«تؤلّف ولا تؤلّفان» في رسائل الشيوخ: أحمد البربير ومحمد الحوت وعبد الباسط الفاخوري وعبد الله العلايلي

عبد اللطيف فاخوري*

 تروّج بين الحين والآخر فكرة نهاية العالم، لا سيما في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وعند انحطاط الأخلاق وتبدّل القيم وشيوع الفساد والشذوذ والمخدرات والإلحاد. فإذا عمّ الفساد في البلاد والعباد ظهر المسيح الدجال أو الأعور الدجال – باعتباره بعين واحدة – الذي يضلّ الناس، ثم يظهر المهدي الذي يقتل الدجال ويملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً.

يقال أن القديس أوغسطينوس (354 – 430م) أول من قال بزوال العالم عام 2000 ميلادية من خلفية لاهوتية. وينسب للطبيب اليهودي الفرنسي نوستراداموس (1503 – 1566م) صاحب كتاب «المئويات»، القول المأثور التي تردده العامة وهــــو «تؤلَّف ولا تؤلّفان» أي أن العالم سوف ينتهي قبل العام 2000م. وقد وضع علماء بيروت الشيوخ أحمد البربير ومحمد الحوت وعبد الباسط فاخوري وعبد الله العلايلي رسائل في انتهاء العالم.

أحمد باشا الجزار والمهدي المنتظر

يبدو أن فكرة انتهاء العالم وقُرب ظهور المهدي راجت في أوائل القرن التاسع عشر. فقد روى الجبرتي أن الزبيدي صاحب «معجم تاج العروس» (توفي سنة 1205هـ) أرسل مرة إلى أحمد باشا الجزار مكتوباً، ذكر له فيه أنه المهدي المنتظر وسيكون له شأن عظيم، فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني، ووضع الجزار ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الأحراز والتمائم، فكان يسرّ بذلك إلى بعض من المعارف في «الجفر» و«الزايرجات» ويعتقد صحته بلا شك، ومن قدم عليه من جهة مصر وعرفه أنه اجتمع بالزبيدي وأخذ عنه وذكره بالمدح والثناء، أحبه وأكرمه وأجزل صلته، وإن وقع منه خلاف ذلك، قطب منه وأبعده ومنع عنه برّه ولو كان من أهل الفضائل.

الشيخ أحمد البربير وتحقيق ظهور المهدي

للشيخ أحمد البربير رسالة «في تحقيق ظهور المهدي» ألّفها سنة 1808م (في خزانتنا نسخة منها) أوضح فيها سبب التأليف بأنه في تلك السنة «صدّ فيه الحجيج وانتشر الجراد بما أجهل العقل وحيّر الفكر وأتعب القلب وأدهش الطرف، رأيت الناس فيه حيارى سكارى وما هم بسكارى، قد غرقوا في بحر الحدثان وانكسر من دنياهم السكان، وجاءهم الموج من كل مكان، حتى آيسوا من النظام وأيقنوا بانقراض دولة الإسلام، وحكموا بأن المهدي في هذا العام، يبايع بين الركن والمقام، وقالوا قد امتلأت الأرض جوراً وأصبح العدل غوراً، فلما رأيت قلقهم وجزعهم وفرقهم، عزمت أني أضع لبيان ما أقيم لهم من الحجج على غلطهم تأسيساً، وأبيّن لهم ان في الزمان بعد تنفيساً، ليزول بذلك ما اعتراهم من الوهم والأفكار، ويصفو عيشهم من الأكدار…». ويروي البربير حديثاً نبوياً مآله إن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة من خلق آدم الى قيام الساعة. وانه، أي البربير، رأى في فتوحات الشيخ الأكبر – إبن عربي – أنه لما خلق آدم كان قد مضى من عمر الدنيا إحدى وعشرون ألف سنة. كما أشار إلى ان الحافظ السيوطي ألّف رسالة سمّاها «الكشف في مجاوزة هذه الأمة الألف» نقل فيها عن وهب بن منبه أنه قال: «قد خلا من الدنيا خمسة آلاف وستماية سنة»، وعليه يكون الباقي بعد قول ابن منبه من عمر الدنيا ألف وأربعماية سنة، وأنه لما قال ذلك كان قد مضى من الهجرة نحو ثمانين سنة، فزدْ الثمانين إلى الأربعماية يكون مجموعها ثمانين وأربعماية وألف. وقد مضى منها الآن مايتان وألف وثلاثة وعشرون. فيكون الباقي 280 سنة يذهب منها 61 لظهور المهدي لأنه يظهر على رأس 84 من قرننا وفقاً لرواية عن الإمام علي كرّم الله وجهه.

