إذا أوقفت تاكسي أو سرفيس اليوم وطلبت منه أن يوصلك إلى الجميزة، فستصل حتماً إلى منطقة الجميزة شرقي الوسط التجاري وليس إلى إية جميزة أخرى. ولكن إذا رجعت بالذاكرة وتخيّلت أحد أجدادك يطلب إلى سائق الحنطور أبو شفيق أن يوصله إلى الجميزة، فسيقول له: «أي جميزة يا أفندي؟ بيروت فيها 11 منطقة منسوبة إلى الجميز!».
وبما أن الطقس كان جميلاً في ذلك اليوم، وجدّك ميسور الحال، فاضي البال، قال لأبو شفيق: «طيب يا ريّس، خلينا نبرم على كل جميزات بيروت وخبّرني عن قصة كل واحدة، وإلك ربع مجيدية».
سار حنطور أبو شفيق حتى وصل إلى ساحة السور التي يسميها العامة عصّور (على السور = عالسور = عصّور) وهي اليوم ساحة رياض الصلح المعروفة، فعدل طربوشه وقال: «هيدي جميزة عصور يا أفندينا، وتعرف بجميزة «بيت النحيلي» لأن أحد بنات عائلة النحيلي كانت تتخذ تحت الجميزة بسطة تبيع عليها بعض الأشياء، وكانت جميلة فاتنة، ولما رآها ابن الوالي سحرته فتزوجها وسافر بها إلى باريس. ولما رجعت الى بيروت مرّت قرب الجميزة وقالت: «أوه لا لا.. شو هالشجرة؟ ما عنا منها بباريس» فقال الناس لها: كبرت بنت النحيلي عن جميزة عصّور. وصار قولهم هذا من الأمثال البيروتية المعروفة.
وبعد دقائق وصلت عربة أبو شفيق إلى قرب السرايا العتيقة وقال: «وهذه جميزة المصلّى يا أفندينا قرب جبانة المصلى، يقف الناس من أهل الميت تحتها لتقبّل العزاء، وهي كما ترى ملاذ العتالة (الحمالين) للراحة والاستظلال قبل متابعة سيرهم، وملتقى التجار للتحدث والتعرّف والهروب من أجواء الأسواق والحارات الخانقة. وكما ترى فهذا صاحبنا الحلاق أبو إبراهيم يحلق للزبون الذي يحمل قطعة من مرآة مكسورة بين يديه تحت الجميزة، ولما تنتهي حلاقة هذا الزبون سيعطي أبو إبراهيم أجرته رغيف خبز وبصلة».
وتوجهت العربة بعد ذلك غرباً إلى محلة زقاق البلاط. قال أبو شفيق: «هذا القصر كما تعلم يا افندي هو قصر عبد الفتاح آغا حمادة متسلم بيروت. كانت الأرض التي شيّد عليها القصر يوجد فيها بيت متواضع لامرأة عجوز تظلله جميزة كبيرة، وعندما أخبرها المتسلم أنه يريد شراء الأرض لبناء بيت فيها قالت له: بفيّة الجميز ما بينبت حشيش، وإن نبت ما بيعيش. وربما كانت تعني أنه حيث توجد زعامة إقطاعية لا تعيش الحرية والكرامة في ظلها».
قال الأفندي: «دخيل عينك يا أبو شفيق. هذه الرحلة في منتهى الجمال ولكن أرجو منك أن تختصر سرد الأخبار حتى لا يملّ القارئ الذي يتابعنا الآن بالقرن الواحد والعشرين!».
انحدرت العربة نزولاَ إلى باب السنطية على الواجهة البحرية (وهي اليوم منطقة البيال قرب جامع المجيدية)، فقال السائق: «هذه الجميزة الكبيرة التي تراها هنا اسمها جميزة الرجل الصالح. ويقال أن رجلاً صالحاً غرسها قرب سبيل الماء ليتفيأ بها العابرون. وفي أحد الأيام جاء رجال إبراهيم باشا لقطعها ليجعلوا من فروعها مخابط للأرز فوجدوا رجلا يمسك بها ويقبّلها. وعندما عرف الضابط الموفد قصتها تركها وانصرف».
وعند وصول العربة إلى محلة القنطاري قال أبو شفيق: «وهنا كانت جميزة القنطاري التي لم يبقَ منها لا رسمها ولا اسمها». ومنها الى أول شارع الحمراء حيث جميزة «البابور» نسبة لنظير عيتاني الذي كان يعمل لصالح سكة الحديد أو البابور (وكانت مكان موقع مصرف لبنان اليوم)، وأكملت العربة المسير غرباً إلى رأس بيروت حيث جميزة فضول ربيز التي كانت ضخمة لدرجة أن البعض أطلق على أحد أغصانها لقب «عزرائيل». وتابعت العربة سيرها صعوداً إلى منطقة عائشة بكار حيث جميزة زاروب عبلا (قرب منزل الرئيس الحص اليوم).
قال السائق أبو شفيق: «ورحلتنا الآن طويلة جداً لأننا سنذهب إلى جميزة المفرق في محلة الدورة. وإسمها جميزة المفرق لأن عندها كان التقاء طريق طرابلس – بيروت وطريق أخرى تبدأ من جسر الرميلة وتصل حتى باب الدباغة».
ردّ الأفندي قائلاً: «لا يا أبو شفيق لقد تعبت من المشوار والجميزات. ارجعني إلى منزلي عالبسطة الفوقا». فالتفت إليه أبو شفيق وقال له ضاحكاً: «لن ترتاح، لأن في البسطة الفوقا يوجد جميزة بيت المحمصاني. هذه الجميزة ستدخل التاريخ لأنها جميزة بيت محمود المحمصاني أحد شهداء السادس من أيار، ولأنه اختبأ داخل جذعها عندما صدرت الأوامر بإلقاء القبض عليه.»