بعد خروج إبراهيم باشا وجيشه من بلاد الشام ، عادت السلطة العثمانية الى بيروت وركزت الإدارة فيها إدراكاً منها لأهمية هذا الثغر . ووضعت فرقة عسكرية دائمة في بيروت ثم أنشأت الثكنة العسكرية – القشلة – وبنت الخستة خانة العسكرية لزوم العساكر الشاهانية ، وباشرت بفتح سجلات ثابتة في مقر للمحكمة الشرعية بعد أن كان لكل قاض سجله الخاص يحتفظ به بعد عزله أو موته .
إلا أن الحوادث الطائفية التي حدثت في جبل لبنان سنة 1860 م أتاحت الفرصة لتدخل الدول الأوروبية فسارعت فرنسا نابوليون الثالث بإرسال ستة الآف جندي إلى لبنان وأبدت الدول الكبرى في حينه أي بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا تأييدها للحملة الفرنسية وكان ذلك تحت شعار مساعدة السلطة العثمانية على إحلال الأمن والنظام .
وكان السلطان أكثر حيطة وتقديراً لخفايا الأمور، فأرسل وزيره للشؤون الخارجية فؤاد باشا في مهمة خاصة في لبنان بهدف الحد من تأثير ودور الجنرال بوفور القائد الأعلى للحملة الفرنسية ، والعمل على تثبيت سلطة الباب العالي.وصل فؤاد باشا الى بيروت في 17 تموز 1860 م وعمل على تثبيت سلطة الباب العالي.وسار إلى دمشق فعاقب المسؤولين عن المذابح بعد تحقيق سريع ومحاكمة قصيرة ثم عاد إلى بيروت وقد ساد الهدوء .
ولن نخوض في أسباب الفتنة ودور الدول الأجنبية في تحريكها إذكائها ولا في سياسة تلك الدول لتفريق مكونات المجتمع وتقسيم البلاد ، فسوق يكون ذلك مدار بحث على حدة ، إنما نقول ان المدة التي أمضاها فؤاد باشا في بيروت والتدابير التي اتخذها لتحسين أوضاع المدينة كانت اللبنات الأولى التي بنيت عليها النجاحات والتقدم الذي عرفته المدينة .
يذكر أن والي صيدا (وبيروت ضمناً ) أحمد باشا القيصرلي ( قد يكون من بلدة قيصره الشهيرة بجبالها التي جعلت منها مركزاً للتزلج ) أصدر عدة تدابير تنظيمية سنة 1861 م لبيروت مدعوماً من فؤاد باشا . منها وجوب حمل النور على من يسير في الأسواق ليلاً ومنع لعب القمار في أماكن الاجتماعات العامة والتحذير من السب والشتم المخل بالدين والناموس ورتب فرقة خاصة لضبط المخالفات ومراقبة المقاهي والتزام أصحابها بمواعيد عملها .
وفي حضور فؤاد باشا في بيروت وولاية أحمد باشا القيصرلي صار سنة 1277هـ / 1861م تركيب التلغراف البرقي من بيروت الى دمشق فقال الشيخ حسين بيهم :
للهِ در السلكِ قد أدهشت
أفكارنا لما على الجو ساقْ
فأعجب الخلقُ بتاريخه
شبيه برقٍ أو شبيه البُراق
وأدى نجاح مهمة فؤاد باشا إلى تكريم السلطان فرقي الى وظيفة الصدر الأعظم . وتابع من جاء بعده متصرفاً على بيروت أو والياً على صيدا أو سورية في تنفيذ المشاريع العمرانية.
وقد أدرك أحمد باشا ما يلاقيه البيارتة من صعوبة في الحصول على الماء الصالح للشرب فقد كانوا يستقون من المياه النابعة في بعض أراضيهم ويشترون الماء من السقائين ويروون أراضيهم ومواشيهم من مياه الآبار وأكثرها كانت تجمع فيها مياه الأمطار. وقد عانت بيروت الأمرين من جراء تلوث المياه وما نتج عنها من أوبئة وطواعين. ورأى أحمد باشا وجوب جرّ مياه نهر الكلب الى بيروت فأصدر في أيلول 1861 م إعلاناً جاء فيه انه ” بناء على نية الحكومة جلب جانب من ماء نهر الكلب الى بيروت وتقسيمه الى مواسير للمحلات التي يرغب أهلها إيصال الماء إليها على أن يجلب بقناة ويوزع على أحياء بيروت ، ويعمل في كل حيّ قائم تتوزع منه على البيوت قصبات من الماء بقدر مطلوب صاحب البيت وعمل ثمن كل ماسورة أي قصبة منه خمسة الآف غرش “. ويتابع الإعلان بأنه ” صار مكتوباً (أي مسجلاً ) منه ما يقارب 300 ماسورة قيدوا اسمهم في مجلس الإيالة الكبير…” يذكر أن مشروع جرّ مياه نهر الكلب الى بيروت لم ينفذ إلا سنة 1875 م حين احتفل بوصول الماء إلى الأشرفية باحتفال كبير برئاسة الوالي أحمد حمدي باشا والي سورية وحضور الأمير عبد القادر الجزائري .
سبيل ماء في بيروت سنة 1860 للرسام الفرنسي Émile Vernet-Lecomte المولود سنة 1821 في باريس والمتوفى فيها سنة 1900.
وكان قد ظهر مرض الكوليرا في بيروت فقرر الوالي أحمد باشا القيصرلي زيادة كمية المياه الصالحة للاستعمال وإيجاد الوسائط بذلك فأمر بحفر بئرين بقرب بئر رأس النبع الذي كانت تأتي منه مياه البلدة ووصلهما به بخندق (ظهرت بعض آثار تمديدات الأنابيب أثناء الحفريات التي جرت مؤخراً في شارع بشارة الخوري إلى الغرب من جامع الخليفة عثمان ذي النورين رضي الله عنه ).
وبالنظر لاحتباس المطر صدر أمر الوالي احمد باشا المذكور وبحضور فؤاد باشا ناظر الخارجية بخروج الأهالي من مختلف الملل من أجل إقامة صلاة الاستسقاء التي جرت في سهلة الطوبخانة ( وذكرنا تفاصيل الحدث في مقال سابق).
وتأكيداً لسياسة الدولة بالمساواة بين الرعايا وتحقيقاً لقناعة البيارتة في الوحدة الوطنية والعيش المشترك والاعتدال ( القديم المتجذر وليس وليد اليوم ) الذي تجلى في انتفاء أية فتنة طائفية او مذهبية او مناطقية في بيروت وقيام البيارتة في استقبال المهاجرين من البوسنة والهرسك وكريت والقرم وكذلك النازحين الهاربين إليها من فتنة الجبل وتقديم المساعدة اللازمة لهم من سكن وغذاء ورعاية. وكان في مقدم البيارتة الشيخان محمد الحوت وعبد الله خالد والسيدان عبد الله بيهم ومحمد البربير. وأنشأوا دار الشفقة ( في الكرنتينا) لمعالجة المرضى منهم والتي كانت بإشراف مفتي المدينة الشيخ محمد المفتي الطرابلسي الأشرفي .
وتأكيداً لتلك السياسة وتلك الرغبة ، اتخذ الوالي أحمد باشا قرارات مهمة وتاريخية كانت الأولى من نوعها في بيروت ان لم يكن في غيرها من الولايات. ففي 18 شوال سنة 1278 هـ / نيسان 1862 م وبناء لطلب الوالي بدأ وضع أنفار من المسيحيين في صف الضبطية. واتبعه الوالي في الشهر نفسه بقرار آخر جاء فيه ” لما كانت العادة في بيروت أن ينصبوا في فسحة خارج البلدة ( هي فسحة أو ساحة عصّور / رياض الصلح حالياً ) قلابات ومراجيح لتسلية الأولاد في أعياد المسلمين … صدر أمر صاحب الدولة أحمد باشا والي إيالة صيدا بنصب المواد المذكورة في عيد المسيحيين أيضاً لتنزه أولادهم ” ويضيف الخبر بأن الأمر المذكور نفذ في أيام عبد الفصح وأن ابتهاج أولاد المسيحيين كان عظيماً حيثما فرحوا ولعبوا وتنزهوا داعين للوالي.
والجدير بالذكر انه تقرر سنة 1861م في ولاية احمد باشا المذكور إنشاء مدرسة رشدية عسكرية صار تحقيها فيما بعد .
المدرسة الرشدية العسكرية في صورة من الأرشيف العثماني
وأُثر عن أحمد باشا أنه لم يتخذ من السراية برجاً عاجياً ينعزل فيه عن مشاكل الناس وطوارىء البلدة ، بل كان يشارك فعلياً في المساعدة على اتخاذ ما يلزم من إجراءات فسيد القوم خادمهم. ففي شهر رمضان 1279 هـ / شباط 1863 م كانت الباخرة جوردن (الأردن) حاملة حجاجاً لزيارة الأراضي المقدسة في فلسطين وقادمة من الأستانة وكان الطقس عاصفاً والبحر هائجاً فقذفتها الأمواج على جنبها خلف قلعة بيروت تحت مقبرة الخارجة. ووصل الخبر الى الوالي فاهتم بالأمر وعمم الأمر بإنقاذ البحرية والركاب وبإحضارهم إلى حمام السراي وقاية من البرد. شحطت الباخرة ( ترون) الإنكليزية على سلسلة الصخور إزاء الكرنتينا كما شحطت الباخرة الإيطالية كورير ديسبرو على الرميلة وشحطت سكونيات في ميناء الحسن وأمام الجمرك وكذلك في الغناس قرب الكرنتينا (نقل بعض الكتاب محلة الغناس من الكرنتينا ووضعوها في الرملة البيضاء). إلا أن أحداً لم يتمكن من الوصول الى الباخرة ترون فاستجلب الوالي مدفعاً من القشلة الهمايونية مع بعض الأنفار وأنار المشاعل لإعطاء النور وأمر بإطلاق المدفع على السفينة مدكوكاً بخشبة ربط فيها حبل قاصداً إيصاله الى السفينة فتتعلق به البحرية ويصعدون الى البرّ. وكرروا ذلك مراراً دون طائل. ثم أحضروا سهاماً نارية ربط الحبل فيها وأطلقت على المركب فلم تصبه. ولما ضاقت الحيل رتب الوالي خفراً عسكرياً وأمر بدوام إنارة المشاعل حتى يمكن ركوب البحر بالفلائك. وقد تكسرت في حينه ثلاث سفن لمحمد الفلاح وعبد الله السمين ومحمد عكرة.
واستغل أحمد باشا بدء شهر رمضان سنة 1279هـ / 1863 م فأرسل كتاباً الى قاضي المدينة بقصد تعميمه في ابتداء رمضان المبارك قال فيه ” يجب بناء على حلول شهر الصيام المقرون بالمغفرة ، على كافة المسلمين أداء صلوات الأوقات الخمسة في الجوامع الشريفة مع الجماعة وغاية تحاشي الحالات المغايرة للآداب الإسلامية وعدم التصدي للنزاع المتنوع والإصرار بموجب الشعائر الإسلامية على الإطاعة والعبادة التي هي من فرائض كافة الموحدين. وهكذا من يتجلد بالصبر والتحمل يفوز بالقبول عند الله وبالرغبة عند الناس بهذه الصفة الممدوحة. ومن يخالف هذه الحركة ويجري المعاملات الباردة سواء كان بحق أهل الإسلام أو المسيحيين تجبر الحكومة على تربيته اللازمة بالحال. وبناء عليه يجب على الجميع التخلق بالأخلاق الحميدة والعبادة في هذا الشهر الشريف وتجنب تفوهات القال والقيل غير المرضية. وقد سطرنا هذا الإعلان وسيرناه الى طرف فضيلتكم من ديوان مشيرية إيالة صيدا لتجروا التنبيهات المؤثرة على الجميع “.
وقد نقل أحمد باشا سنة 1863م الى ازمير وجاء محله قبولي أفندي والياً على صيدا .
يذكر أن الشيخ قاسم أبو الحسن الكستي امتدح أحمد باشا والي إيالة صيدا بقصيدة قال فيها :
حمدت مآثره كما حُمد اسمه
فالحمد نهلاً حازه ومحللا
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت