نهار الاثنين التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1260 هـ / 1844 م قدم الوزير المشير محمد نامق باشا سرّ عساكر برية الشام من الأستانة الى بيروت ، فمدحه مفتيها القاضي أحمد الأغر بقصيدة مطلعها :
برّية الشام بُشراها بها رافق
رب الأنام الرحيم المانح الرازق
وقد تجلى عليها بالرضى فغدت
سماء أرضِ الدُّنا منظورة الخالق
وحلّها الأنس حيث الفرحُ عمّها
والعدل ظلّلها في وقتها الرايق
وبالهنا والصفا والعزّ نمّقها
إذ حلّ فيها عليُّ الهمّةِ النامق
هو المشير أمير الجند قائده
محمد سيف دين الناصر الحالق
من قد أتى فاتحاً للخير حيث غدا
الخبير في سدّ باب الشرّ والفالق
فرمحه جامع الاكباد يوم وغى
وسيفه بين اوداج العدا فارق
بالحق معتضد بالحيّ معتصم
بالله منتصر بربه واثق
ولكن طرقات البلدة لم تمكن الناس حينئذ من إظهار الأنس والفرح المشار إليهما. فالوالي المذكور لما قدم بيروت ليتولاها ويستلم مأموريته جاء بعربة فلم تتجاوز في سيرها ساحة البرج من باب يعقوب ( السور) وتعذر عليها السير واعتاص السبيل وتوعر المسلك إذ كان عرض بعض الطرق نصف متر والعريضة متراً واحداً. وكانت الأوحال تبتلع قصير القامة شتاءً وتغمره الرمال صيفاً. أما الطويل فإن سلم رأسه من وخز الصبيّر ، لا يسلم من أغصان الأشجار .
ونشير الى ان طرقات بعض المحلات السكنية كانت ضيقة جداً وعبارة عن أزقة ، ومن الذكريات العائلية ان جدة والدي لأبيه الحاجة صفية عندما كانت تقصد مقام الإمام الأوزاعي صيفاً لقضاء بعض الأيام في جواره ، كانت تضطر الى نقل أمتعتها الى باب زقاق محلة الشيخ رسلان ( خلف البلدية ) حيث ينتظر الجمل الذي سيحملها والذي لم يكن باستطاعته الدخول في الزقاق الى البيت .
يذكر أن أول طريق مدت على النمط الجديد خارج السور كانت طريق الشام من ساحة البرج حتى غاية الصنوبر ، ثم مدت طريق من خان أنطون بك الى البرج . وقد نالت شركة فرنسية امتياز طريق الشام سنة 1857م برئاسة الكونت دو برتوي . واستمر العمل في الطريق من سنة 1859م الى سنة 1863م بإشراف المهندس الفرنسي ديمان الذي أشرف ايضاً على خمس طرق اخرى للعربات . وقد بلغ طول طريق بيروت دمشق 112 كيلومتر وعرضه سبعة امتار . وكانت تقطعه عربات الديليجانس في ثلاث عشرة ساعة . وهي عربات مدهونة باللون الأصفر تجر العربة ستة خيول وتسير مرتين في الاسبوع ليلاً ونهاراً وأطلق الاهالي على العربات لفظة بوسطة لأنها كانت تنقل البريد الرسمي . يذكر ان فكرة إنشاء طريق بيروت دمشق طرحت عندما كان محتلاً بلاد الشام من قبل احد مستشاري ابراهيم باشا الفرنسيين على قائد الجيش سليمان باشا الفرنساوي ورأى فائدة فتح الطريق المشار اليها. وقد حققت الشركة الفرنسية ارباحاً قدرت بخمسمائة الف فرنك سنوياً وذلك حتى سنة 1892م عندما حلت الشركة واستلمت الحكومة الطريق .
وعندما جاء مدحت باشا والياً على سورية سنة 1879 م قدم بيروت وعلم أن محلة رأس بيروت طيبة الهواء ، واسعة المجال محروقة من طريق تمرّ بها العربات وباقية على طرقها القديمة . فأوعز الى البلدية التي كانت في حينه برئاسة إبراهيم فخري بك ابن محمود نامي بك ، بفتح طريق من المستشفى البروسي ( الألماني قرب الجامعة الأميركية ) الى المنارة عرضه عشرون ذراعاً وابتاع أرضاً هناك ترغيباً لترقّي أراضي المحلة .
المستشفى البروسي حوالي 1915 من تلوين الباحث نضال شومان عضو جمعية تراث بيروت.
ومن الطرق القديمة خارج السور ، طريق كان يمرّ من القشلة الهمايونية ( السراي الكبيـر فيما بعد) الى الكنيسة الإنجيلية – الأميركان – فالمدرسة الإنكليزية السورية ( مدرسة مسز موط – زقاق البلاط ) وينعطف من هناك الى دير مار الياس بالطينة. وكانت تسير عليه المركبات والخيول وزوّار مقام الإمام الأوزاعي ومار الياس وأهالي منطقتي المصيطبة والزيدانية .
