تراثنا أمانة لأجيال الغد في عهدة وزارة التربية اليوم

السيدة إنعام خالد من جمعية «تراثنا بيروت» تعرّف طلاب المدارس على أنماط عمارة بيوت بيروت التراثية
سهيل منيمنة*

في عدد يوم الخميس التاسع من شهر حزيران/ يونيو الفائت، أشرتُ عبر الصفحة الثقافية لجريدة اللواء البيروتية تحت عنوان “لماذا نحافظ على التراث وكيف نفهمه” إلى أهمية  أن يكون التراث مادة تستحق أن تُدرج في مناهج المواد التعليمية التي تدرّس في مدارس الناشئة في لبنان، وذلك لترسيخ جذور المواطنة الحقّة في نفوسهم، وليكون لديهم عِتاد يواجهون به من يتآمر على هويتهم وانتماءهم وتاريخهم!

ومع مطلع الموسم الدراسي لهذ السنة، وَجدتُ أنه من المفيد، وأكاد أقول من الضروري، التطرق مجدداً لهذا الموضوع وشرح أهميته من خلال خمسة أسباب أساسية، لعلها تلقى آذاناً صاغية. وأنا على يقين أنه لا يزال في الجسم التربوي الإداري للدولة مخلصين يؤثرون المصلحة العامة، خاصة تلك التي لها علاقة مباشرة بمستقبل التلامذة على مقاعد الدراسة اليوم.

تعريف طلاب المدارس ميدانياً على المعالم التاريخية والتراثية من الأنشطة التي تقوم بها جمعية تراثنا بيروت

وقبل البدء بالأسباب المشار إليها، لا بد من تعريف أهمية الموروث اللبناني الغني والضارب في عمق التاريخ منذ أقدم العصور. فالتراث الثقافي شيء يَشترك فيه جميع البشر وأينما حللنا هناك دائماً ثقافة تطبعنا وتتبعنا، ولكن يبقى مصدرها منشأنا. وبغض النظر عن المكان الذي نشأ فيه الشخص وإلى أين يذهب، ستكون ثقافته دائماً إرثًا يأخذه معه أينما حلّ. والتراث الثقافي له ثلاثة أوجه: ملموس وغير ملموس وطبيعي. يتكون التراث الملموس (المادي) من القطع الأثرية مثل المنحوتات واللوحات والمخطوطات وما إلى ذلك، ويتكون التراث غير الملموس (المعنوي) من العادات الإجتماعية والتقاليد والطقوس وفنون الأداء ووقائع الأيام والأمثال والأدب الشعبي وغيرها. أما التراث الطبيعي فيتألف من مناظر طبيعية ثقافية ومناظر جيولوجية وأي نوع من مشاهد الطبيعية.

من المهم جداً أن نحمي تراثنا الثقافي حتى تتمكن أجيالنا القادمة من الاستمرار في النظر إلى ماضيها، وهو ما نقوم به نحن في جمعية تراثنا بيروت منذ تأسيسها. ونرى أنه من الواجب العمل على تعزيز مفهوم التربية على المواطنة والعيش المشترك وتعريف طلاب المدارس الثانوية في الوطن على هذه القيم حمايةً لتراثهم الثقافي. ويجب أن تكون الأهمية الكامنة وراء تنوع التراث الثقافي في حياة الطالب وثيقة الصلة بتنوع المناهج التربوية. ولكي يتم ذلك بطريقة علمية وصحيحة لا بد من توافر خمسة شروط أو أسباب أراها ضرورية لتحقيق هذا الهدف، وهي:

1.العمل معاً لحماية التراث الثقافي: لسوء الحظ، من الشائع تدمير التراث الثقافي، خاصة  عند وجود سلطة فاشلة وفاسدة سيما خلال فترات الحروب أو اضطراب الأوضاع الأمنية أو الكيدية السياسية في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب. وعلى الرغم من وجود قوانين محلّية لحماية التراث الثقافي في لبنان، إلا أنها تبقى منقوصة أو غير واضحة، وفي أغلب الأحيان  تفصّل على قياس بعض السياسيين والمقاولين، أي لمصلحة رأس المال المتسلط ولو بطريقة مبطنة وخادعة. من هذا المنطلق تبرز أهمية تعليم الطلاب أن تراثهم في خطر باعتبار أنهم المستقبل الواعد للوطن، وحينئذٍ سيشعرون أنهم يريدون المساعدة في الحفاظ على هذا الإرث. لا شك أنه عمل مهم عندما تكون قادراً على الدفاع عما تعتقد أنه صحيح، وهذا ما سيمكّن الطلاب من الشعور بالعاطفة تجاه ثقافتهم مما يعني تواجد المزيد من الأشخاص للمساعدة في ضمان حماية الآثار والتراث الثقافي الطبيعي لنقله ناصعاً وصادقاً وخالصاً للأجيال القادمة. إن فكرة وجود شيء مهم بالنسبة لك يتم تدميره من قبل جهة تريد ببساطة أن تجردك من كل ما تحبه بما فيه هويتك، هي فكرة مرعبة للغاية يعاني من تبعاتها أكثر المواطنين خاصة في العاصمة بيروت والفيحاء طرابلس وغيرها من مدن لبنان الأقطاب. ولا شك أن وجود التراث كمادة تعليمية في المناهج الدراسية سيُشعر الطلاب الذين يفهمون أهمية تراثهم الثقافي  بالحاجة إلى حمايته والتأكد من استمراره من أجل هوية من يلينا من أجيال.

