البيروتيون يعيشون هواجسها.. هل تتكرر أزمة بنك إنترا؟

زياد سامي عيتاني*

وسط المخاوف التي يعيشها اللبنانيون على مستقبل ودائعهم المصارفية، من جراء الحجز عليها، ومحدودية السحوبات المقننة المتاحة أمامهم، تستحضر ذاكرة البيروتيين الذين عاصروا أزمة بنك “إنترا” منتصف ستينات القرن الماضي، مقرونة بمخاوف جدية، ربما تكون في محلها، متسائلين: هل تنهار منظومة المصارف في لبنان، على غرار إنهيار “أمبراطورية إنترا”!؟ فتتبخر معها حقوقهم!؟

بعيداً عن تعقيدات الأوضاع المالية والإقتصادية بالغة الخطورة، فإنّنا سوف نعيد إستحضار أحداث وتطورات

أزمة بنك “إنترا”، ليتمكن من لم يعش تلك الكارثة في زمانها من معرفة كل ما يتعلقبها، على أمل عدم مشاهدة ومعايشة سيناريو مشابه يقضي على النظام المصرفي اللبناني، الذي لطالما كان ركيزة أساسية من ركائز الإقتصاد الوطني…

•كيف نشأ بنك “إنترا”؟:

في أعقاب النكبة عام 1948، لجأ الفلسطيني يوسف بيدس، إبن عالم أرثوذكسي يوناني، من بيته في القدس إلى لبنان، حيث سعى إلى إحياء مسيرته المصرفية.

إستهل طموحه بتأسيس مكتب صغير لتحويل الأموال، سماه “مكتب التجّار الدوليين”.

وبحلول عام 1951، بات يملك رأس مال كافٍ لإطلاق بنك Intra Bank S.A. Beidas، الذي اجتذب عملاء كثر من خلال تقديم أسعار فائدة مرتفعة وقروض منخفضة.

وقد نجح بيدس بالسيطرة على جزء كبير من السوق المالي في لبنان، وحاز على ثقة شرائح واسعة من المودعين والراغبين باستثمار أموالهم لا سيما من الفلسطينيين.

وفي أوائل الستينيات، بات “بنك إنترا” من أكبر المصارف في لبنان، ويتمتع بفروع في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك لندن وباريس ونيويورك، حيث بفضله تمّ رفع العلم اللبناني في ناطحة سحاب الجادة الخامسة…

في ذلك الوقت، أصبح “بنك إنترا” يملك بمفرده 40 ٪ من الودائع اللبنانية، فضلاً عن امتلاكه لعدد من كبرى الشركات الوطنية، التي كان من أبرزها “شركة طيران الشرق الأوسط”.

وقد قدرت ودائع “إنترا” في حينه بمبلغ 500 مليون دولار (4 مليارات دولار معدلة للتضخم). وهذا ما حدا في عام 1962 مجلة “تايم” بإعلان بيدس “رجل المال الجديد في الشرق الأوسط”.

كما تمكّن بيدس من تأسيس مصارف شقيقة لـ”إنترا” ضَمت 33 فرعا و4 مصارف في لبنان و48 شركة، إضافة إلى الشركات التابعة مثل “شركة مرفأ بيروت”، و”طيران الشرق الأوسط”، و”راديو أوريان”، و”فندق فينيسيا” و”شركة التلفزيون اللبنانية” و”إستديو بعلبك” و”حوض لاسيوتا” لبناء السفن في فرنسا وغيرها.

وتجاوزت موازنة مجموعة “إنترا” في تلك الفترة خمسة أضعاف موازنة الدولة اللبنانية، وكانت تشغل ثلاثين ألف عامل، أي أكثر من موظفي القطاع العام آنذاك.

•أزمة أم مؤامرة؟:

في أوائل عام 1966، دفعت أسعار الفائدة الأوروبية إلى هروب رؤوس الأموال من بنوك بيروت إلى خزائن ألمانيا الغربية، مما تسبّب بإنخفاض قاعدة السيولة لدى بنك “إنترا”، الأمر الذي دفع المودعين لسحب ودائعهم، حيث أنه في يوم 10/10/1966، بدأت الجموع تتهافت على فروع البنك لسحب ودائعها، مما أدى بعد أربعة أيام إلى نفاذ السيولة من الصناديق.

فزاد وضع البنك سوءاً، حتى أنه بات يحتاج إلى قرض حكومي، للتمكّن من تجاوز أزمته، والقدرة على البقاء.

لكن بيدس لم يتمكّن من الحصول على هذا القرض لأسباب مختلفة، منها العداء المستحكم الذي كان سائداً وقتذاك مع جمعية المصارف، والخلاف مع رئيسها بيار إده، فضلاً عن أنه غير لبناني، حيث نقل عن نائب حاكم مصرف لبنان قوله لبيدس: “أنت لست لبنانياً ولبنان لا يريدك أن تتحكم في إقتصاده”.

وعن هذه الأزمة كشف الباحث والأكاديمي كمال ديب في كتابه “يوسف بيدس-إمبراطورية إنترا وحيتان المال في لبنان” (دار النهار، 2014)، أسباب أزمة “إنترا”، قائلاً: “إنه إلى جانب “العنصرية اللبنانية ضدّ الرأسمال الفلسطيني، وضدّ الأدمغة الفلسطينية، وتكتّل الأعداء في لبنان من سياسيين ومصرفيين ورجال أعمال وعائلات، ضدّ بيدس وإمبراطوريّته”، فقد حَاربت الرأسمالية العالمية الإزدهار المالي والمصرفي في لبنان الستينيّات والذي قاده بيدس”.

وأضاف: “استعملت المصارف العالمية نفوذها لمحاربة “إنترا” بدعم من الحكومات الغربية، إلى جانب إرتفاع أسعار الفائدة في الأسواق العالمية الكبرى بشكل دراماتيكي أعجز “إنترا” عن مواكبته”.

كذلك إعتبر ديب في كتابه أيضاً سبباً آخر، وهو موقف بيدس من الصراعات السياسية العربية، وهو المؤيّد لنهج جمال عبد الناصر، فضلاً عن مساهمته في تمويل المنظمات الفلسطينية، التي بدأت تنتشر في لبنان، وتقديم الدعم المالي لها.

وتردّد وقتها أن رئيس الجمهورية شارل حلو طلب من بيدس تقديم دعم مماثل للجيش اللبناني من خلال الموافقة على إقراض الدولة مبلغاً كبيراً من أجل تزويد المؤسسة بالأسلحة، لكن بيدس رفض الطلب، إمّا بسبب معارضته للجيش، أو لنقص السيولة الكافية. وقد تمّ إستغلال رفضه في نشر شائعات حول تجميد السيولة لدى بنك “أنترا”، وبالتالي تعزيز إفلاسه.

من جهتها وفي أحد إصداراتها التي تمّ نشرها في تشرين الثاني 1966، ذكرت مجلة التايم: “أن ثلاث دول تآمرت لإسقاط البنك الدولي.

-بريطانيا التي استاءت من رفض بيدس شراء طائرات VS-10 البريطانية لشركة “طيران الشرق الأوسط”.

-الحكومة الفرنسية، التي كانت تمتلك 15٪ من أسهم شركة “طيران الشرق الأوسط”، التي تطمح إلى وضع يديها على بقية الأسهم في الشركة، وطلبت من Intra exigente بناء المقرّ الأوروبي في باريس.

-روسيا التي كانت مستاءة من علاقات بيدس بالإدارة الأميركية، فطلبت من “نارودنا بانكا” سحب 5 ملايين دولار من البنك “.

بدوره كتب إدوارد سعيد ، أحد أقارب بيداس ، أن هذه القضية “بدت لي رمزا للمسار المكسور الذي فرضه الكثير منا على أحداث عام 1948.”  

•تعمد الحكومة عدم إنقاذه:

وبهدف السعي لمعالجة أزمة تعثّر “أنترا”، تمّ تعيين صديق بيدس النائب نجيب صالحة رئيساً لمجلس إدارته، حيث حاول جاهداً مناشدة رئيس الحكومة ووزير المالية عبد الله اليافي بأن تقرض الحكومة البنك لمنع إنهياره، إلا أن الأخير رفض ذلك.

وهذا الرفض دفع بيدس للتوجّه إلى أوروبا للبحث عن مستثمرين مع تفاقم الوضع في داخل مصرفه، دون أن يتمكّن من ذلك، خصوصاً مع تناقل الصحف خبر بلوغ سحوبات المودعين، التي تجاوزت خلال شهر واحد 30 مليون دولار.

وبحلول منتصف شهر تشرين الأول، تفاقم إنتشار شائعات الإنهيار الوشيك لبنك “إنترا”، حيث اجتاحت بيروت كالنار في الهشيم.

في 14 الشهر نفسه، قام البنك بتسليم مودعيه 70 مليون دولار، مما تسبّب بتراجع موجودات البنك النقدية إلى 330 ألف دولار!!!

في تلك الليلة، دعا رئيس الجمهورية شارل حلو مجلس الوزراء إلى اجتماع طارئ، خصّص للبحث في أزمة “إنترا”، بحضور نجيب صالحة، الذي أكّد أمام المجلس بأن الحصول على قرض صغير، هو كلّ ما يلزم لضمان مستقبل البنك، بالنظر إلى أصوله العقارية الهامّة.

وفي ضوء ذلك، أعلن إفلاس “إنترا” بعد إنهياره الصاعق، مما تسبّب بأزمة إقتصادية ومالية عارمة هزت الإقتصاد اللبناني، وسمعة لبنان على صعيد التمويل الدولي. وهذا ما حدا بالحكومة اللبنانية حينها إلى إقراض كلّ مصرف محلي مبلغ 200 مليون دولار، بإستثناء “إنترا”، وذلك ثأراً شخصياً من بيدس، الذي وصفه اليافي بأنه “محتال”!

•نهاية الأسطورة يوسف بيدس:

*سمع بيداس عن إفلاس بنكه في نيويورك، ثمّ تتبّع القضية من سان باولو في البرازيل، دون أن تتراجع عزيمته، رغم إنهيار أمبراطوريّته، حيث أكّد “أنّ كثيرين سيعتقدون أنني سأطلق النار على نفسي، ولكن بحكمتي وخبرتي، يمكنني أن أبتكر شيئاً أكبر من “إنترا”…

بعدها أنتقل إلى سويسرا، التي توقيفه فيها، حيث كان يحمل 7000 دولاراً نقداً، و 30،000 دولار شيكات، ومفاتيح لصناديق الودائع الآمنة في جميع أنحاء أوروبا.

وقدّم لبنان في هذا الوقت طلباً للتسليمه، لكنّ النهاية كانت قريبة بالفعل، إذ أصيب بسرطان البنكرياس، وتوفي عن عمر يناهز 56 عاما في 1 كانون الأول 1968 ، بعد عامين من إنهيار مصرفه.

يوسف بيدس

الفارق الجوهري والكبير في المقاربة بين أزمة بنك “إنترا” منتصف ستينيّات القرن الماضي، وبين أزمة المصارف في هذه المرحلة، أنّ مؤامرة متعددة الأبعاد تسبّبت بإنهيار أمبراطورية يوسف بيدس، الذي حرص على تسديد حقوق كلّ المودعين، في حين أنّ المصارف اليوم تتحمّل جزءاً أسياسياً بالتواطؤ مع الطغمة الحاكمة على إنهيار المالية العامة والإقتصاد الوطني(!)، واستطراداً الإمتناع المقونن من تعاميم مصرف لبنان عن تسديد حقوق مودعيها، وسط تعاظم القلق من عجزها عن ذلك، في ظل الحديث عن إضمحلال مؤونتها النقدية!

________

*إعلامي وباحث في التراث الشعبي

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website