تجارة الحرير وتأثيراتها على المجتمع البيروتي

زكريا الغول*

نشأت الطبقة الرأسمالية التي بدأت تلعب دوراً مميّزاً في المجتمع البيروتي، مع العائلات البيروتية التي عملت في التجارة والصناعة

وقد تحوّلت بيروت إلى مركز هام لتجارة الحرير، وبخاصة بعد تطوّر وسائل النقل بين أوروبا والمشرق العربي، بفضل السفن التجارية التي كانت تنقل الحرير من بيروت باتجاه مرسيليا وغيرها من المدن الفرنسية، فتحوّلت فرنسا إلى سوق عالمي للحرير. وبدأت الرساميل الفرنسية تتجه نحو بلاد الشام من أجل تأسيس معامل حل الحرير على الطراز الأوروبي، وقامت هذه الرساميل الفرنسية بربط بيروت بكل من متصرفية جبل لبنان التي تعتبر المركز الرئيسي لإنتاج الحرير، وبالمدن الساحلية، بواسطة شبكة من المواصلات. وكان الهدف منها تأمين وصول الحرير الخام إلى بيروت بأقلّ كلفة. وبذلك تمّ شق الطرق التي تربط بيروت بكل من: طرابلس، صيدا، بعبدا، بيت الدين، بعبدات، وبكفيا.

مزرعة تربية دود الحرير في لبنان قديماً

وقد إشتهرت بيروت مع طرابلس وصيدا بالمنسوجات الحريرية، نتيجة ازدهار زراعة أشجار التوت مع اتساع تربية دود القز التي توفر الشرانق لإنتاج الحرير، وأخذت كمية إنتاج الحرير المصدّرة عبر مرفأ بيروت إلى مدينة ليون، تشهد تزايداً منذ العام 1901، وأخذت الطبقة الرأسمالية البيروتية تظهر من خلال تجارة الحرير، سواء مع الشرق أو الغرب وبخاصة فرنسا، وما رافقها من تأسيس المصارف المحلية والأجنبية.

ومن العائلات التي كانت تعمل في تجارة الحرير: آل الريس، فرنيني، فياض، موصللي، عساف، قرنفل، حوري، فرعون، خياط، بيهم، عكاوي.

وكان قد تأسّس مجلس التجارة عام 1899م برئاسة عبد القادر الدنا، يعاونه: عبد الله بيضون، متري طاسو، أسعد رعد، نحلة عودة، حسن المعماري، وعبد الرحمن بيهم.

مينة صغيرة في عين المريسة حزيران سنة 1899

وفي الفترة الممتدّة بين عامي (1904- 1911م)، برزت بعض العائلات المسيحية كوكلاء للتجارة الفرنسية بين سوريا وأوروبا، أمثال: أصفر، بسترس، بسول، تابت، تويني، حايك، حلو، خطار، خياط، رباط، الريس، سابا، سرسق، شرتوني، صباغ، طراد، عريضة، فرعون، فريج، فياض، مدور، مفرج، موصللي، ناضر، ونقاش.

وكانت بعض العائلات البيروتية الإسلامية مثل بيهم وداعوق وبربير، على علاقة وثيقة ببعض تجار الحرير من العائلات المسيحية، مما سهّل لها زيادة ثرواتها عن طريق تجارة الحرير بين بيروت ودمشق وحلب والقاهرة وإستانبول، وهذا ما يفسّر اهتمام فرنسا بتجارة الحرير في سنوات ما قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914م. 

وقد بدأ عدد من كبار التجار في بيروت يستثمرون جزءاً من رؤوس أموالهم في معمل حل الحرير، مع العلم أن عدداً من المعامل الفرنسية والإنكليزية قد أنشئت قبل هذه الفترة بقليل بالقرب من المواد الأولية حيث تركّز أعداد كبيرة من مربّي دودة الحرير.

وتجدر الإشارة هنا أن بعض معامل حل الحرير المحلية بقيت تحافظ على تشغيل معاملها على الطريقة التقليدية وبقيت تجارتها محصورة ضمن نطاق الريف، غير أن المعامل الأخرى العائدة إلى الأجانب كانت تعمل على الطرق الحديثة فاستطاعت منافسة معامل الحل المحلية والقضاء على الكثير منها. غير أن بعض المعامل اللبنانية صمدت أمام هذا الواقع بالرغم من أنها كانت تصنع حريراً أقل جودة من حرير المعامل الأوروبية الموجودة بجانبها، وقد لعب الرأسمال الليوني عبر مؤسساته في المدينة دوراً بارزاً في دعم بعض المعامل اللبنانية أمثال: سرسق اخوان – جورج تويني – أصفر اخوان. 

