دور الإعلام الرقمي في حفظ وتعزيز التراث الثقافي

سهيل منيمنة *

التراث الثقافي شيء يَشترك فيه جميع البشر، وأينما حللنا هناك دائماً ثقافة تطبعنا وتتبعنا، ولكن يبقى مصدرها منشأنا. وبغض النظر عن المكان الذي نشأ فيه الشخص وإلى أين يذهب، ستكون ثقافته دائماً إرثاً يأخذه معه أينما حلّ. والتراث الثقافي له ثلاثة أوجه: ملموس وغير ملموس وطبيعي. يتكوّن التراث الملموس (المادي) من المباني والقطع الأثرية مثل المنحوتات واللوحات والمخطوطات وما إلى ذلك، ويتكوّن التراث غير الملموس (المعنوي) من العادات الإجتماعية والتقاليد والطقوس وفنون الأداء ووقائع الأيام والأمثال والأدب الشعبي وغيرها من الموروث المدوّن والشفوي. أما التراث الطبيعي فيتألف من مناظر طبيعية ثقافية ومناظر جيولوجية وأي نوع من المشاهد الطبيعية. من المهم جداً أن نحمي تراثنا الثقافي حتى تتمكن أجيالنا القادمة من الاستمرار في النظر إلى ماضيها، وهو ما دأبنا على القيام به في جمعية تراثنا بيروت منذ تأسيسها، وحتى قبل ذلك بسنوات.

خلال الأعوام العشرين الماضية، ومع تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ظهر اهتمام ملحوظ بمشاركة المجتمع الرقمي في عملية إدارة التراث الثقافي، وتعتبر وسائل التواصل الاجتماعي واحدة من أهم المنصات لتعزيز عملية المشاركة العامة للحفاظ على التراث العمراني في سياق سباق الحداثة المتسارع. ولكن يلاحظ أنه لم يتم إجراء سوى القليل من الأبحاث حول تقييم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في هذه العملية، وهو مطلب أراه ضرورياً لسد الفجوة البحثية من خلال تقديم صورة أكثر شمولاً لوظائف منصات وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيراتها على التنمية الحضرية المستدامة وذلك بتبنّي مراجعة منهجية للأدبيات لكي توفر هذه الوسائل منصة لمجموعة واسعة من المهتمين بالمحافظة على تراث الوطن كي يكون لهم حضور في عملية اتخاذ القرار لإدارة التراث الثقافي، وينبغي تطبيق ذلك على نطاق واسع لتشجيع المواطنين وخاصة الجيل الواعي من الشباب لأهمية دوره في تعزيز المواطنة.

هذا التراث يعكس تاريخنا وقيمنا وتقاليدنا المشتركة. وفي هذا العصر الرقمي، تلعب وسائل الإعلام دوراً حاسماً في الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيزه. ويمكن للإنترنت، كنوع من وسائل التواصل الاجتماعي، أن توفر منصة مهمة تعتمد بالدرجة الأولى على المجتمع للحفاظ على التراث المستدام والشامل مما يعزز جواً مفتوحاً يمكّن جميع المهتمين المتحمسين المشاركة في حماية التراث الثقافي بسهولة. علاوة على ذلك، توفر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات منصة تشاركية مفتوحة، حيث يمكن للمواطنين أن يلعبوا دوراً نشطاً لمجموعة واسعة عبر المقاييس والطبقات والأجناس والأعمار، وهو أمر بالغ الأهمية للتخطيط التعاوني وبالتالي لعملية الحفظ المستدام.

إن استخدام الوسائل الرقمية لإشراك المجتمع المحلي في حماية وتعزيز قيم التراث الثقافي يحظى اليوم باهتمام متزايد في جميع أنحاء لبنان، خاصة بعد جريمة تفجير مرفأ بيروت عام 2020، وبعد التعديات السافرة لرأس المال المتسلّط من قبل بعض المقاولين والسياسيين الذين لا تعني لهم الثقافة شيئاً. ومما لا شك فيه أن التقنيات الرقمية تحسن عمليات الحفظ والحفاظ، بالإضافة إلى إثراء الأرشيف بالوسائط التفاعلية، بالإضافة إلى رسم خريطة للتراث باستخدام نظام المعلومات الجغرافية، وزيادة الخبرات التشاركية، وتعزيز التواصل بين أصحاب المصلحة، وتعميق فهم الارتباط الثقافي. كذلك تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي واحدة من أهم العوامل التي تسهل تعزيز التعاون المزدوج بين السلطة والمواطنين في حال وجود سلطة غير فاسدة وفاشلة ومرتهنة.

الآثار الإيجابية

1- توفر المنصات الإعلامية الهادفة والصادقة يعتبر وسيلة قوية للحفاظ على التراث الثقافي. فمن خلال الأفلام الوثائقية واللقطات الأرشيفية والمكتبات عبر الإنترنت، يمكننا التقاط وتخزين القطع الأثرية والقصص والتقاليد والعادات القيّمة للأجيال القادمة. وتضمن هذه الأرشيفات الرقمية أن يظل تراثنا الثقافي متاحاً ومحمياً، حتى في مواجهة التدهور الاقتصادي أو الكوارث الطبيعية.

2- تعمل المنصات الإعلامية بمثابة بوابة لتعزيز التراث الثقافي على نطاق عالمي. وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت، يمكن أن تكون لدينا القدرة على الوصول إلى جمهور واسع يتجاوز الحدود الجغرافية، كإقامة الندوات في العديد من مدن وبلدات وقرى المناطق كالندوة الثلاثية التي أقوم بالمشاركة بها برفقة الشاعر هنري زغيب والبروفسور أنطوان مسرّة تحت عنوان «كيف ننقل التراث إلى الأجيال القادمة».

3- تسمح لنا الصور المميّزة والسرد القصصي الجذاب والتجارب الغامرة أن نعرض جمال وتنوّع تراثنا الثقافي لجمهور أوسع، مما يعزز التفاهم والتقدير بين الثقافات. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تعمل وسائل الإعلام كمحفّز للابتكار الثقافي والإبداع. ومن خلال مزج أشكال الفن التقليدي مع تقنيات الوسائط الحديثة، يمكننا إنشاء محتوىً خلاّب يبث حياة جديدة في تراثنا الثقافي.

4- من جولات الواقع الافتراضي للمواقع التاريخية إلى التطبيقات التفاعلية التي تعلّم الحرف القديمة، تُمكننا وسائل الإعلام من إعادة صياغة تراثنا وإعادة تفسيره، مما يجعله ملائماً وجذاباً لكل وقت وكل متابع.

5- يمكن أن توفر وسائل التواصل الهادفة منصة ممتازة للمجتمعات المهمّشة لاستعادة تراثها الثقافي والاحتفال به. ولا يخفى أنه في كثير من الحالات يتم التغاضي عن التقاليد والممارسات الثقافية أو تهميشها، ولكن من خلال وسائل الإعلام، تستطيع هذه المجتمعات مشاركة قصصها، وتحدي الصور النمطية، وتأكيد هويتها الثقافية. ويلعب هذا التمكين دوراً محورياً في الحفاظ على الممارسات الثقافية المهددة بالإنقراض وإحيائها، مما يضمن بقائها للأجيال القادمة.

الآثار السلبية

من ناحية أخرى، لا يخفى أن وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثير سلبي على ثقافتنا حيث يمكن للأشخاص مشاركة ما يريدون عليها، وقد يكون بعضها مدسوس أو مضلل عمداً أم جهلاً، أو عارٍ عن الصحة. وصرنا نرى أن الكثيرين، إن لم نقل الأغلبية، أصبحوا أكثر تحفّظاً بشأن وجهة نظر بعضهم البعض ويتجادلون بعنف فيما يتعلق بالنواحي السياسية والدينية والاجتماعية وحتى الثقافية، وصار لهذه الوسائل تأثير سلبي على الشباب خاصةً وبات من السهل لمن شاء أن يدلي بتعليقات وحشية وسلبية حول أي شيء وأي شخص. إن وسائل التواصل الاجتماعي لها تأثيرات جيدة على ثقافتنا والإضاءة على تراثنا، ولكن غير المنضبطة منها أو التي لا تتمتع بمصداقية ما تنشره لها تأثير سلبي وحتى قبيح على ثقافتنا، ومن خلال مشاهداتي أستطيع القول أنه لكثرتها أصحبت أشبه بـ «حمّام مقطوعة ميّته»!

في الختام، يلعب الإعلام دوراً لا غنى عنه في الحفاظ على التراث الثقافي وتعزيزه. ومن خلال تسخير قوة المنصات الرقمية، يمكننا حماية تراثنا الثقافي ومشاركته مع العالم وتعزيز الإبداع وتمكين المجتمعات في نسيجها الاجتماعي والعمراني والأدبي والفني. دعونا نستمر في احتضان وسائل الإعلام هذه والاستفادة منها لضمان بقاء تراثنا الثقافي حيًاً ومحتفلاً به ومعتزاً به. لقد نظرت إلى المؤسسات الثقافية الرائدة في لبنان عامةً وبيروت خاصةً فوجدت أن أحد وأهم ركائز نجاحها هو وجود فريق إعلامي شبابي متطور يصنع الحدث. أما تلك التي تعاني من صعوبات، فلا تزال تعتمد على أسلوب تقليدي تفرّدي بالٍ يعيش على أمجاد الماضي.. وينتظر الحدث!

* رئيس جمعية تراثنا بيروت

[email protected]

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website