2. تحفيز الطلاب للتواصل مع ثقافتهم: عندما يشعر الطلاب بارتباط عاطفي بدوراتهم الدراسية، فإنهم غالباً ما يشعرون بمزيد من الإلهام ليكونوا مبدعين فيقومون ببذل قدر كبير من الجهد في عملهم. عند دراسة أهمية التراث الثقافي، يمكن بسهولة أن يستلهم الطلاب أفكار ثقافتهم الخاصة ومعرفة المزيد عن ثقافتهم وماضيهم للربط بين الماضي والحاضر في عملية البحث. ولا يخفى أن التراث الثقافي شخصي للغاية، لكنه أيضاً صلة نتشاركها جميعاً، فمن خلال التواصل مع ثقافتك، فإنك تتواصل أكثر مع من حولك. قد يجد العديد من الطلاب أنهم يشاركون ثقافات مماثلة مع أقرانهم، أو يجدوا فرصة التعرف على مكان يرغبون بمعرفة المزيد عنه، حينئذٍ يفتح هذا التعلم التواصلي الأبواب للمشاركة واستكشاف العالم حتى مع عدم مغادرة الفصل الدراسي. من هنا يبرز دور المعلم في عملية توجيه المسار الصحيح للطلاب من خلال  المتابعة والبحث، فقد لا تتوفر لديهم الظروف المناسبة في منازلهم حول هذا الموضوع. إن تقديم المعلومات وقواعد البيانات البحثية للطلاب للتنقيب في الثقافة أمر مهم لأنه يسمح للطالب باكتساب المعرفة والبناء على ما اكتسبه من خلال تعلمه شيئاً متحمساً له.

فرحة الجيل الشاب عند المشاركة بحفظ تراثهم

3. الفهم يعني التقدير: إننا كبشر أكرمنا الله بنعمة عظيمة هي الإدراك. عندما نفهم شيئًا ما، فإننا نقدّر ذلك الشيء؛ وعندما نقدر شيئاً ما، فسوف نحمي هذا الشيء ونسعى جاهدين لتعلم المزيد عنه. من المهم أن يتعلم الطلاب عن التراث الثقافي لأنه من خلال الفهم الصحيح سيكون الطالب قادراً على ربطه وتقديره، وبالتالي سيكون قادراً على تطبيقه في حياته الخاصة وتداركه في تربيته المدنية. إذا تم تعريف الطلاب على تراثهم الثقافي، فقد لا يدركون المفهوم في المراحل الأولى، ولكن من خلال الربط بين تراثهم وعملية البحث وفهمهم لهذا التراث، يمكنهم أن ينظروا إلى مكانته وأهميته في هذا العالم. التقدير جزء مهم من تدريس التراث الثقافي، وعندما يحقق الطلاب توقعات التعلم التي من المفترض أن تجعلهم يختبرون هذا الأمر، ستكون النتيجة أعمق من مجرد فهمهم لأي مصطلح يُطرح عليهم.

4. أهمية التواصل والمشاركة: عندما يتعلم الطلاب أنهم يشاركون بفعالية، فإنهم غالباً ما يشعرون بوحدة أقل. قد يكون من الصعب على بعض الطلاب إيجاد أرضية مشتركة مع من حولهم، وهذا بالطبع يؤدي إلى التنمر وغيرها من المشكلات خاصة بين مجموعات المراهقين، ولكن من خلال التعليم يمكن أن يكون هناك رابط يجمع الطلاب معاً. إن فكرة التعرف على العالم وفهم تراثنا وماضينا تجعلنا نشعر بالحنين، وتجعلنا نريد التواصل مع من حولنا. عندما تدرك مقدار ما يمكنك أن تتعلمه من إنسان آخر ومقدار ما لديك لتقدمه، تشعر أن لديك هدفاً، وهذا شيء لا يرحّب به أكثر المراهقين ويمكن أن يؤدي إلى عوارض نفسية وصعوبات تعلمية، ولكن من خلال التواصل مع الثقافة يمكن للطلاب المشاركة والشعور بأن من حولهم يفهمونهم، حتى لو قرروا عدم المشاركة، ولكنهم حاضرون للمناقشة. على سبيل المثال، إذا كان الطالب جديداً في مدينة ما، فقد لا يفهم الثقافة العامة للمدينة أو المدينة الجديدة التي انتقل إليها. في هذه الحالة قد يكون من المفيد تقديم درس عن التراث الثقافي في بلدة المدرسة أو البلدات المحيطة، وقد يؤدي ذلك بعد فترة وجيزة في الغالب إلى اتصال الطلاب بمحيطهم  الجديد بطريقة أكثر أماناً. من خلال تدريس الثقافة والعادات والأنماط المعيشية والمفاهيم والتقاليد، سنجد حتماً أننا نتشارك في أرضية مشتركة؛ وغالباً ما نجد أن هناك الكثير لمشاركته مع بعضنا البعض أكثر مما كنا نتخيله في الأصل.

