إتخذ الأمير منصور عساف التركماني سنة 1572م بيروت مقراً له وبنى السراي أو دار الولاية بجانب الجامع الذي شيّده وعرف بجامع السراي أو جامع الأمير عساف أو جامع دار الولاية . واتخذ الأمير فخر الدين سنة 1632 م بيروت حاضرة لولايته ، وفي السنة التالية أي سنة 1633م رفعت ضده عدة شكاوى إلى السلطان مراد ، فجرد عليه حملة إنتهت في 12/11/1634 م باستسلامه الى أمير الأسطول وسوقه الى الأستانة حيث أعدم . فلم يتيسـر لفخر الدين ما كان ينوي إتمامه من العمران في بيروت. وقد شاهد الرحالة الذين مروا في بيروت عقب سقوط فخر الدين ، كثيراً من الأبنية غير المكتملة التي كان الأمير قد بدأها. وكان آخر ما بقي منها بناء إتخذه الأمير مقراً للخيالة ( أصبح فيما بعد مركزاً لبورصة بيروت ) من طبقتين جعلت السفلى منه إسطبلاً.
يذكر ان الرحالة عبد الغني النابلسي زار بيروت مرتين ، كانت الثانية في 6 ربيع الثاني سنة 1112هـ / 20 أيلول 1700 م ونزل في سراية البلدة فوصفها بقوله ” وصلنا بيروت ونزلنا في سراية حاكم البلدة وأميرها وحافظ ثغرها . ولله من سراية رفيعة البنيان مشيدة الأركان. بها أماكن كثيرة ومياه غزيرة. وبها بركة ماء طولها 30 ذراعاً وعرضها 10 أذرع. وخارج السراية أماكن متعددة مبنية كلها بالأحجار ، وكل مكان منها مقدار هذه السراية ، وهي الآن كلها مهجورة ما عدا هذه السراية . وقد أخبرنا بأن هذه السراية عمارة الأمير عساف، والأماكن التي خارجها جميعاً عمارة الأمير فخر الدين بن معن جعل بعضها لأجل العساكر والعدد، وجعل بعضها لأجل الوحوش”.
وبعد أكثر من مائة سنة على زيارة النابلسي، مرّ ببيروت الأديب الفرنسي جيرار دو نيرفال وأصدر سنة 1844 م كتابه ” رحلة إلى الشرق ” قال فيه عن بيروت ” دخلت المدينة، وعند رجوعي بالظهيرة، مررت بسراي الحكومة عند البوابة الشمالية، فرأيت الناس كلهم نيام، فالجمّال وجمله ، والحمار وحماره ، والحمّال وحمله ، كلهم ممددون على الأرض في القيلولة ، حتى صاحب الدكان تراه نائماً في دكانه “. ووصف السراي بقوله ” وأما سراي الحكومة فهي قسم من سراي فخر الدين القديمة، وقد جعلت واجهاتها أكشاكا من زجاج كأبنية الآستانة ، وأرض السراي وغرفها كلها مرصوفة بالرخام المرمري، وأركانها الشمالية ملاصقة لبوابة المدينة ، وهناك نبع ماء تظلله شجرة جميز كبيرة “.
وعندما عين الجزار متسلماً على المدينة إتخذ من السراي مقراً له وتحصن في بيروت سنة 1772 م الى أن أخرجه الأسطول الروسي منها. وفي الثاني من نيسان سنة 1832 م دخل إبراهيم باشا إلى بيروت من باب الدركاه في موكب حاشد واتجه نحو سراي الحكومة. وعين بعد ذلك محمود نامي بك محافظاً على بيروت فجعل مقرّه في السراي وكذلك مقرّ مجلس الشورى وكان للسراي باب خاص للحريم.
