مجلس المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في الجامع العمري الكبير

وثيقة مجلس المفتي فاخوري
عبد اللطيف فاخوري*

من المتفق عليه من شروط تولية القضاء والإفتاء والتدريس أن يكون الطالب عالماً بلسان العرب لغة ونحواً كالأمر والنهي والخبر والاستخبار والوعد والوعيد والنداء وأقسام الأسماء والأفعال والحروف، وما لا بدّ منه في فهم معاني كلام الله تعالى من الكتاب العزيز وفهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بلغة العرب من ألفاظه، قادراً على استخراج المعاني المفهومة من الألفاظ المنقولة، عارفاً بطرق النظر وترجيح الأدلة بعضها على بعض، مع مراعاة الإيجار وتجنّب التكرار الى جانب البساطة في التعبير وقوةٍ في التدليل. وإن إتقان اللغة بابٌ لفهم النصوص الشرعية والأحكام الفقهية وحسن تطبيقها.

في عام 1879م اختير الشيخ عبد الباسط الفاخوري (1824-1905م) مفتياً لبيروت خلفاً للمفتي الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرافي الذي كان له دور مميّز في حماية بيروت من الحوادث الطائفية التي عصفت بالجبل عام 1860م وبعد وفاة الشيخ محمد الحوت تصدّى للتدريس والوعظ تلميذه المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري.

دوره في تسليم بعض الأوقاف إلى جمعية المقاصد

يذكر ان المفتي الفاخوري كان له دور فاعل في الانتخابات البلدية التي جرت في بيروت عام 1878م أثار جدلاً واسعاً. كما كان له دور مؤثر في إحصاء الأوقاف التي كانت مرصدة على القراءة والمواساة والتعليم والخربة منها أو التي ليس لها متولي وتسليم جردة بها موافق عليها من القاضي الشرعي الى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية التي كانت حديثة النشأة. وقد حملها عمر غزاوي الى دمشق واستحصل على توقيع مدحت باشا عليها وتسليمها الى الجمعية. وقد دفع المفتي ابنه الشيخ محمد الفاخوري للاشتراك بتأسيس الجمعية.

دروس المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري

يذكر ان المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري قام بالتدريس في الجامع العمري لأكثر من خمسين عاماً وذلك حسبة لوجه الله تعالى. وكان الشيخ محيي الدين اليافي، مفتي بيروت الأسبق، يقوم بوظيفة التدريس على مذهب الحنفية في الجامع بمعاش شهري قدره مائتي غرش بموجب براءة مؤرخة في 2 محرم الحرام سنة 1274هـ وبعد وفاته وجهت الوظيفة على المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري وكان وفيّا لشيخه محمد الحوت بما كتبه في مخطوطاته من رسائل للشيخ المذكور مما لم ينشر وقد ذكرنا بعضه في مقالنا السابق (بيروتيات 7).

المجالس السنّية في الجامع العمري

وصلتنا مجالس التفسير التي ألقاها المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في الجامع العمري الكبير خلال شهر رمضان سنة 1291 هجرية/ 1874 ميلادية وتدور حول تفسير بعض أحكام الصوم والصلاة وما جاء حول ليلة القدر والتنبيه عما كان يقع في المجتمع والمساجد من بدع يجب اجتنابها. ففي المجلس السابع قال المفتي «ومن البدع ما أحدثوه من التصفيق حال الخطبة أو قبلها، وما اعتادوه من تفرقة أجزاء الربعة حين اجتماع الناس لصلاة الجمعة، فإذا كان عند الآذان قام الذي يفرّقها ليجمع الأجزاء، فيتخطّى رقاب الناس بسبب أخذها. (الربعة من ربّع الشيء صيّره أربعة أجزاء. أطلقت أيام المماليك على أجزاء المصحف). وقد وجدت قديماً في المساجد وظيفة «حمّال الربعة» لمن كان يوزع الربعات أيام الجمع ثم يتولّى جمعها.

وفي المجلس الثامن من مجالس التفسير الذي عقدها المفتي الفاخوري في الجامع قال «الحذر ثم الحذر، مما اعتاده جهلة الناس في هذا الزمان، وهو أنهم يخرجون أولادهم من المكاتب التي يتعلمون فيها القرآن قبل إتقانهم تعلّمهم وتجويدهم للقرآن، وقبل تعليمهم عقائد الدين وأحكام العبادات، فيذهبون بهم إلى مكاتب الأجانب لتعليم الحساب والهندسة وبعض اللغات وخلافها من العلوم. وهذا رضاع ثالث بعد رضاع المؤدب، وقد قيل الرضاع يغيّر الطباع. وهذا أمر شنيع وفعل قبيح من أقبح الأفعال، لأن الولد لم تحصل له قوة الإيمان بعد، ولم يقرأ العلم الواجب عليه، ولا يعرف شيئاً مما يجب عليه معرفته»، وتابع قائلاً: والصبي في هذا السن قابل لكل ما يلقى إليه، مثله مثل الشمع، أي شيء عملت عليه طبع فيه، فيخاف على الولد وهو الغالب، أن يتغيّر حاله فيرجع مكان الصدق كذباً وبهتاناً، وموضع الإلفة انقطاعاً ووحشة، ومكان الإسلام والإنقياد خبثاً ومداهنة، إلى غير ذلك من المكر والخصال الرديئة… وأقبح من ذلك كله أنهم يضعون بناتهم الصغار في هذه المكاتب لأجل تعليمهن اللغات والهندسة وغيرهما…».

وفي المجلس الحادي عشر: ورد ذكر الإشارة الى قاتل الـ99 في المجلس المذكور. تقول مأثوراتنا الشعبية ان قاتلاً ارتكب 99 جريمة قدّر له أن يكملها للمائة. وهي حكاية معروفة في عدة بلدان عربية بصيغ مختلفة وتقول إحداها ان القاتل المذكور إستشار رجلاً صالحاً في طريقة للتكفير عن جرائمه فقال له الرجل: ازرع عموداً يابساً في المقبرة فإذا أخضرّ يكون قد غفر لك. فذهب القاتل الى المقبرة وشكّ عوداً ونام ثم انتبه من نومه على رجل نبش قبراً دفنت فيه إمرأة وقد أمسك بها قائلاً: «ما قدرت عليك حيّة سأقدر عليك ميتة» واتقته المرأة بيدها فقطعها ثم اتقته بالثانية فقطعها أيضاً عندها قال القاتل في نفسه «وصلت للتسعة وتسعين خليها تتدركب للمية»، فقتل الرجل ونام ونهض صباحاً ليجد العود قد أخضرّ فأيقن أنه قد غفر له.

وأما المفتي الفاخوري فقد ذكر ما روي في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم الناس فدلّوه على راهب فأتاه فقال له: انه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا. فقتله فكمّل به مئة نفس. ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على رجل عالم فقال انه قتل ماية نفس فهل له في توبة، فقال: نعم ومن يحول بينك وبين التوبة. إنطلق الى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله فأعبده معهم ولا ترجع الى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا انتصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقالت ملائكة الرحمة: جاءنا تائباً مقبلاً بقلبه. وقالت ملائكة العذاب انه لم يعمل خيراً قط. فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم حكماً فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتها كان أدنى فهو له. فأوحى الله تعالى الى هذه أن تباعدي والى هذه أن تقربي وقال قيسوا بينهما. فقاسوا فوجد الى هذه أقرب بشبر فقبضته ملائكة الرحمة».

وختم الشيخ المجلس المذكور بقوله: ذُكر ان صياداً كان يصيد السمك وكانت له ابنة كلما اصطاد سمكة تطرحها في الماء وتقول: إنما وقعت في الشبكة لغفلتها.

فتاوى للمفتي الشيح عبد الباسط الفاخوري

وكان المفتي الفاخوري عالماً بالفقه والحديث والفتوى وقد ذكرنا في رسالتنا «الفتاوى البيروتية» أن الرجوع الى المفتي في الأحكام الفقهية كان قد أصبح نادراً بعد صدور مجلة الأحكام العدلية عام 1876 ما جعل الفتوى بعد ذلك معدودة. وقد أرسل لنا الصديق الدكتور فؤاد فوزي الطرابلسي فتوى للمفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري عثر عليها في سجل طرابلس الشرعي بتاريخ 22 جمادى الآخرة سنة 1299هـ/ 23 تشرين الثاني 1881م بين آل مطعمة حول وقف الحد الأعلى نجم الدين آغا أورفلي، وقد أبرز المدعي فتوى من المفتي بمدينة بيروت الشيخ عبد الباسط فاخوري بخطه وختمه مصادق عليها من علماء بيروت وطرابلس الشام بخطوطهم وأختامهم (وأورد الحكم الفتوى وهي طويلة). كما عثرنا في أوراق الشيخ عبد القادر فاخوري فتاوى عديدة للمفتي الفاخوري بخطّه نعمل على تحقيقها.

مؤلفاته ورسائله

ترك الشيخ عبد الباسط الفاخوري عدة مؤلفات ورسائل أكثرها لا يزال مخطوطا كما سبق أن ذكرنا في مقدمتنا لمخطوط كتابه «الكفاية لذوي العناية». ونذكر فيما يلي بعض رسائله منها:

• رسالة مطوّلة بعنوان «نبذة مفيدة في مناقب الإمام الشافعي» كتبها عصر يوم الجمعة المبارك لعشر ليالٍ خلت من شهر جمادى الأولى سنة 1317هـ/1899م في مقام بركة بيروت الإمام أبي عمرو الأوزاعي.

• رسالة إبطال دعوى الاجماع على تحريم مطلق السماع.

• قواعد كلية يتخرج عليها ما لا ينحصر من الفروع الفقهية.

• جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن يقول فيها «منع ذلك الحنفية في التعليم لأنها عبادة والأجر فيها على الله تعالى والفتوى الآن في زماننا على وجوب الأجرة وجواز الإجارة لظهور التواني في الأمور الدينية وقلّة المروءة في الأغنياء».

• اختلاف الائمة في الفروع الفقهية رحمة بهذه الأمة المحمدية.

• القول الصحيح ان إسماعيل عليه السلام هو الذبيح.

• الحجة الواضحة المتبعة في حكم صلاة الظهر جماعة بعد صلاة الجمعة.

• رسائل في الطاعون والتصوير وإيمان فرعون والخضر وغيرها.

• تفسير للشيخ محمد الحوت لقوله عزّ وجلّ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ…} يليها تبيين للمفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري.

من واقعاته

اشتهر المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري بمحاربة البدع والعادات المخالفة للشرع وانتقاد التطرف والغلو الذي لاحظه لدى بعض الفرق المحلية، مما دفع بعضهم الى التسلل ليلاً الى داره وذبح فرسه (أي تفجير سيارته بلغة هذه الأيام) فتوترت الأحوال وهبّ كثيرون لمساندته. استغل بعض الطامعين في مركز الإفتاء هذه الحوادث (قيل كان منهم نقيب الأشراف في حينه) وأرسلوا الى الأستانة يتهمون الفاخوري بالتسبب بالفتنة. فأرسلت الأستانة الى الوالي في دمشق بطلبه المفتي والتحقيق معه في الأمر. أدرك المفتي الفاخوري سبب طلبه الى دمشق، فتوجه إليها وذهب مباشرة الى بيت صديقه محدّث الديار الشامية الشيخ محمد بدر الدين الحسني وأعلمه بالأمر فأوعز له الشيخ بدر الدين بأن يتوجه الى سراي الوالي على أن يلحقه هو بعد ذلك. وبالفعل توجه المفتي الفاخوري الى السراي فاستقبله الوالي وأجلسه الى جانبه. وما هي إلا لحظات حتى أعلن حاجب الوالي وصول الشيخ بدر الدين ونظراً لمكانة هذا الأخير، هرع الوالي واتجه صوب الباب للسلام على الشيخ بدر الدين، ولكن هذا الأخير تجاهله وأسرع يقبّل يد المفتي الفاخوري ويضمّه. بهت الوالي وأخذه العجب وقال في نفسه: إذا كان الشيخ بدر الدين صاحب القدر الكبير والعلم الغزير يكرم الشيخ الفاخوري، فكم يكون قدر هذا الأخير؟! واحتفى الوالي بالشيخين وكتب الى الأستانة بأن ما أشيع عن مفتي بيروت في غير محله.

________

*مؤرخ

ملف “بيروتيات” (8)

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website