جمعية تراثنا بيروت تقدم شهادات تقدير للطلاب المتطوعين في أنشطتها الميدانية

5. تدريس التراث الثقافي ضمانة لمستقبل أفضل: إذا قمنا بتدريس التراث الثقافي لطلاب المدارس الثانوية، فسيبدأون على الفور في اكتساب التقدير الاحترام لثقافتهم وثقافة العالم من حولهم. ربما يجد الطلاب أنفسهم يفكرون في الماضي: من أين أتينا جميعاً، وكيف كانت حياة هؤلاء الأشخاص الذين سبقونا؟ ماذا أكلوا، وماذا فعلوا من أجل التكيف مع حياتهم؟ توجه هذه الأنواع من الأسئلة الطلاب للنظر إلى الداخل والتطلع أيضاً إلى الأمام. نحن لا نريد أن نُنسى بمجرد رحيلنا، ومن الضروري إلهام الطلاب للإبداع والتعلم كما فعل الذين من قبلنا. ستستفيد أجيالنا المستقبلية من تعلم هذه المعلومات لأنها ستكون قادرة على المضي قدماً في فهم التراث الثقافي الذي يحبونه ويقدرونه، ويمكنهم متابعة ودراسة المفاهيم والأفكار والأداب والمعتقدات التي تعلموها. ويمكن أن تستمر هذه التقاليد طالما أننا نتذكر تعليمها والتعلم والاستفادة منها وإنشاء شيء خاص بنا للتواصل معها. وكل ما يتعلق في موضوع فهم التراث شرحته سابقاً في المقالة التي أشرتُ إليها في مطلع هذه الدراسة، فلتراجع.

التاريخ عند كل الأمم مرّ ويمرّ بأوقات حزينة، وهناك بالطبع أشياء نشعر بالانزعاج أو الخجل حيالها، ولكن من خلال تعلم الماضي وفهمه، يمكننا تأكيد حماية المستقبل من ارتكاب نفس الأخطاء مرة أخرى، ومن خلال القيام بذلك يمكننا إعادة التفكير في قراراتنا السابقة، ومحاولة فهم الخطأ الذي حدث، ثم المضي قدماً في تصحيحه والاستفادة منه والتحضير لمستقبل مشرق من خلال الإعداد لما يجب القيام به بطريقة جديدة وصحيحة. فالتاريخ برأيي لا يكرر نفسه كما يحلو للبعض تداوله، ولكن البشر يكررون نفس الأخطاء!

وفي الختام لا بد للقارىء أن يتساءل: “هل هذا تمنّي فقط، أم هو مشروع عمل يُبنى عليه؟”. والجواب أن الإضاءة على أهميته بدأت فعلاً من خلال تفاني فريق جمعية تراثنا بيروت وبعض الجمعيات والمؤسسات الغير حكومية في تدقيقه وتوثيقه وحفظه، وبدأت فعلاً من خلال الندوات التراثية الجوّالة الثلاثية الأصوات المعنونة “كيف ننقل تراثنا إلى الجيل الجديد” والتي أبصرت النور بهمّة الأستاذ الشاعر هنري زغيب مدير مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأمريكية، والتي حظيتُ بشرف تمثيل جمعية تراثنا بيروت فيها، وأن أكون أحد الأصوات الثلاثة مع الأستاذ زغيب والبروفسور أنطوان مسرّة رئيس كرسي الأونيسكو في جامعة القديس يوسف في بيروت. صحيحُ أن نقل التراث إلى أجيال الغد هو اليوم من صلب اهتمام المخلصين المتمسكين بتاريخهم وثقافتهم وهويتهم، لكنه لا يكتمل إلّا إذا عُلّق أمانةً في عنق وعهدة وزارتي الثقافة والتربية في سلطة نزيهة منفتحة العقل والإدراك والمصلحة الوطنية العامة المشتركة. ولعلّ ما نرجو قريب المنال.. وإلّا فلن نكون!

________

*مؤسس ورئيس جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website