أي ”الجماعة الممتازة“ المسؤولة عن تقدم الأمة، كما يسميها، واعتقد بضرورة وجود الزعيم الفرد على رأسها، فتصور زعيماً عادلاً يقود شعبه إلى المستقبل المنشود؛ زعيم لا يعلو فوق شعبه ويتقبل
انتقاده لأخطائه. لقد ربط العلايلي بين الحكام العرب ونكبة فلسطين، وما تعرض له الوطن العربي من انتكاسات، ورأى أن بقاء الكيان الصهيوني في فلسطين هو بمثابة انتحار سياسي للأمة العربية، لأن الوطن السليب لا يخص الفلسطينيين وحدهم، بل العرب والمسلمين والعالم، وأن المعركة ضد الصهيونية هي معركة الشعوب العربية قبل حكوماتهم.
لقد أعطى العلايلي السياسة مفهوماً أخلاقياً وجعلها تستند إلى القيم. نعتوه بالشيوعي وبالشيخ الأحمر لإبعاده عن دار الفتوى وعن منصب المفتي، إذ خشيت القوى السلفية والظلامية من أن يدخل دمٌ جديد إلى عروق المؤسسة الدينية التي أرادوها تقليدية على الدوام. ولهذا السبب، تعرض العلايلي للنقد الشديد وكتبه للمصادرة. وقال سعيد عقل، وكان من أشد المعجبين بالشيخ العلايلي، إن معظم الخراب الذي حل بلبنان كان من أسبابه أنه لم يأت أمثال الشيخ العلايلي إلى مثل هذا المنصب. ووصفه عبد الله قبرصي ب ”إنه طليعة رجال الدين المنفتحين على الآخر… وإنه بالفعل لو كان بيده سلطة أو سلطان لغير وجه التاريخ في العالم العربي، في ما يتعلق بعلاقات الأديان وأحدهما بالآخر، وبالنظرة إلى الدين ورجال الدين“.
لقد عاش عبد الله العلايلي هموم شعبه العربي وأمته الإسلامية وهموم وطنه لبنان. لكن أكبر هم تملكه في مختلف أوجه حياته هو الإنسانية؛ فكانت لونه المفضل عن اقتناع، لا الأحمر ولا الأخضر ولا النيلي، على حد قوله، بعدما هزته ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، فأراد أن تظلل الإنسانية الجميع وتسمو فوق كل الاعتبارات القومية والطائفية والمذهبية، التي اعتبرها جميعاً مغايرة للمسار التاريخي للعالم الذي يسير نحو التوحّد. صحيح أنه استعاض في ما بعد عن فكرة القومية العربية بالفكرة الإنسانية، إلا أنه حرص على بقاء القومية العربية في إطارها اللغوي والأدبي والفكري، وكان هذا يقربه من التيار القومي اللبناني الذي رأى في القومية العربية خطراً على لبنان، ويبعده في الوقت نفسه عن دعاة القومية العربية.
وقد رافق العلايلي الحركاتِ الإصلاحيةَ في العالم العربي منذ شبابه، وكان على صلة وثيقة بها، فكان مناضلاً عروبياً وقومياً، تحول، كما ذكرنا، تدريجاً إلى الإنسانية؛ لكنه كان لبنانياً حتى العظم. آمن بالتعايش بين أبناء الوطن الواحد، وبارك العمل الحزبي وأسهم به، على الرغم من أنه لم يكن حزبياً تماماً. قرأ التاريخ وكتب فيه بشجاعة نادرة، من دون أن ينفصل عن واقعه، فربط ما بين الماضي والحاضر..
هذا هو الشيخ عبد الله العلايلي الذي ولد في زمن التحول من الرابطة العثمانية والجامعة الإسلامية إلى القومية العربية. وكانت له مواقف رائدة من قضية فلسطين وهجوم الاستعمار على البلاد العربية. وقد أسهم في الفكر القومي العربي، وكانت له اتجاهات فكرية واضحة في المسألة اللبنانية، من الحياة الحزبية والبرلمانية والأداء السياسي، وأخيراً من حرب لبنان وتأثيرها في نفسه ومقترحاته لإنهائها.
