تاريخ ووصف السبيل الحميدي في بيروت

الدكتور حسان حلاق*

في عام 1900 وبمناسبة مضي خمس وعشرين سنة على تولي السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909) حكم السلطنة العثمانية، فقد أنشىء السبيل الذي عرف باسم السبيل الحميدي في المنطقة “بالسور” بالقرب من بوابة يعقوب، وفيما عرف بعد ذلك باسم “الهول” وساحة رياض الصلح.

وقد احتفل بتدشين هذا السبيل وتدفق المياه منه يوم السبت في الأول من أيلول سنة 1900م – 1318هـ. وفي اليوم ذاته توجه وفد لبناني مكون من السادة: اسكندر تويني، وأمين مصطفى أرسلان، وأسعد لحود بحمل العديد من الهدايا القيمة إلى السلطان عبد الحميد الثاني في استانبول.

هذا وقد وصفت الصحف اللبنانية والبيروتية هذا الحدث. وأشارت صحيفة “ثمرات الفنون” لصاحبها الشيخ عبد القادر قباني إلى ما يلي (باخصار من النص الأصلي في المرجع)

“كان يوم السبت يوماً مشهوداً… أخذ الأهلون يتجمعون حول دار الحكومة التي كانت مزدانة بالأعلام والرياحين.. وأخذ أرباب المناصب والرتب يؤمونها زرافات ووحدانا، حتى إذا كانت الثامنة من صباح ذلك اليوم المسعود، أقبل صاحب العطوفة والمجد، رشيد بك أفندي.. فحياه الجند بالسلام، وعزفت الموسيقى العسكرية.. فلما انتظم عقد الجمع رفع صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن أفندي النحاس نقيب السادة الأشراف أكف الضراعة والابتهال إلى المولى ذي الجلال، بأن يحفظ للخلافة الكبرى… السلطان الغازي عبد الحميد خان…”

وأضافت “ثمرات الفنون”:

“ثم شرف حضرة ملجأ الولاية الجليلة، والأركان الأمراء والأعيان مكان السبيل… وكانت البلدية نصبت بجانبه سرادقاً كبيراً، فوقف عطوفة الوالي تلقاء الأنبوب الشرقي يحيط به من ذكرنا، والكل بالملابس الرسمية، ففاه صاحب الفضيلة نقيب أفندي بخطاب مناسب للمقام، ختمه بالدعاء إلى الله تعالى بطول بقاء الجناب السلطاني معزز الشوكة، منصور اللواء، موفقاً لأمثال هذه المياني الخيرية.

وكان المصورةن خلال ذلك يأخذون صورة هذا الاحتفال الحافل، بالتصوير الشمسي، ثم صدحت الموسيقى العسكرية بالسلام الحميدي، وهتف الحضور بالدعاء: “بادشاهم جوق باشا” أي: “الله ينصر السلطان”. ثم حرك عطوفة الوالي بيمينه آلة إنزال الماء فتدفق الماء من أنابيب السبيل الثلاثة، فشرب منها عطوفته والحاضرون…”

وبهذه المناسبة السعيدة اختتن في المستشفى العثماني العسكري خمسون صبياً من أبناء الفقراء على نفقة رشيد بك أفندي… وأعطي لكل منهم كسوة كاملة من قميص ولباس وخنباز حريري وطربوش وحذاء ومنديل. وبالمناسبة ذاتها احتفل بتأسيس مخفر في الأشرفية “تعزيزاً لدعائم الأمن وتوطيداً لأركان الراحلة في تلك المحلة”.

السبيل اليوم

لقد أقامت بلدية بيروت عام 1900 هذا السبيل في الساحة المشهورة باسمه، وهي التي اتخذت قراراً في عام 1957 بتفكيكه حجراً حجراً ونقله إلى حديقة الصنائع المشهورة قرب سراي الصنائع، ومن ثم إعادة تركيبه كما كان تماماً. ولقد أقامت مكانه تمثالاً لرئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت تعرف الساحة باسم ساحة رياض الصلح، كما استمر البيارتة يطلقون عليها “ساحة السور”.

لقد توجهت منذ سنوات عديدة إلى حديقة الصنائع لإلقاء نظرة على هذا التراث المعماري وهذا النقش التذكاري، فرأيته قابعاً في وسط الحديقة بين الأشجار إلى الجهة الشرقية من الصنائع، شامخاً شموخ بيروت رغم ما أصابه من الخدوش التي يبدو أنها نتيجة الرصاص الطائش الذي نكبت فيه بيروت إبان الأزمة اللبنانية. ولا بد من القول، انني وجدت السبيل مهملاً، وقد أصابه الاهتراء والخوش والإهمال. ومن هنا أهمية القول بضرورة ترميمه والعناية به، ليعود معلماً أثرياً من معالم بيروت المحروسة، كما انني اقترح نقله مجدداً إلى باطن بيروت.

وصف السبيل الحميدي

يبلغ ارتفاع السبيل الحميدي ثمانية أمتار. يبلغ وزن الرخام الذي استعمل في تشييده مائة وخمسة عشر قنطاراً. ويرتكز هذا السبيل على دكة هندسية مصممة تصميماً فنياً رائعاً. ويتفرع من السبيل ثلاثة أعمدة قصيرة. ويعلو البركة النجمة العثمانية الخماسية. ويخلل البركة زخارف هي بمثابة دوائر هندسية متشابكة بشكل مستمر إلى نهاية إطار كل بركة. ويفصل بين البرك الثلاث ثلاثة جدران سميكة يتخللها زخارف هندسية جميلة ويعلوها أعمدة ملصقة بالجدار الأعلى للسبيل، ويتخلل هذا الجدار لفائف هندسية وزخارف فيها بعض المؤثرات المعمارية البيزنطية.

ويلاحظ الدارس للسبيل الحميدي، ظهور “الطرة” العثمانية مثبتة فوق النجمة الخماسية، وقد ظهر اسم السلطان عبد الحميد الثاني في تلك الطرة ضمن دائرة وبخط هندسي رائع.

ويلاحظ أيضاً بأنه كلما ارتفع بناء السبيل كلما انساب انسياباً هندسياً ملائماً، فيبدأ من قاعدته ضخماً ثم تتضائل ضخامته شيئاً فشيئاً عبر الأمتار الثمانية.

وللسبيل ثلاثة وجوه دائرية فوق البرك الثلاث، وعلى الوجهين الأخيرين كتابة مذهّبة باللغتين العربية والتركية بمعنى واحد. وقد ظهرت الأحرف الصخرية نافرة بخط جميل كتبها الشيخ عمر أفندي البربير ونثبت هنا النص العربي الذي استوعب ستة أسطر من أحد الوجوه، والنص هو التالي:

1- أنشىء هذا السبيل الحميدي عام ثلاثماية وثمانية عشر بعد الألف

2 – من الهجرة النبوية تذكاراً وتعظيماً لمضي خمس وعشرين سنة

3- من جلوس حضرة سيدنا ومولانا السلطان ابن السلطان

4- ابن السلطان الغازي عبد الحميد خان الثاني على عرش

5- الخلافة الإسلامية الكبرى وأيكة السلطنة العثمانية

6- العظمى وصدقة جارية تنضم لما لجلالته من عظيم الخيرات وتعميم المبرات يبقى أن نشير إلى مهندس السبيل الحميدي، فقد كان رفعتلو يوسف أفندي أفتيموس مهندس بلدية بيروت والذي كلفته البلدية بإنجازه. وقام بتركيبه المعلم اليان أبو السلو، وقام بنقشه المعلم يوسف العنيد الشامي والأخيران من أشهر صناع وتركيب الرخام.

عدسة الصديقة السيدة حكمت دكروب

________

*مؤرخ

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website