الطربوش في التراث الشعبي

زياد سامي عيتاني ـ إعلامي وباحث في التراث الشعبي

تاريخ الطربوش

الطربوش الذي هو لباس الرأس الذي كان في الماضي يرمز إلى الوجاهة والهيبة والأناقة، كان أيضاً ضرورياً لاستكمال المظهر الذكوري، كذلك إكتسب دلالة قومية في ذلك الحين في مواجهة القبعة الأوروبية، إلى أن إنتهى إستخدامه، وبقي مقتصراً في المناسبات والإحتفالات التراثية.

تباينت الروايات عن الموطن الأصلي للطربوش، فالبعض يؤكد أنه ظهر في النمسا ثم دخل تركيا في ما بعد.” وأشار الى انه “قد “أطلق عليه اسم “فيز “نسبة إلى مكان” فاس” صناعته وهي “فيينا” عاصمة النمسا وكان شكله أسطوانياً ولونه أحمر أو أبيض، ثم حُول الاسم إلى “فاس” وزعموا أنه يدل على مدينة “فاس” المغربية كي يُموه عن المسلمين منشؤه الأصلي ويرضي مشاعرهم الدينية بأنهم لا يستعملون بضائع الأوروبيين”. ويقال إنه بدأ بالظهور منذ بداية القرن الثامن عشر في تركيا نفسها. وقال مؤرخون آخرون إن النساء الألبانيات واليونانيات هن أول من لبس الطربوش ثم نقل إلى العثمانيين بسبب الاحتكاك والعمل في القصور السلطانية”.

الطربوش العثماني

انتشرت قبيل القرن التاسع عشر إبان فترة الحكم العثماني عادة وضع الطربوش الأحمر على رؤوس الرجال وهو في الأصل ابتكار عربي لغطاء الرأس، إذ ظهر الطربوش الأحمر لأول مرة في منطقة المغرب العربي، وحلت محل العمامة والحطة والعقال”، وكان كمال أتاتورك أصدر أمراً بمنع استعمال الطربوش الأحمر المعروف بقانون القيافة في عام 1926 لتحل محله القبعات الغربية.

في الأقطار العربية

الطربوش ظل مستخدماً في أقطار عربية لم يكن لذلك القانون مفعولاً فيها مثل مصر وبلاد الشام والمغرب العربي، وبقي عند كبار السن في سوريا حتى أواخر الستينيات، ولا تزال صناعة الطرابيش موجودة في مكان نشأته القديمة في بلاد المغرب العربي وبالذات في تونس”. أما استخدام الطربوش حالياً عند رجال الدين، فثمة من يضعون العمامة البيضاء أو الملونة السادة أو المنقوشة حول الطربوش”.

ولا يزال الطربوش موجوداً في نطاق ضيق ويباع في المحال التراثية حيث تستخدمه فرق الإنشاد والفرق الفلكلورية والمسلسلات الشامية التي نشطت إلى حد ما للاهتمام به وإنقاذه من الانقراض.

وكان الطربوش يميز من يشغل وظيفة رسمية عالية، فرؤساء الوزارات والوزراء وكبار الموظفين أياً كانت اعتقاداتهم اعتمدوا الطربوش زياً وحرصوا على وضعه على رؤوسهم، فوضعه على رأسه مثلاً شكري القوتلي وبشارة الخوري.

ولا يقتصر الطربوش على ذوي الوظائف الرسمية الكبيرة وحدهم، فكثيرون كانوا يعتمرون الطرابيش للدلالة على الموقع الاجتماعي وللتعبير عن أهميتهم ومكانتهم الاجتماعية. وكانت طرابيش المسؤولين داكنة قليلاً في الغالب ووازنة على الرأس لا تتحرك إلا بمقدار، والشراشيب فيها دائماً إلى الخلف”.

أحد حرس القنصلية الأمريكية في بيروت وكانت تقع مكان مبنى الجفينور اليوم.