ومع تطوّر العلاقات التجارية، قام تجار الحرير في ليون، بإنشاء مكتب للبريد والمعلومات في بيروت للبقاء على اتصال دائم مع عملائهم بغية تزويدهم بآخر المعلومات عن الوضع الاقتصادي في المنطقة.

ومع تسارع نمو برجوازية الحرير في هذه الحقبة استطاعت تحقيق تراكم أولي على صعيد هذه التجارة مع السوق الخارجي، فنرى بعض العائلات المسيحية والإسلامية تحقق نجاحاً في هذا المجال نذكر منها على سبيل المثال عائلة بيهم في بيروت والتي كانت على علاقة وثيقة بأحد تجار الحرير المسيحيين (بطرس الأصفر) حيث كان هؤلاء يبيعون الحرير في أسواق دمشق. كما احتلت بعض العائلات البيروتية الإسلامية مراكز مرموقة في الجبل كعائلة بيهم.

وهكذا بقيت بعض العائلات الإسلامية في بيروت (داعوق بيهم) منخرطة في سوق داخلي عثماني، استطاعت مراكمة ثرواتها عبر التجارة مع الداخل السوري ومصر وتركيا.

هذا بالإضافة إلى أن تجاراً من المسيحيين الموارنة في بيروت أصبحوا وكلاء التجارة الفرنسية، وكانت على رأس المؤسسات التجارية التي كانت تمسك بعمليات الترانزيت بين سورية وأوروبا.

استطاعت هذه الفئة من البورجوازية المسيحية والإسلامية المدنية في هذه الفترة احتكار تجارة الحرير وتجارة الحبوب مع الداخل السوري.

سوق الأروام في دمشق 1900-1920 عن Documentarist

وهكذا يتبيّن إن الدور الذي لعبته البرجوازية الوسيطة في بيروت في عمليات إدارة البنوك، وتصدير الحرير واستيراد البذور المعدّة لتربية دود الحرير لسد حاجات معامل الحرير العائدة لها، والعاملة أيضاً لحساب الرأسمال الفرنسي وبشكل خاص الليوني، سمحت لها جميع هذه العمليات بجني أرباح طائلة لعبت دوراً مهماً في عملية تراكم الثروة لديها.

إن الدور الهام الذي لعبته البرجوازية على امتداد هذه الحقبة على الصعيد الاقتصادي كان يقابله دور سياسي إذ تسلمت مناصب ومهام أساسية في مجالس إدارة مدينة بيروت، ومجالس البلديات منذ العقد الثاني للقرن التاسع عشر، كما كانت رائدة العمل السياسي في حركات الإصلاح – حركة بيروت الإصلاحية عام 1912، والمؤتمر العربي في باريس عام 1913.

وبذلك شهدت بيروت نشوء طبقة اجتماعية جديدة من التجار الذين فتحت أمامهم أبواب تجارة الحرير مع فرنسا، فضلاً عن تسلّمهم المناصب الحرّة في الشركات الأجنبية، وعملهم كتراجمة في قنصليات الدول الأجنبية، كما عمل بعضهم في المحاماة والطب والهندسة.

صورة قديمة لتاجر بيروتي بالزي التقليدي

وهذا كله يشير إلى إغتناء العائلة البيروتية بحكم تطوّر بيروت في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري/ التاسع عشر الميلادي، فضلاً عن وفرة السواح الأوروبيين من فرنسيين وألمان وإنكليز، مما ساهم في تغيير العادات والتقاليد البيروتية واتخاذ بعضها، بخاصة لدى الطوائف المسيحية منحى أوروبياً واضحاً. فكان ذلك بداية الغزو الأوروبي بعاداته وتقاليده إلى بيروت وسائر المدن العربية، تمهيداً للسيطرة التامة عليها.

________

*محامٍ ومؤرخ ومحلل سياسي/ عضو جمعية تراثنا بيروت

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website