وينتهي البربير إلى القول بأن «القرن التاسع عشر متعين لظهور المهدي، وأن الباقي لمدة ظهوره 61 سنة من تاريخ سنة 1808م».

وتمرُّ السنون، فلا المسيح الدجال ظهر، ولا المهدي نزل، وانقضى العام 2000 وما زال العالم قائماً ومستمراً ولم تصح مقولة العامة: تؤلّف ولا تؤلّفان. وتقول رواية أخرى بأن المقصود بالألفين هو السنة الهجرية التي ألفــــت (أي بلغت الألف) والتي سينتهي العالم قبل بلوغ العام 2000 للهجرة.

رسالة الشيخ محمد الحوت في موضوع ظهور المهدي

ذكر الأستاذ محمود الحوت نقلا عن الشيخ طه الولي ان للشيخ محمد الحوت (1794 – 1860م) في موضوع ظهور المهدي رسالة (مفقودة) في تفنيد هذا التقليد وعدم الركون الى ما وضع فيه من الأحاديث المنسوبة الى النبي صلى الله عليه وسلم.

من المعلوم ان المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري كان من أفقه تلامذة الشيخ محمد الحوت وقد دوّن في مخطوطاته الكثير من أقوال وآراء أستاذه، وللمفتي المذكور رسالة في موضوع انتهاء العالم يمكن القول بأن ما ورد فيها لا يختلف عن رسالة الشيخ محمد الحوت.

رسالة المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في انتهاء العالم

يورد المفتي الشيخ عبد الباسط الفاخوري في رسالته الى حديث مرفوع للنبي صلى الله عليه وسلم «بُعثت أنا والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى. ويقول:

«يريد صلى الله عليه وسلم، أعلم بمراده، ان دينه وشريعته متصلة بقيام الساعة لا يفصله دين ولا شريعة ولا شيء بعده». ويذكر رسالة السيوطي المسمّاة «الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف»، وفيها التي دلّت عليه الآثار ان مدة الأمة تزيد على ألف سنة ويقول: «وذكر السيوطي أخبارا وأحاديث أكثرها واهية لا تقوم بها الحجة. واحتج كثير من العلماء على تعيين قُرب زمان الساعة بأحاديث لا تخلو من نظر. والحق الذي أقوله ويجب التعويل عليه انه لا يعلم ما مضى من الدنيا وما بقي منها إلا الله تعالى. وقد حكى الشيخ محي الدين ابن عربي عن إدريس عليه السلام انه قد اجتمع معه اجتماعاً روحانياً وسأله عن العالم فقال: نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث..».

ويضيف المفتي الفاخوري: «ومن أعجب ما رأيته ما زعمه بعض الكلاميين ان الساعة تقوم بعد الألف وأربعمائة وسبع سنين (بحساب الجمل) آخذا من قوله تعالى {فهل ينظرون الى الساعة أن تأتيهم بغتة} وأنت تعلم وتتيقن أن مثل ذلك مما لا يعول عليه ولا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو أن يلتفت الى مثل هذه الخرافات والأقوال الخزعبلات والحزم كل الحزم والقول الحق انه لا يعلم ذلك كله إلّا الخالق اللطيف الخبير..

وما اشتهر على الألسنة من أن الدنيا تؤلّف ولا تؤلّفان وأن النبي لا يمكث في قبره ألف سنة فباطل مكذوب لا أصل له ولا يثبت ولا يصح ذلك وكل ما ورد بتحديد مدة الدنيا وقيام الساعة لا أصل له… وتعيين وقت قيام الساعة لم يأتِ فيه حديث صحيح والأحاديث الصحيحة دالة على ان علم ذلك قد استأثر الله به دون أحد من خلقه… فالخوض وكثرة القول في ذلك لا يجدي نفعاً ولا يأتي بطائل والله يقول الحق ويهدي من يشاء الى صراط مستقيم».

رأي الشيخ عبد الله العلايلي

تعتقد العامة أن من علامات الساعة ظهور يأجوج ومأجوج، والظن أنهم من العرق الأصفر. فقد جاء في قصيدة من «الجفر»:

وبدا التاريخ من تسمع ترى

جحفلاً يستغرق الأرض غشوما

من بني الأصفر جيشاً هايلاً

مستقلاً يشبــــــــه الليل البهيما

وقد أطبق الحفّاظ وعلماء الحديث والدراسة على إن الأثر المروي القائل «تؤلَّف ولا تؤلّفان» هو من الموضوعات. وقد تقبّله الشيخ عبد الله العلايلي كإرهاص فقط. وفهمه على أن العالم بمألوفه المتعارف عليه، ستقوم القيامة الكبرى عليه، ويتغيّر كلياً كخلق جديد. وطلائع هذه القيامة ما تؤكده معطيات العلم البادية يوماً بعد يوم في مجالات التكنولوجيا من اندثار عالم قديم وانفطار عالم آخر جديد. فالقيم القديمة لم تعد مقبولة، والقيم الجديدة غير أخلاقية. فيها ما سُمّي بالموت الرحيم والاستنساخ والزرع والتلاعب بالأجنة وبيع الأعضاء وتصنيعها والعبث بجينات الخلايا.

يذكر الشيخ عبد الله العلايلي في مقدمته لدرس لغة العرب إلى القصد الكنائي في يأجوج ومأجوج، أي أنه كناية عن التأجج المتدافع. فالتأجج في كل شيء بحسبه. ورأى أن كل ما قرّر في معنى (يأجوج ومأجوج) من أنه علم على قوم، خطأ لا حجة عليه وشبهة وقعت لعلماء التأويل. ورأيه أن يأجوج ومأجوج مثل من بقايا العهد الصوتي، بقي في اللغة للغاية المثلية فقط. وأن يأجوج فعل مضارع من ثلاثي (أجج). ومأجوج اسم مفعول منه. والمعنى التركيبي: ان التأجج والتدافع، هو تمثيل لحالة الخروج يوم القيامة بعد بعثرة القبور.

الدنيا على آخرها عند البيارتة

من نوادر البيارتة انهم لم يتعرّفوا على المرآة إلا حديثاً. ويتناقل المخضرمون منهم أن عبد الفتاح آغا حمادة، متسلم بيروت، بنى قصراً في محلة زقاق البلاط في أوائل القرن التاسع عشر وأحضر لصالون القصر مرآة كبيرة. وذهب البيارتة لمشاهدتها، فأخذهم العجب وشعروا بإحساس غريب، وظنوا بأنها أداة من أدوات السحر. فكانوا يغادرون القصر وهم يتعوّذون ويحوقلون ويتمتمون: يا لطيف… صارت الدنيا عآخرها.

وبعـد

ومنذ أن عصى أبونا آدم وأكل من شجرة المعرفة وهبط إلى الأرض، أصبح كل همّه وهمّ أحفاده العثور على شجرة الحياة والخلود إلى حين موعد عودته إلى الجنة، ولكي يصل إلى هدفه عليه أن يمتلك شيئين: المعرفة وسر الحياة والخلود. أي التغلب على الموت المندرج تحت عنوان تحدي المخلوق للخالق. فإذا ظن أنه قادر ذكّرته الآية 24 من سورة يونس {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} صدق الله العظيم.

________

*مؤرخ/ صديق جمعية تراث بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website