رموز الطربوش

تغير وضع الطربوش على الرأس يؤشر إلى المزاج النفسي أو أهمية الطرف المقابل، وربما نوعية القضايا التي يجري بحثها، فالطربوش إذا كان مستقيماً وثابتاً له معنى يتوافق مع الاستقامة، وإذا كان مائلاً إلى الخلف فيدل على المزاج الرائق، ولا يخلو من الرغبة في التوجيه أو السخرية”. كما أن موقعه قابل للتغيير وإعادة النظر مرات عديدة في اليوم الواحد تبعاً للخطة ونوع الحديث والشخص المقابل.

رمز العلم والمعرفة

ارتبط لبس الطربوش بالعلم وسعة المعرفة، ونظر إليه العامة باحترام وإجلال. وهذا ما ذكره الشاعر حافظ إبرهيم حين قابله رجل أمي وأعطاه رسالة ليقرأها له، فأجابه إبراهيم بأنه لا يعرف القراءة، فقال الرجل الأمّي متعجباً: كيف وأنت ترتدي “الطربوش”، فخلع إبرهيم “الطربوش” ووضعه فوق رأس الرجل وقال له: “الطربوش” فوق رأسك تفضل إقرأ أنت”. “فالطربوش المعتاد بحاجة بين الفينة والأخرى وفي مناسبات الأعياد بخاصة”، وفقاً له “إلى كي بواسطة قوالب نحاسية منها ما يُعرف بـ “البوغلي” و”العزيزي” و”اليارم” زحاف” وغيرها على حسبك من طلب ليكوي له”.

الوجيه والمربي البيروتي حسين عبد الرحمن فروخ المتوفى سنة 1936.
تقدمة الدكتور أسامة عمر عبد الرحمن فروخ، عضو جمعية تراث بيروت.

تلميع وكوي الطربوش

كان مكوجي الطرابيش يصف تلك القوالب النحاسية المجوفة في حانوته فوق دكّة من الخشب، وتحت كل قالب ثقب في وسط الدكة ملبس من حديد لوضع النار فيه وتسخين القوالب.

 وكان الحرفي ينزع الطرة عن الطربوش ويرشه بالماء ويركبه على القالب الذي يرغبه صاحب الطربوش وفوق الطربوش يركّب قالباً ثانياً له يدان من خشب يمسكهما المكوجي ويكبس القالب الأعلى فوق القالب المركب عليه الطربوش مرات عديدة حتى إذا انتهى من الكوي يُرفع القالب الأعلى ويُركب الطرة على الطربوش ثم يمسحه ويلمعه.

أما الفقراء ومتوسطي الحال فكانوا إذا عتقت طرابيشهم يأتون إلى المكوجي لصبغها أو مسحها أو كيها فتعود وكأنها جديدة.

مكوجي الطرابيش أيام زمان

مصير الطربوش

إنقرضت صناعة الطرابيش ولم تعد موجودة بشكلها السابق، إلا ما ندر في المغرب العربي. فلم يعد يستخدم الطرابيش الآن إلاّ بعض الأشخاص، وربما رجال الدين الذي يضيفون العمامة حوله.

وبذلك تراجعت الطرابيش عندما ظهرت القبعات العسكرية واختفت تدريجاً من الحياة العربية. ولم يبق لها الأثر إلا في بعض المظاهر الإجتماعية أو بعض الفرق الدينية التي ترتديها لإحياء ليلة ذكر أو مناسبة دينية.

وهكذا مع مرور الزمن إنقرضت صناعة الطرابيش، بعدما كان الطربوش فخر لبكوات وباشاوات وأفندية وقبضايات أيام زمان الذين كانوا يعتمرونه كغطاء للرأس، وصار أبناء جيلنا يتعرفون عليه من خلال مشاهدة بعض المسلسلات التلفزيونية التي تدور رحالها في الأحياء والحارات الشعبية.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website