يذكر أن محمود بك طلب في 13/2/1840 م من العمال الحضور إلى السراي لقبض رواتبهم المتأخرة ، فاجتمع النجارون والبناؤون ، فدفعت لهم رواتبهم وأبلغوا بأنهم تحت الحفظ بانتظار إرسالهم إلى عكا . وابتداء من 10 أيلول 1840 م بدأ الأسطول الإنكليزي يقصف المدينة بالآف القنابل، فتهدم السور والكثير من الأبنية، وأصيبت السراي بعدة قذائف فتهدمت بعـــض أجزائها .ففي رجب سنة 1256هـ/ 1840م حضر بحراً سر عسكر برية الشام ووالي صيدا بالعساكر العثمانية لأجل إخراج ابراهيم باشا من البلاد التي استولى عليها وخرج الى البر الى ثغر جونية ( من ثغور جبل كسروان بينها وبين بيروت نحو اربع ساعات ) ثم وقعت الحرب بينه وبين ابراهيم باشا الذي انهزم وولّى هارباً بعسكره الى دمشق ومنها الى المزيريب ونظم المفتي الأغر قصيدة مطلعها :
يا آل عثمان ان الارض قصياها
لله خالقها الباري وأدناها
وحيث كنتم عباداً صالحين له
ورثتموها وفيكم كان أحياها
وأثر إنسحاب إبراهيم باشا، عينت الدولة العثمانية المشير الجامع بين فضيلتي السيف والقلم محمد أسعد مخلص باشا والياً على صيدا وبيروت وطرابلس، فوصل إلى بيروت نهار الجمعة في 17 رمضان المبارك 1258 هـ /تشرين الأول 1842 م، فرحب به مفتي بيروت وقاضيها الشيخ أحمد الأغر قائلاً :
بيروتُنا الفيحاءُ دامت تَسعدُ
بين البلاد وعزّها يتأيّدُ
قدم الصفا فيها وخفّ هواؤها
كالماء حيث هناؤها يتجدّدُ
عقمت بها أتراحها ومن السرو
ر غدت بها أفراحها تتولّدُ
أعنيه من ولّاه سلطان الدنا
ومليكها عبد المجيد الأمجد
ونصب في السراي سنة 1259 هـ / 1843 م المجلس المؤقت لأجل تحقيق المسلوب والمنهوب التي سلب لأربابه في جبل لبنان أثر حوادث سنة 1840 م. وصدر الأمر في تلك السنة (1843م ) للوالي المذكور بتعمير سراي بيروت بعد الخراب الذي لحق بها ، فعمرها وأرخ الشيخ أحمد الأغر ذلك بقوله :
أنظر الى دار الإمارة أحمد
كيف إغتدت بعد الدثور تجدّدُ
لترى بأن الدار مثل بقاعها
تشقى كما تشقى الرجال وتسعدُ
والي البلاد على العباد له السداد
وكم أجاد بما أفاد السيّدُ
أعني الوزير أي المشير أي الأمير
أي الكبير هو الخطير محمّدُ
فالسرُ في السكان لا الدكان قد
قالوا قديماً ليس فيه تردُدُ
نشرت هذه الصورة في باريس في Lerebourg سنة 1839.
روى صاحب حديقة الأخبار عن مجلس الوالي أسعد مخلص باشا، أن جمهور أصحاب العرائض من الفقراء والأهالي دخل على دولته في السراي ، فأخذ يمعن النظر بتلاوة كل عرض وتحويله بحسب عادته اليومية، ويحسن بالتلطيف على صاحبه مستفسراً منه عن دعــواه ، ولم يزل على ذلك الحال حتى بلغ الدور الى رجل نحيل كالخيال ، فأخذ يئن ويحنّ ويكاد للوعته يجن ، فقال له الوالي: ماذ إعتراك وأي داهية وراك ؟ قال : ألم ألمّ فظلم ، وأنت الحاكم والحكم . فأخذ دولته يلطف مزاجه وارسله الى مجلس الصحة كي يبدأ علاجـــــــــه. وقد أوحت هذه الحادثة الى صاحب الصحيفة ببيتين هما:
مليك الكون قد ولاك حكما
لدفع الظلم عن وجه البلاد
فلم تقنع بذاك وقمت تسعى
لدفع الداء عن جسد العباد
وشهد مبنى السراي منذ سنة 1860 م بعض إجتماعات فؤاد باشا مع ممثلي الدول والتي إنتهت بإقرار نظام متصرفية جبل لبنان. كما حل فيها الوالي الشهير مدحت باشا واتخذ مها مقراً لإدارة الأمور وتسيير الأعمال .
