الكوليرا تقتل أربعة والخوف يقتل ستة

من رسالة المفتي الفاخوري التي تحدث بها عن الطاعون
عبد اللطيف فاخوري*

من قدر البيارتة اضطرارهم لحمل أولادهم وأغراضهم و«كلاكيشهم» والخروج من بيروت سواء بسبب غزوات الفرنج أم بما يحلّ في بلدتهم من أوبئة وطواعين. وكان الناس في الأجيال الماضية يسمّون كل وباء طاعوناً، كما كانوا يسمّونه أيضاً الفناء لأنه كان يفني أعداداً كبيرة من الناس. ودرجت العادة على تسمية كل طاعون بلقب (كما يتم اليوم تسمية كل عاصفة بلقب)، ذكر الذهبي أسماء الطواعين مثل عمواس والأشراف والجاروف والفتيات و«العايق يأخذ على الرايق» و«قارب شيحة الذي أخذ المليح والمليحة».

ويقول الفقهاء إن الطاعون هو سهام الجنّ، فإذا كثر الزنا وشرب الخمر وأكل الربا واللواط والجور حلّ الطاعون. ورووا أن ما من قوم يظهر فيهم الزنا إلّا أخذوا بالفناء. قال ابن حجر: والحكمة في ذلك أن الزنا حدّه إزهاق الروح في المحصن، فإذا لم يقم فيه الحدّ سلّط الله عليهم الجن يقتلونهم. ولما كان الزنا يقع من بني آدم سرّاً، فسلّط عليهم الجن يقتلونهم سرّا من حيث لا يرونهم، وقاعدة العذاب أنه إذا نزل يعمّ المستحق له وغيره والرحمة لا تكون إلا مخصوصة. قال الشيخ عبد اللطيف فتح الله في تأريخ وفاة عبد الرحمن القصار الدمشقي:

حلّ من وخز الجن فيه شهيداً

إذ دعاه المولى لدار النعيم

انتشر وباء الكوليرا عدة مرات في بيروت، ففي سنة 1865 خَلتْ من ثلثي أهاليها الذين توجهوا الى قرى لبنان واعتبر الوباء أشدّ مما حدث سنتي 1845 – 1855 وعزي الأمر الى النفايات المتراكمة في الأسواق والأزقة. وعند شيوع المرض وخروج البيارتة للجبل اتخذت السلطة احتياطات أمنية ليلاً نهاراً وفرض أن لا ينام أحد ليلا على السطوح بغير غطاء. وصدرت التعليمات بمنع أكل الثمار البائتة ولا سيما حلوى التمرية التي يطوف الباعة بصدورها. وكان الهواء الأصفر شديدا على البيارتة سنة 1875 فقد نزح كثير منهم ونبّهت البلدية على من يريد العودة بوجوب طرش أماكنهم بالكلس. ومن الطريف ان السفهاء جعلوا سنتها من المرض سمراً بينهم ينشرون الأراجيف التي تشوّش الأفكار وتسلب الراحة وتوقع الرعب وتورث الهمّ والكرب. وقد روي ان شابين كانا يصعدان الى السطح مساء ويخاطب أحدهما الآخر بقوله: يا فلان وقع في هذا النهار نحو ستين، مات منهم أربعين. فيقول الآخر: نعم بلغني ذلك وقد أصيب فلان ومات فلان.. الخ…

وفي سنة 1883 فقد هبّ أهل البلد من مراقدهم ليجدوا ان الجنود أحاطوا بالمدينة وأقاموا الحواجز الصحية الكردون (cordon) لأجل منع خروج الأهالي واختلاطهم مع أحد. وتكاثرت الشكاوى مما كان يحصل في الكرنتينا من دفن للأموات وراء الأكشاك والأكواخ وتكاثر العقارب فلا يمرُّ يوم إلّا ويُلسع إنسان (يذكر انه كان يوجد قرب الكرنتينا ميناء عرف بميناء العقارب) وقد نظم أحدهم كافات الكوليرا (تقليدا لكافات الشتاء التي نظمها الحريري وللكافات التي نظمها الشيخان أحمد البربير وأحمد الأغر) فقال:

جاء الوباء وقد باتت تقاتلهُ

سبعٌ تشد عليه وهو فتاكُ

كنسٌ وكلسٌ وكوردونٌ وكرتنةٌ

مع الكساد وكانونٌ وكونياكُ

المشهد الأول

اعتبرنا ما رواه الصيدلي أمين فاخوري إثر تفشي الكوليرا سنة 1908م رواية للتدليل على أثر الخوف في النفوس كمشهد أول أضفنا إليه مشهدان (قد يتحوّل الى مسرحية).

قال: خرج أحد الفلاحين صباح أحد الأيام من قريته قاصداً المدينة لشراء بعض حاجات بيته. فرأى أثناء الطريق امرأة مسنّة دردبيس قبيحة المنظر والمخبر، فرَاعَهُ ما رأى من قبحها وسوء منظرها، فتعرّض لها سائلاً:

الفلاح: من أنت يا خالة؟

المرأة: أنا الكوليرا.

الفلاح: أعوذ بالله منك ومن شرورك وأفعالك. إلى أين تقصدين يا سيدتي؟

الكوليرا: أقصد تلك القرية. وأشارت الى قريته.

الفلاح: وما تصنعين بها؟ 

الكوليرا: أَوَيلزم سؤالي أيها اللبيب، أما سمعت بي وعلمت بما أفعل.

