السوق العمومي في شارع المتنبي: كان “فسحة الهوى” بحماية نافذين

زياد سامي عيتاني*

شارع “المتنبي”.. صفحات طواها النسيان في تاريخنا الحديث، ومن يرغب في البحث والتفتيش للإستعلام والاستزادة ثقافياً، كما يوحي اسم هذا الشارع البيروتي الشهير، والمثير للجدل، سوف يُذهل ويندهش، عندما يدرك أنّ الشارع رغم أنّه يحمل اسم واحد من أشهر الشعراء العرب، فإنّه لا يمتّ للأدب والشعر والثقافة بأيّ صلة!

فبكلّ بساطة، شارع “المتنبي” هو saint denis لبنان، أيّ أنّه المكان المخصص لتقديم الخدمات الجنسية، أي الدعارة(!)، التي عرفها القانون بمهنة البغاء، حيث أنّه من المؤكّد أنّ التاريخ لن ينسى فترة الأربعينيات حتى آواخر الستينيات من القرن الماضي، عندما برزت أهم الشبكات التي كانت تديرها أسماء كبيرة، مدعومة ومحمية من شخصيات سياسية وأمنية وقضائية من الصف الأول، لم يخلو بعضها من الفضائح المشينة التي لطخت سمعتهم!

ولولا إندلاع الحرب اللبنانية في أواسط السبعينيات وتدمير شارع “المتنبي”، لبقي حتى يومنا هذا “دويلة اللذة والشهوات”، المدارة والمحكومة من قبل أهم “القوادات” اللواتي كنّ يتمتعن بنفوذ وسطوة واسعة في هذا المضمار، لتشغيل طواقمهن الأنثويّة السياحية الناشطة في فن إشباع الرغابات الذكورية!!!

نشأة السوق العمومي

خلافاً للإعتقاد السائد والغالب بأنّ “السوق العمومي” قد أنشئ عام 1931، مع صدور القرار الحكومي بتنظيم مهنة “الدعارة”، تجاوباً مع رغبة سلطات الإنتداب الفرنسي، فإنّ الحقيقة التاريخية تؤكّد أنّ تاريخ إنشاء السوق المذكور يعود إلى سنة 1913، عندما قرّر والي بيروت حصر عمل “المومسات” في المحلة الكائنة خلف دائرة “البوليس”، ذلك المبنى الجميل في ساحة “البرج”،الذي كان قبلاً مقراً لفرع البنك العثماني في بيروت، ثمّ شرّعه بشكل رسمي “فرمان عثماني” في العام1880.

إلا أن هذه البقعة الجغرافية التي صارت مع الوقت تجمّعاً مركزياً لمهنة الدعارة (أقدم مهنة في التاريخ)، تحوّلت إلى سوق مشرعن مخصّصاً لهذه المهنة بشكل رسمي ومنظم مع دخول الفرنسيين إلى بلادنا، ليسمى ذلك الشارع بإسم واحد من أكبر الشعراء العرب (أبو الطيب المتنبي)، لأسباب بقيت مجهولة، دون أن تخلو من التهكّم والإساءة!

إذاً، بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، انصاعت دوائر القرار في  الإدارات اللبنانية للضغوط، ورضخت لمطلب تشريع البغاء. وكان تبرير التشريع، مرده إلى إشباع رغبات جنود الإنتداب الفرنسي، تفادياً لقيامهم بالتحرّش بالفتيات اللبنانيات، أو تعريضيهن للإغتصاب عنوة وبالقوة.

فأصدرت الحكومة اللبنانية في عام 1931 قرارا بتنظيم مهنة البغاء، وإعطاء تراخيص لفتح بيوت الدعارة.

ولما لاقى هذا الأمر الذي يخالف القيم الإجتماعية والأخلاقية والدينية عند البيروتيين، بثت الدوائر الحكومية شائعة مفادها أنّ حصر الدعارة والسماح بها في شارع واحد من شأنه حماية الفتيات اللبنانيات “بنات البيوت” من شرّ نظرات ونزوات العسكر الفرنسي والسنغالي.

وبالرغم أنّ هذا التبرير لا يمتّ للصدق والحقيقة بأيّ صلة، وجدت مكاناً في عقل المواطن البيروتي، فإنَّه وجد قبولاً على مضض، تحت شعار صون شرف العوائل وفضائل التربية والأصول.

التسمية الملتبسة

رغم التسمية الملتبسة التي أطلقت على السوق المخصّص لمهنة الدعارة، فإنّه إضافة إلى شارع “المتنبي”، أطلقت عليه تسميات عديدة، فإذا ما إستثنينا تسمية “سوق الش…”، فإنّ باقي التسميات كانت تخفيفية إذا جاز التعبير، منها: “السوق العمومي”، “سوق الأوادم”، “خلف المخفر”، (حيث أن موقعه كان يمتد من جوار المرفأ وصولاً إلى خلف مبنى الشرطة في ساحة الشهداء).

وموقع “السوق العمومي” أثار جدلاً وتساؤولات بما إذا كان محض صدفة، أو أنّه عن قصد متعمّد، إذ يرى البعض أن قربه من المرفأ، كان هدفه سهولة وصول السيّاح الباحثين عن اللذة والمتعة إليه، في المقابل ثمة من إعتبر أن وجود السوق خلف دائرة الشرطة، كان المراد منه توفير الحماية الأمنية لمشغليه من “القوادين” و”الباترونات”!

التسمية الغامضة للشارع

منذ أن أطلقت البلدية على “السوق العمومي” إسم شارع “المتنبي”، دون أيّ مسوغ مقنع، لم يتمكّن أحد من إيجاد تفسير لهذه التسمية، التي لا ربط بينها وبين وظيفة ذلك الشارع!

فإطلاق اسم واحد من أعظم شعراء العرب، كان حريٌّ أن يكون عنواناً لحيّز جغرافي ومكاني يحتضن مراكز مخصّصة للأنشطة الثقافية، التي تليق بصاحب الإسم، على غرار شارع “المتنبي” في بغداد، بإعتباره أحد فروع الثقافة في العراق، يوصَف بأنّه يوجد على رصيفه كتب قيمة، وفي تفرعاتُه الضيّقة مطابع ومكتبات كبيرة لها تاريخ طويل.

أثار الأديب اللبناني فؤاد سليمان هذا الواقع متسائلاً: “من وضع المتنبي الكبير في مثل هذا المكان الصغير الموبوء؟ وماذا يفعل هذا الشاعر العربي النبيل في هذا الشارع -القاذورة؟ انقلوا هذا المسكين من هناك…

بدوره لم يغفل الأديب إلياس خوري تعجّبه من تسمية هذا الشارع باسم المتنبي. فقد ذكر خوري في مداخلة ألقاها في الاحتفال الذي أُقيم في الجامعة الأميركية في بيروت الأربعاء 28 أيار 2014، تكريماً للأكاديمي اللبناني سمير خلف، ومنوهاً بأهمية مؤلفاته ومنها “البغاء في مجتمع متغير” والذي أثار خلف فيه واقعة ماريكا، قال:”لكنّ السؤال الذي حيّرني: ليس لماذا لم يشر خَلف الى اسم الشارع الذي جعل من شاعر العرب الأكبر غطاء لأقدم مهنة في التاريخ، وإنما هو عدم قدرتي على الوصول إلى سرّ اختيار هذا الاسم الكبير، الذي كان عنواناً للفروسية وإعجاز البيان، كي يكون اسماً لشارع تقيم فيه بنات الخطأ، بحسب التسمية العثمانية للمومسات”؟

لكن الإجابة على هذا التساؤل بقيت بلا جواب، إلى أن دُمّر الشارع خلال الحرب، لتدفن تحت ركامه حقيقة التسمية الملتبسة والمسيئة!

تنظيم مهنة الدعارة

صنف القانون الصادر بتاريخ 6/12/1931 البغاء بأنّه مهنة المرأة التي تشتهر بالاستسلام عادة إلى الرجال لارتكاب الفحشاء مقابل أجر من المال، وهي تسمى مومساً.

ولم يخلُ ذاك القانون من الغرائب المثيرة للجدل.  

وأغرب ما نصّ عليه قانون تنظيم مهنة البغاء، منع الرجال من إمتلاك رخص البيوت العمومية، وحصرها بمشغلات بيوت الدعارة من النساء، اللواتي أطلق عليهن “الباترونات”، لكنّه اشترط لحصول “الباترونة” على الرخصة إصطحابها موظفين عموميين اثنين يشهدان لها بحسن التدبير!!!

فلا يُرخّص بفتح بيت الدعارة إلا للمومسات (الإناث فقط)، اللواتي تجاوزن 25 سنة، على أن لا يكون للواحدة منهنّ أكثر من بيت واحد للدعارة.

وحدّد القانون للمومس شروطاً للخروج والتنقل. فلا يجوز للمومس الخروج من بيتها إلا من الساعة التاسعة صباحاً حتى الرابعة من بعد الظهر، ولا يجوز البتّة خروجها أيام الآحاد والأعياد الرسمية أو ارتياد الأماكن العامة، كالمقاهي والحدائق، أو أن تستر وجهها بالحجاب. ويجب على المومس أن تبلغ الشرطة عن انتقالها من بيت إلى آخر.

وقسّم قانون البغاء اللبناني بيوت الدعارة نوعين: بيوت الدعارة العمومية، وبيوت التلاقي، مشترطاً إبتعادها عن الأبنية المجاورة المأهولة بالسّكان، لذلك جرى حصرها في الشارع الذي خُصّص لها.

وقد إشترط القانون أن يكون لبيوت الدعارة مدخل واحد فقط للدخول والخروج، ويحظر دخوله على من هم دون الثامنة عشرة.

وبموجب القانون تبقى أبواب بيوت الدعارة وكذلك بيوت التلاقي، الخارجية مقفلة. ويطلى زجاج نوافذ الطوابق السفلى بالدهان الكثيف بما يحجب أنظار الناظرين من الخارج، وتبقى هذه النوافذ مقفلة أو تحجب بالستائر الثابتة، كما تُحجب نوافذ الطوابق العليا بالطريقة نفسها.

الشروط الصحية:

وحدّد القانون شروطاً لمنح التراخيص للمومسات، وهي الحالة الصحية الجيّدة للفتيات، والفحوص الدورية بحسب نوعية الرخصة، للتأكد من خلوهنّ من الأمراض التناسلية، كالسفلس والزهري. ولذلك، كنّ الفتيات كلّ يوم إثنين (يوم عطلتهن) يخضعن لفحص طبي من أطباء متخصّصين، وتقديم تقارير بوضعهم الصحي لجهاز الرقابة في البلدية.

كما اشترط أن تتجاوز أعمارهنّ الخامسة والعشرين للحصول على الرخصة الشاملة، أو واحداً وعشرين للحصول على رخصة درجة ثانية، وبالمقابل منع تماماً دخول البنات الأبكار إلى تلك البيوت…

“الكارخانات” و”الباترونات”

اعتادت عامّة النّاس على إطلاق تسمية “الكراخانة” على الأماكن التي تمارس فيها الدعارة، علماً أن المعنى الحقيقي لل “كراخانة” لا يمتّ لذلك بأيّ صِلة على الإطلاق، لأنّ كلمة “كرخانة”، وهي حسب “محيط المحيط” للمعلّم بطرس البستاني، تعبير فارسي مؤلّف من كلمتين: “كَر” أيّ عمل أو صناعة و”خانة” (أي موضع).

فهذه الكلمة التي جاءت من الفارسية إلى اللغة العثمانية- التركية، تسلّلت إلى العربيّة المحكيّة في لبنان، لتدلَّ على ظاهرة تحديثية دخلها جبل لبنان في القرن التاسع عشر عبر انتشار إنتاج الحرير الطبيعي الذي كان يُصدّر إلى مدينة ليون في فرنسا.

وهكذا تحوّل جبل لبنان الى الزراعة الأحادية عبر انتشار زراعة التوت الذي تأكل دودة القزّ من أوراقه…

لكنّ الحرب العالميّة الأولى شكّلت أحد أسباب المَجاعة الكبرى التي ضربت لبنان وأدّت الى وفاة ثُلث اللبنانيين جوعا، خاصّة وأنّ صناعة الحرير الطبيعي راحت تنمو في ليون الفرنسيّة، فما كان من الفرنسيين إلّا أن يتوقّفوا عن استيراد الحرير اللبناني، مما أدّى الى انهيار صناعته هناك.

ولأنّه عملت في معامل الحرير “الكارخانات” مجموعة من النّساء، انتشرت بشكل واسع التحرّشات الجنسيّة ومعها جرائم الاغتصاب التي عُرفت بها طبقة الاقطاعيين بحق النسوة اللواتي كنّ يعملن هناك، عندها نسي الناس المعنى الأصلي لكلمة “كرخانة” وأصبحت تُطلق على “بيت الدعارة!

“القوادون” و”الباترونات”

بكلّ الأحوال فإنّ شارع “المتنبي” أو “السوق العمومي”، كان مقصداً لكلّ من يبحث عن السعادة، رغم ما هو مدفون في أعماق السوق من حكايايات تُدمي القلوب عن الأوضاع التي أرغمت بائعات الهوى لبيع أجسادهنّ وشرفهن، بسبب ظروف مأساوية!

فبيوت الدعارة المنتشرة في السوق، والتي كان يطلق عليها “كارخانات”، كان يحميها ثلة من القوادين نساءاً ورجالاً، إضافة إلى فض أيّ نزاع قد ينشأ بين زبون وآخر على فتاة، أو دور في لائحة الانتظار، في حين كانت تدير “الباترونة” الأعمال وتحافظ على البنات، وتدربهنّ على كلّ فنون المهنة، وتهتمّ بمظهرهن، وتوزّع عليهنّ المهمات المنزلية خلال النهار، والزبائن خلال الليل.

وفي هذا السياق، كتب الباحث الاجتماعي سمير خلف تحقيقاً عن بائعات الهوى في بيروت، في عدد قديم من مجلة “حوار” يعود إلى العام 1964، قال فيه: إن عزل المومسات في مبانيّ خاصة يدلّ على عقلية تشبه عقلية القرون الوسطى. فبالإضافة إلى الجو المزعج الذي يسود مثل هذه البيوت العمومية، وبشكل خاص الإحساس بالعبودية، والوسائل المتّبعة في اصطياد الضحايا، فإنّ هذا العزل ولّد عند الناس عداء أصيلاً تجاه المومس العمومية ومهنتها، فالموقف السائد بين الناس تجاه المومس يتصف بالنفور والاشمئزاز الراسخ”…

شارع “المتنبي” أو “السوق العمومي” الذي ذاع صيته كمكان للذّة والمتعة، تاريخ لا يحكي فقط عن قصص الدعارة والبغاء، بل كان شاهداً على معاناة الفتيات اللواتي اخترن مهنة الدعارة مجبرات عليها قسراً، ومنهن وقعت في شَرَك “الباترونات”، اللواتي كنّ محميات من نافذين كبار، لطخوا سمعتهم ومراكزهم الرسمية، ولاحقتهم الفضائح، ليُفصلوا من مناصبهم، مما كان يؤدي إلى رفع الغطاء عن “الباترونات” اللواتي كنّ يتمتعن بنفوذ واسع، إلى أن كانت نهاية كلّ واحدة منهنّ أسوأ من الأخرى…

هذه حكاية شارع “المتنبي” أو “فسحة الهوى” المرخّصة الذي دمّرته وأزالته الحرب، ليتفشى بعدها البغاء، ويتحوّل الوطن بأسره إلى “سوق عمومي”، وعلى كلّ الصعد والمستويات!

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website