ولما كانت الدول مثل الإنسان، تكبر وتشيخ ، كما قال إبن خلدون، وكانت الدور مثل بقاعها تشقى كما تشقى الرجال وتسعد ، كما قال أحمد الأغر ،قرر مجلس إدارة لواء بيروت سنة 1882 م ، بموافقة الوالي، إنشاء دار جديدة للحكومة وبيع السراي بالمزاد العلني ، وبيعت أخيراً للسادة سرسق وجوجس تويني بمبلغ 70050 ريالاً مجيدياً. وبعد أيام من شرائهم لمبنى السراي ، صدر قرار نفي المصريين الذين اشتركوا في أحداث عرابي باشا إلى بيروت، ففتح سرسق وتويني السراي لإسكان المنفيين المذكورين لحين تدبر أمورهم. ثم هدموها بعد ذلك وأنشأوا مكانهاعدة بنايات ودكاكين عرفت بسوق سرسق .وتمّ إختيار دير اليسوعيين القديم في ساحة البرج ( خلف مبنى دائرة الشرطة ) مقراً مؤقتاً، وكان قد إشتراه رعد وهاني وشركاهم ، رغم تذمر موظفي المحاكم من عدم ملائمة محلاتهم في المبنى المذكور .
السراي الجديدة أو السؤاي الصغير :حدد مجلس الإدارة شمالي ساحة البرج لإقامة السراي الجديدة التي عرفت فيما بعد بالسراي الصغير، رغم إعتراض البلدية التي كانت تعتبر تلك الفسحة منتزهاً للمدينة . واحتفل في حزيران 1882 م بوضع الحجرالأول في البناء ، وضرب الوالي أحمد حمدي باشا الأرض بآلة الحفر ثم وضع حجراً وذبح حملان. وقد بلغت مساحة البناء نحو ثلاثة الآف وخمسماية ذراع مربع ، منها صحن الدائرة واتساعه ستماية وخمسون ذراعاً . وتألف البناء من ثلاث طبقات، عدد غرف الطبقة السفلى سبع عشرة غرفة منها عشر لإدارة البوليس والضابطة وما تبقى سجون للموقوفين والمحكومين. وعدد غرف الطبقة الوسطى خمسة وثلاثون غرفة منها خمس عشرة غرفة للدوائر العدلية ومجالسها وعشر لدوائر الأملاك والطابو والمقاولات. وفي الطبقة الثالثة ستة وعشرون غرفة منها قاعة واسعة هي مركز المتصرف ثم دوائر لمجلس الإدارة والبلدية وأقلام المحاسبة والتحريرات . وكان عمق الأساس ستة عشر ذراعاً وقام بهندستها بشارة أفندي مهندس الولاية . وتمّ تدشينها في كانون الأول سنة 1884 م بعد أن تمّ فرش غالبية الغرف بالحرير وبالكراسي المتقنة .
وقام البناء على 130 من الركائز وبلغت مساحة السراي المربعة خمسة الآف ذراع طولها سبعون وعرضها ثلاث وستون. كشفت حفريات ساحة الشهداء التي تشاهد حالياً بعض أساسات السراية المذكورة. ومع أن الحكومة كانت قد إشترت سنة 1885 م دار جدي لتكون داراً للولاية في بيروت، فإن ناظم باشا قرر سنة 1897 م أن ينزل في السراي ، فأعدت غرف الإستقبال والمنامة فيها وبقيت هذه السراي مقراً للحكومة اللبنانية حتى هدمها سنة 1950 م.
وفي هذه السراي تلي فرمان تعيين علي باشا والياً على بيروت .وفيها تلي فرمان تعيين الشيخ مصطفى نجا مفتياً لبيروت.
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت