كرّمت جمعيّة “تراث بيروت” علماً من أعلام الفن والإعلام والأدب من أبناء بيروت، هو المخرج الإذاعي والمسرحي محمّد كريّم الذي عاصر الكبار وأخرج أعمالهم عبر أثير إذاعة الشرق الأدني في أواخر أربعينيات القرن الماضي، وفي إذاعة لبنان ومن بعدها في إذاعة صوت الوطن، وبموازاة ذلك، كان اتجه للإخراج المسرحي ورافق رائد المسرح اللبناني نزار ميقاتي وأخرج مسرحيات شامل ومرعي وحسن علاء الدين “شوشو”.
جاء تكريم محمّد كريّم من قبل جمعيّة تراث بيروت في دار الندوة بالحمرا مساء الخميس، ليعرّف جمهور الحاضرين على مسيرة هذا الفنان المعطاء، حيث استعرض الإعلاميان سوسن عسيران وزياد دندن سيرة ومسيرة محمّد كريّم، بمشهدية أقرب ما تكون لاستديو إذاعة، فتبادلا المعلومات والسرد، ومن ثمّ كانت وقفة مع فيلم تسجيلي قصير عن كتاب كريّم “في البال يا بيروت” الذي صدر عام ٢٠٠٥ عن الدار العربية للعلوم، الفيلم الذي أعدّه وقدّمه الباحث نبيل شحادة عضو جمعيّة تراث بيروت، تمحور حول ما في كتاب كريّم من مخزون ذاكرته عن بيروت وقصص أهلها الأصلاء وتفاصيل ايقاع حياتهم، أيام زمان وبمناسباتهم المختلفة.
وكانت كلمات كتبت خصيصاً للمناسبة من الشاعر هنري زغيب رئيس المركز اللبناني للتراث التابع للجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت LAU.قال فيها:
“محمد كريّم حارس الذاكرة
يُحتفى به محمد كريِّم.
يحتفى به كثيرًا ومديدًا.
ما أَعطاه للفن في لبنان، إِذاعةً ومسرحًا، بين أَصفى ما تختزنُه ذاكرة الفن العالي في لبنان.
مع ذلك، يُحجِم عن بَوَاح، تاركًا للسوى فضيلة التعداد، مدى استذكار واعتبار.
حين كتب بعضًا من مذكراته عن أَعلام عرفهم وعن بيروت كما عرفها، أَحجم، بنبل التواضع، عن ذكْر ما كان له معهم وفيها.
ويكون أَن تحتفي به اليوم “جمعية تُراثنا بيروت”، فكأَنها تُضمِر في اسمها – وكم أُحبُّ اسمَها – أَن تقول: “تراثُنا بيروت أَي أَنْ لا بيروت في ذاكرة الزمن إِلَّا بمن نسَجُوا تراثنا فيها”.
ومحمد كريِّم، هذا الكبير من لبنان، عنصر نابض في تراث بيروت، منذ هو ركن أَول في إذاعة بيروت، وركن ركين من مسرح بيروت، فهو إِذًا علامةُ ضوءٍ ساطعةٌ على جبين مدينتنا الأَغلى، عاصمتنا المرصودة من أَول الزمان على الزلازل والنكبات، إِنما المرصودة أَيضًا على النهوض من دمار الزلازل، والقيامة بعد جلجلة النكبات.
وكيف تنهض وتقوم؟
بمبدعيها الأَوفياء لها وللبنان.
من هؤُلاء الأَوفياء إِبداعًا: الحبيب محمد كريّم.
شكرًا له على كل فِلْذة من إِبداعه.
شكرًا للعزيزة “جمعية تراثُنا بيروت” على احتفائها اليوم بمحمد كريّم.
فما سوى هكذا يكون تأْريخُ المدينة، وخلودُ الوطن.”
وكذلك ارسل الأكاديمي المتخصص بالألسنية الدكتور نادر سراج من باريس كلمة تصلح أن تكون نواة بحث معمّق عن كيفية مقاربة محمّد كريّم للأدب الشعبي، بعيداً عن المبالغة والإسفاف، هذا نصها:
محمد كريّم، مَسْرَحَ كلامَ الناس ونقلَ مواجعَهم فأبدعَ وفازَ بإعجابِهم ورجعِ صَداهم
ضيفُكم، بل عزيزُ قومِه، هو نسيجُ وحده. شخصيتُه المتفردة التي تفيضُ أنسًا ورقةً وتواضعًا، وتبدعُ فنًّا راقيًا، لبنانيّ الهُويّةِ والهوى، ما أغفلتَ الحديثَ عن حقائق الكينونةِ والإنتماء والمصير، بكلامٍ من القلب للقلب. فمَسْرَحَت “كلامَ الناس” ورسمت مواجعَهم بلغة فنية سهلة التشفير، تدثّرت ببلاغةِ أهل البلد، فاستحقت تقديرَ الجمهور.
أتوقفُ في هذا المقام عند مشاركتِه المميّزة في فعالياتِ ندوة “بيروت في الحفظ والصون” عام 2009. فمداخلتُه الموسومة “الشخصية المدينية الشعبية في الإعلام والفنون”، كانت فرصة لاستذكار – وتذكير الجمهور- أفضال سابقيه ورفاق دربه. بأسلوبه الراقي وبتعابيره المنتقاة ثمّنَ ريادة رفيقِ مشوارِه الفني محمد شامل. اسمُ علمٍ لا يحتاج ألقابًا ولا كنًى.
بصراحته المعهودة وبكلماته الموزونة أسهب توصيفًا وتحليلًا ووضعًا للنقاط على الحروف حول طرائق التعاطي الإعلامي -الشفهي منه أو الكتابي- مع الشخصية الشعبية البيروتية. ومما قاله: إن “الموضوعية تحتم علينا ان نخص الراحل محمد شامل بحيز اوسع في هذه المداخلة لنتعرف على المواصفات والمؤهلات التي ينبغي على الاديب والفنان الشعبي ان يتحلى بها ليكون على قدر ومستوى ما يتعرض له . ففي مقاربة الآداب والفنون الشعبية ينبغي التعاطي بكثير من العناية والمسؤولية؛ فنحن هنا أمام تراث شعب، لا يجوز العبثُ فيه أو الهبوط به إلى حضيض الإسفاف بإقحام ما يكتبه أو يقدمه بعض المدعين من عديمي الموهبة وتصنيفه ضمن دائرة الفنون والآداب الشعبية”.
طوبى لبيروت بما تمثله من معاني الرحابة والتسامح والانفتاح والاعتراف بالآخر المختلف وتقبّله، أن تنجبَ فنانًا عبقريًا بهذه الهامة، والشكرُ موصولٌ للمكرِّمين والحاضرين والمنظّمين، وللمُكَرَّم على حدّ سواء.
ومن ثمّ كانت كلمة مرتجلة من معالي الوزير محمّد المشنوق الذي استرجع بعضا من ذكريات العمل مع كريّم، حين أطلق البثّ المباشر في إذاعة لبنان.
كلمة المحتفى به الأستاذ محمّد كريّم كانت جدّ مؤثّرة توجّه بجزء منها إلى جيل الإعلاميين الجدد، بالنصيحة الصادقة بعد خبرة خمسين عاماً من العمل بمجال الإعلام على اختلاف وسائله، بأن يلتزموا بأدبيات الإعلام، التي هي رسالة قبل أن تكون مهنة. وأن يتسلّحوا بالعلم والمهارات على تنوّعها، شاكراً جمعيّة تراث بيروت على مبادرة تكريمه والحضور على تلبية الدعوة.
وفي نهاية الحفل قدّم رئيس جمعيّة تراث بيروت د. سهيل منيمنة درعاً تكريمياً باسم الجمعية للمخرج القدير محمّد كريّم.