الدومري

زياد سامي عيتاني

إعلامي وباحث في التراث الشعبي

عضو جمعية تراث بيروت

الطرقات فاضية”، “حفرة نفرة”، “ما في دومري”…

هذه العبارة عادت لتتكرر وتتردد في زمن الحجز الصحي والحجز المنزلي، وقاية من وباء “الكوروانا” الذي غزا بلادنا دون رأفة أو رحمة، مما جعلنا مرغمين ومكرهين على ملازمة منازلنا، متسلحين بالصبر، نعد الساعات والأيام الثقيلة، التي باتت “أطول من يوم الصول وليل كانون”، مما جعل ينطبق علينا المثل: “عدّ البيض بالمقلي ولا تعد شهور الحبلي”.

وهذا ما جعل الشوارع والطرقات “السدح مدح” خالية، والأسواق التجارية والمحلات مغلقة، والمؤسسات العامة والخاصة مقفلة،

لدرجة “بترمي الإبرة، بتسمع رناها”… لكن كثر ممن يرددون عبارة: ” ما في دومري” لا يعرفون من هو “الدومري”(!)

إذاً.. من هو الدومري؟

حال بيروت القديمة:

قبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من التذكير بما كان عليه واقع حال باطن بيروت في الحقبات الماضية، حينما كانت محاطة بسور لحمايتها من أي غزوٍ، شأنها شأن كل المدن القديمة، وكان سور بيروت مدعماً بسبعة أبواب للدخول والخروج إليها ومنها، تفتح فجراً وتغلق عند الغروب.

أما مدينة بيروت في ذاك الزمن كانت عبارة عن طرقات وأزقة ضيقة، وزواريب ملتوية، وأسواق متعرجة فيها محلات ودكاكين خشبية، وذلك قبل أن تتوسع وتتمد خارج سورها، مما كان يجعل ليلها الصامت تطوقه جيوش الظلام فيضل بها الغطاط، ولا يبصر فيها الوطواط.

لذلك، كان لا بد من وسيلة للتغلب على عتمة الظلام الدامسة، خصوصاً ما لم يكن القمر  بدراً منيراً. مما جعل البلدية تعتمد على قناديل “الكاز” لإنارة المدينة.

الإنارة بقناديل “الكاز”

في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كان السراج الفخاري “القنديل” هو المصباح الوحيد لإنارة الأزقة والشوارع والحارات والأسواق القدية، حيث كان يعلق على إرتفاع معين ،بعد أن يُملأ زيتاً (كاز)، وتوضع فيه فتيلة ويشعل. ثم حل مكانها “الفانوس” الذي هو  عبارة عن متوازي مستطيل من البلور (الزجاج) يُثبت في قاعدته من الداخل الكاز، وينتهي من أعلاه بحلقة تُستعمل لحمله باليد أو لتعليقه.

•وظيفة “الدومري”:

وقد إرتبطت إنارة تلك المصابيح  بمهنة “الدومري”، وهي مهنة تراثية قديمة أصبحت نسياً منسياً، وتعني “الفانوسي”، وهو الرجل الذي يشعل تلك الفوانيس، قبل أن يتحفنا “أديسون” العالم بإختراعه الأعجوبة “الكهرباء”، ويقلب الحياة رأساً على عقب.

و”الدومري” كلمة مشتقة فرنسية وهي: (d’homme à rue)، وتعني الرجل الذي في الشارع.

وهو تماماً على غرار كلمة “أبو” التي إعتدنا على إستخدامها للدلالة على سعر أو عدد معين، كأن نقول مثلاً: “هذا الغرض أبو ١٠٠ ل.ل”. وهي تحريفاً للكلمة (au bout)، أي بحدود كذا.

“دومري” لكل حي:

وكانت البلدية تخصص “دومري”  لكل حارة يتولى إشعال فوانيسهاا، حيث كان يجول بها حاملاً سلماً خشبياً تمكنه من الوصول إليها و”تنكة” كاز لملئ خزان الفوانيس لإشعالها واحدة واحدة، وذلك قبيل المغرب، ويظل حارساً لها حتى الساعات الأولى من الفجر، منعاً من العبث بها، فيطفئها أيضاً واحدة واحدة وينصرف إلى بيته ويخلد في النوم، عوضاً عن السهر الموحش طوال الليله، إذ ينطبق عليه المثل: “ليله نهار، ونهاره ليل، وكذلك المثل الآخر: “مكتوب على ورق الخيار، إللّي بيسهر بالليل، بنام بالنهار”.

مواصفات “الدوماري”:

وكان يفترض “بالدومري” أن يتمتع بمواصفات محددة لكي يتم إعتماده، فيجب أن يحظى بموافقة أعيان ووجها الحي وأهله، وأن تكون سمعته طيبة وسيرة حسنة، وكذلك أن تكون بنيته قوية وصحته متعافية، لكي يستطيع قضاء ليله سهراناً، لمراقبة القناديل مخافة أن يطفئها الهواء أو أن ينفد “كازها”،

وكان أهل الحي وتقديراً لعمله المضني يتعاطون معه بكثير من المحبة والرعاية، فهذا يعطيه “لقمة” أكل على الماشي، وذاك يقدم له قدح شاي، وآخر يقدم له كاسة مهلبية أو رز بالحليب أو حبة قطايف، لكي يسلي وحشة الظلام ويتغلب على النعاس، خصوصاً وأن يقضي ليله وحيداً من دون ونيس ولا جليس.

من هنا شاع المثل الشعبي” (ما في الدومري)، كناية عن خلو المكان من أي مخلوق، بما في ذلك “الدومري نفسه”. نذكر على سبيل الطرافة، أن كثيراً ما كان يعمد الأولاد (العفاريت) الداشرين في “الزقاق”، قبل عودتهم إلى بيوتهم، إلى إطفاء القناديل بضرب ألواح البلور بالحصى، قبل الفرار مسرعين، خشية أن ينكشف أمرهم ويتعرضوا للعقاب.

مصابيح يدوية لإنارة طريق للخارجين:

في حال إضطرت عامة الناس للخروخ بعد مغيب الشمس وحلول العتمة، فإنهم كانوا في تنقلاتهم بين الأزقة يضيئون طريقم الظلمة المعتمة بواسطة فناراً صغيراً (مصباح ورق) وفيه شمعة صغيرة.  أما الأعيان فكانوا يستعملون الفنارات الكبيرة المصنوعة من المشمع وغلافها من النحاس يحملها الخدم ويمشون أمامهم.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website