العلايلي وقضية فلسطين
انطلاقاً من فكره العروبي، تصدرت القضية الفلسطينية مواقفه القومية. عندما اندلعت حرب لبنان في العاام 1975 ، أدرك الشيخ عبد الله العلايلي خطرها على لبنان وعلى القضية الفلسطينية، ورفض مقولة الجبهة اللبنانية بفصل لبنان عن الصراع العربي – الإسرائيلي، وخاطب بيار الجميّل معتبراً أن الكنعانية تعني لبنان وتعني فلسطين أيضاً، وأن الإيمان بها يعني الإيمان بلبنان وفلسطين معاً. ورأى أن أكبر مشكلة واجهت الفلسطينيين في لبنان منذ العام 1948 هي في عدم انصهارهم في المجتمع اللبناني. لكنه يعود ويستدرك في أن تمسك الفلسطينيين بقضيتهم منع هذا الانصهار. وقد انتقد العلايلي الحكومات اللبنانية التي لم تعمل
على ترتيب الوجود الفلسطيني على أسس صحيحة، ما أوقع الفلسطينيين في أخطاء.
صحيح أن العلايلي أمل في أن يتمخض عن مؤتمر مدريد في العام 1991 سلام عادل في الشرق الأوسط، إلا أنه حذر من الولايات المتحدة التي تتصدر دول الاستعمار وتحابي إسرائيل. لكن السلام الذي كانت تنشده أميركا ولا تزال من المفاوضات بين العرب وإسرائيل التي بدأت برعايتها عقب الحرب الأممية على العراق، يختلف عن السلام الذي آمن به الشيخ العلايلي. من هنا، انتقد زحف العرب إلى مؤتمر مدريد، من دون أن يفقهوا معنى السلام، وحتى معنى السياسة. ورأى أن مقولة العرب في المؤتمر بمعادلة ”الأرض مقابل السلام“ لا تغري
إسرائيل في ضوء موازين القوى لصالحها. واعتبر في حينه أن أكبر إغراء لإسرائيل هو ”التعايش (معها) بكل أشكاله، تبادلاً وسياحة ومشاركة في الشأن العام“، أي التطبيع. ولكن الشيخ العلايلي لم يعش ليرى أن إسرائيل أرادت التطبيع والتمسك بالأرض معاً، وصولاً إلى تهويد فلسطين بالكامل (استيطان ومقولة الدولة اليهودية)، من دون أن تقدم للعرب شيئاً. وعلى ما يبدو، بنى العلايلي فرضية خاطئة ككثيرين حول سعي إسرائيل إلى السلام والتطبيع مقابل الأرض، على أساس أنها تريد السلام مرة واحدة وإلى الأبد. لكنه كان على ثقة أن الحكومات العربية ولو قبلت بالتطبيع، فإن شعوبها لا تستطيع أن تقبل به وأن تتكيف معه، وهو ما أثبته التاريخ.
العلايلي والمسألة اللبنانية: فكراً ومواقف
كما تصدرت المسألة اللبنانية اهتمامات العلايلي، واتخذ المواقف منها ما جعله في صلب الأحداث. فأدلى بدلوه في الصحافة اللبنانية حول مسائل تتعلق بالسياسة اليومية، ووقف خطيباً على المنابر الأحزاب والحركات والهيئات الاجتماعية والسياسية والدينية، وألقى العدد من المحاضرات وأسهم أو شارك في ولادة بعض الأحزاب، وبخاصة الحزب التقدمي الاشتراكي، وكان على صلة وثيقة بكمال جنبلاط. كما وقف على مسافة قريبة من الحزب السوري القومي الاجتماعي، وإن اختلف معه في مفهومه للأمة السورية. واتخذ مواقف شديد النقد لعهد بشارة
الخوري – رياض الصلح، حتى أنه هاجمهما مباشرة، وكذلك فعل مع شمعون بعدما خاب أمله فيه، على الرغم من دعم وصوله إلى الرئاسة.
اعتبر العلايلي أن الطائفية هي نقطة الضعف في الاجتماع السياسي اللبناني والوباء الذي يجب التخلص منه، وأنها البيئة الحاضنة للفساد الإداري والاصطراعات السياسية والمجتمعية، التي تجعل اللبنانيين يتطلعون نحو الخارج، الذي يتدخل في ازمات لبنان. وقد انتقد استقلال لبنان من ثلاث نواحٍ: الأولى لأنه يضرب المشروع القومي العربي والإرادة القومية الجامعة، فيرفض انعزال لبنان، حيث هو عربي الهوية والانتماء. والثانية، لأن الاستقلال الذي يُمنح من دون نضال هو عبودية، وعنصر الإرادة الوطنية المقدسة مفقود منه. والثالثة، لأنه لم يعبّر عن الإرادة الشعبية ولم يجر الاستفتاء عليه. كما ينتقد الميثاق الوطني لدور الخارج في وضعه، ولأنه أسس لطائفية سياسية ومجتمع متنافر وأفضلية طائفة على أخرى، وهذا برأيه دليل على قصور في النضج الاجتماعي، ما أدخل لبنان في حرب أهلية. من هنا، رأى العلايلي أن من أُسس الاصلاح القضاء على الطائفية ومساوئها. وللوصول إلى ذلك، طالب بتثقيف الشعب، والكفاح ضد التشريعات والنظم البالية، ومنها قوانين الانتخاب وتطبيق الديمقراطية البرلمانية،
ووضع نظام ضريبي عادل، وتقديم التأمينات الاجتماعية والاستشفائية، ووصول الشخص المناسب إلى قبة البرلمان ليكون صوت الشعب، ومنع الاقطاعيين والرأسماليين والطائفيين من الوصول إلى البرلمان، ليبقوا بعيدين عن التشريع النفعي. لكنه ينتقد في الوقت نفسه المعارضة والعمل الحزبي؛ فالأولى على رأسها قيادات يجب أن تغرُبَ وتتوارى، فيما لا تنطبق صفة الحزبية سوى على ثلاثة أحزاب لبنانية هي الشيوعي والسوري القومي الاجتماعي والتقدمي الاشتراكي.
إزاء هذا الواقع السياسي والاجتماعي، توقع العلايلي منذ الاستقلال غداً فظيعاً للبنان وبأن يخسر اللبنانيون وطنهم. وعندما وقعت حرب لبنان في العام 1975، رآها نتيجة منطقية لوطن يسير في طريق الخطأ. صحيح أنه اعتبر الطائفية من أضعفت التماسك المجتمعي اللبناني، إلا أن ما تفوق عليها، برأيه، هو وضع سورية لبنان في دائرة جيوسياستها وقوميتها التدخلية وصراعها مع إسرائيل منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة في العام 1970؛ فكان ذلك سبباً رئيسياً لحرب لبنان.
وما أن اشتعلت الحرب، حتى أدرك العلايلي مدى استخفاف اللبنانيين، ولا يزالون حتى اليوم رغم غياب العلايلي، بمصير وطنهم ووحدتهم. فانتقد القيادات السياسية والدولة، ورجال الدين الذين يخلطون بين السياسة والدين، في إسهامهم في اشتعال الحرب، وناشدهم إدراك مخاطر الانجرار إلى حرب أهلية. كما خاطب الحث الوطني عند الشعب اللبناني، وقود الحرب والنزاع بأيدي السياسيين الطائفيين. ونظراً للويلات التي سببتها ”حرب السنتين“، أيد الشيخ العلايلي
الدخول السوري إلى لبنان، لكن لن يشهد كل فساده ومساوئه، ولا حتى خروجه من لبنان. لقد تصور العلايلي النظام السوري نظاماً فاضلاً منزهاً عن المصالح النفعية، حتى أنه انتقد تخلي سورية عن لبنان وقبولها انفصاله عنها. وفي حين أن القيادات الاسلامية واليسارية وقفت ضد هذا الدخول السوري إلى لبنان بتحريض من المقاومة الفلسطينية، اعتبر العلايلي أن حافظ الأسد انقذ لبنان، فكتب قصيدة اعتبر فيها أن ”سورية هي الأمل الكبير الذي أنقذ لبنان من المحنة. ورحب أيضاً بمبادرة الملك خالد لعقد قمة الرياض في تشرين الثاني 1976.
ومن مقترحاته لإنهاء حرب لبنان، أن يُضم لبنان إلى المنظومة السورية، مع احتفاظه بوضع خاص، وإصلاح القوانين. وبغرابة لافتة بهدف إنهاء الحرب، طالب بدمج حزبي الكتائب والتقدمي الاشتراكي، وقد سبق له أن طالب عشية الاستقلال بدمج حزبي الكتائب والنجادة. حتى أن رحب بالزواج المختلط كونه يعمق الانصهار الوطني وأداة توحيد.
في الختام، لقد تعالى الشيخ عبد الله العلايلي على الطائفية والمذهبية، أراد السياسة والدين في خدمة الإنسانية والمجتمع ومسيرته نحو الأفضل.
10 تموز/ يوليو 2019
________
*بروفسور في فلسفة التاريخ ورئيس جامعة المقاصد في بيروت. صديق جمعية تراث بيروت.