الفلاح: لا تؤاخذينني يا سيدتي. سمعت وعلمت وفهمت، ولكن أرى من واجبي أن أسألك بحكم ما جرى بيننا الآن من معرفة، وأعلمك بأن هذه القرية هي قريتي ولي فيها أقارب وأصدقاء، ألا يمكن أن تعدلي عن تشريفك وزيارتك لها؟

الكوليرا: إن دخولي إليها أمر مقدّر لا مفر منه، ولكن كم تريد أن أصيب بها يومياً؟ وإني على استعداد لأن أفعل ذلك إكراماً لك ولصداقتنا الطارئة.

الفلاح: وكم تمكثين في القرية؟

الكوليرا: عشرة أيام يا صديقي الكريم.

الفلاح: هل تكفيك أربعة أشخاص يومياً؟

الكوليرا: سأفعل كما تريد.

الفلاح: الله يطوّل عمرك… آه نسيت، صحبتك السلامة… ولكن مهلاً إذا زاد العدد المعيّن الذي وعدتيني به، أين أراك لنتعاتب؟

الكوليرا: تلقاني في المنزل الكبير شرقي القرية.

رجع الفلاح حزيناً الى قريته، وانتظر الى المساء، فإذا المصابون أربعة. فقال في نفسه: قد وفت العجوز بوعدها. وفي مساء اليوم الثاني سمع أن عدد المطعونين عشرة أشخاص. فذهب الى المنزل الكبير والتقى العجوز وعاتبها على إخلالها بالوعد الذي قطعته له.

فقالت: ليس لي أدنى علاقة بإصابة الستة الآخرين، بل كان ذلك من خوفهم ورعبهم.

فتركها الفلاح وعاد إلى قريته وصعد إلى سطح منزله ونادى بأعلى صوته: يا قوم طالما تبتعدون عن الرذائل وتراعون صحتكم، فلا خوف عليكم. وها أنا تقرّبت من الكوليرا وتعرّفت إليها ولم تصبني بسوء.

المشهد الثاني

يخرج الفلاح من بيته حزينا ومسرعاً ويشاهد المرأة..

هو: يا ستّار.. سلام قولا…

هي: أراك مسرعا، فإلى أين؟

هو: ذاهب لإحضار الطبيب الوحيد في البلدة.

هي: وكيف يعالجكم؟ 

هو : بطرق موروثة كالتمسيد والمشروبات الساخنة ولبخات الماء البارد.

هي: وهل تثقون به؟

هو: طبيب نحس نرى في هجره منفعة، إذ لم يجيء لمريض إلّا وعزريلٌ معه.

هي: وأي دواء لديكم؟

هو: نفوس بلدتنا تكره الدواء.

هي: لأن النفوس مجبولة على كره ما فيه النفع، يؤمنون ان البلاء يصير شفاء.

هو: صدقت يا خالة، فقد رووا لنا قول المجنون:

تداويت من ليلى بليلى من الهوى

كما يتداوى شارب الخمر بالخمرِ

هي: وفي معناه قول أبي النواس:

دع عنك لومي فان اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

هو: أراك تحفظين الشعر؟

هي: درسته على شيخ الكتّاب واني أراك تؤخّرني عن مهمتي، هل أنت خائف؟

هو: اتكالي على الله. قال شاعر من أجدادي:

لا تجزعن لحادثٍ فلربما

كان العسير به يصير يسيرا

بقميص يوسف نال يعقوب العمى

وبريحهِ من بعد عاد بصيرا

هي: ها أنت أيضا تحفظ الشعر.

المشهد الثالث

يشاهد اللي ما «بتتسمى» في طريق السوق..

هو: الى أين اليوم يا ترى؟

هي: لديّ أمر مهمة في سوق بلدتكم.

هو: لماذا يخافك الأثرياء والتجار؟

هي: خوفهم في محله، ألا ترى المتسولين يملأون الطرق، فأين الحق المعلوم للسائل والمحروم؟ وأين التقوى؟

هو: هلا نظرت الى الزوايا والتكايا؟

هي: ان شيوخها يقولون ما لا يفعلون وأرى ان أفضل وصف لهذه السوق ما قال شاعركم أحمد البربير:

وسوقهم بات فيها

ماء الحياء يراق

للصدق فيها كساد

وللنِفاق نَفَاق

هو: انظري الى نتاج أرضنا الطيبة.

هي: يا زارع الأرض وهو يرجو

من زرعها الربح والنماء

ازرع جميلا بأرض مثلي

تحصد به الأجر والثناء

هو: فأين الجميل الذي تزرعينه في أرضنا؟

هي: انظر الى هذا الجزار يحمل على رأسه الخروف المذبوح والدم يسير منه وقد قسا قلبه وهو يهرول بين المارة ويردد معارضا المتنبي:

فالذبح والسلخ والسكين تشهد لي

والقطع والفصل والساطور والوضم

هو: وما هو الوضم؟ فمنك نستفيد؟

هي: الخشبة التي يوضع عليها اللحم لتكسير ما فيه من عظام.

هو: ومن دعاكِ الى المجيء لبلدتنا؟

هي: ألا ترى النفايات المكدّسة في الأسواق والطرقات وبين البيوت ثم انظر الى بائع التمرية يجول والذباب يتقاتل لنيل لحسة سكر؟ والى بائع البوظة حاملا تنكة البوظة وعلبتها وصندوق الملح وطبق الثلج وعلبة الأقداح والمنشار والمضرب والمقشط. ألم ترَ بائع المعلل بيعلك ويمط قطعة بين يديه لتليينها، فإذا أصبحت كفاه دبقتين بصق عليهما وتابع سيره.. وبعد كل ذلك تسألني لماذا دعيت لزيارتكم؟

________

*مؤرخ/ صديق جمعية تراث بيروت.

ملف “بيروتيات” (9)

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website