ولما جاء عبد الخالق نصوحي بك متصرفاً على بيروت سنة 1886 م رأى ضرورة تحسين طرقات المدينة ، فشرع من الطريق الممتد من البحر حذاء خان انطون بك الى محلة ميناء الحسن فرأس بيروت فالفنار ( المنارة ) وصولاً الى محلة شوران . كما شرع بفتح الطريق التي تمر من أمام الجامعة الأميركية الى قرب الفنار. ثم أوصلت تلك الطريق التي تمرّ بساحل البحر بفتح طريق الى جهة بيت قريطم وبيت طبارة الواقعين في أعالي شوران ( محلة قريطم اليوم). فلما عاد نصوحي بك والياً على بيروت سنة 1894 م رأى فتح طرق أخرى . منها واحدة مارة بمحلة الرمل من القنطاري غرباً حتى خندق اللبان – الحمراء – ومنه الى المنارة. والثانية من مدرسة الإنكليز الى جبّ النخل ( محلة قريطم ) فشوران . والثالثة من المدرسة المذكورة الى محلة المصيطبة . وقد ارسل نصوحي بك سنة 1212هـ برقية الى الصدر الأعظم يبلغه فيها قراره بفتح طرقات بالمدينة ولا سيما في محلة رأس بيروت .
طريق قديمة بين شجيرات الصبار في منطقة رأس بيروت
وبالنظر لتزايد العمران خارج السور ، أحيطت البلدة القديمة بطريق ( شوسه ) يستطيع الإنسان التجول فيها ماشياً على الأقدام بمدة نصف ساعة من جهة الميناء غرباً ، فيذهب الى ساحة القمح فباب ادريس فالثكنة العسكرية ( القشله ) فساحة البرج فالحديقة الحميدية حتى دار الحكومـة – السراي الصغير – فباب الدباغة فالميناء .
نشير الى أن محيي الدين حمادة أثناء توليه رئاسة مجلس بلدية بيروت سنة 1882 م أدخل تحسينات مهمة على طرق البلدة ولا سيما الطرق المتصلة بساحة برج الكشاف. فقد شرع بتوسيعها وجعل ممّر الدواب في وسطها وممرّ الناس في جانبيها ومدّ بها خطين من البلاط فاصلين بين الممرين بحيث لا يتخطى أحد النوعين طريقه . كما باشر بالطريق بين رأس بيروت ومحلة خليج الزيتونة – قبل ان تهجنّ وتصبح زيتونة باي – وحسّن طريق باب ادريس حتى صارت تمرّ بها العجلات بسهولة للوصول الى المرفأ .
وكانت طريق الفشخة أهم طرقات البلدة الداخلية وسوف نتناولها في مقال خاص .
وكان يتمّ رصّ الطرقات بواسطة محدلة تجرها الثيران حتى سنة 1899 م عندما جلبت البلدية محدلة على البخار. ومن الملفت الإشارة الى أنه تقرر أيام رئاسة فخري بك للمجلس البلدي سنــة 1879 م ترقيم الشوارع للبريد ووضع لوحات بأسماء الشوارع في أول كل شارع وآخره ولكن حالت الموانع دون إتمام ذلك حتى سنة 1910 م .
في السنة التالية لبدء توسيع شارع الفشخة ، تقرر فتح طريق الدباغة من باب السراي – سوق سرسق – الى ساحة المرفأ مروراً بسوق الخمامير (شارع فوش ) حتى القلعة القديمة . وذلك على نفقة مشتركة من البلدية وشركة المرفــأ . وافتتح في ايلول سنة 1901 م طريق النورية – شارع البورصة فيما بعد – وفي السنة نفسها قرر الوالي فتح الطريق من جامع المصيطبة الى حرج الصنوبر فجوار مقام الأوزاعي الى برج البراجنة ليتصل بطريق صيدا الذي كان بوشر بفتحه تلك السنة . وبوشر سنة 1903 م برصف الطرق المحيطة بالحديقة الحميدية والسراي الصغير وسهلة البرج وباب ادريس حتى خان انطون بك. ومد خطوط السكة من المحطة الاولى الى الرصيف امام الجمرك.
جامع المصيطبة حوالي 1870
يذكر ان السيول غالباً ما كانت تطغى ، فتروج سوق الحمالين وتصل اجرة نقل العابرين الى عشرين بارة . وقد علت مياه الأمطار خمسة وسبعين سنتيمتراً داخل كنيسة الروم الأرثوذكس وجرفت المياه من مصفاة طريق الفشخة عبد القادر ابن الشيخ ناصر الى البحر.
واتخذت البلدية في حينه عدة تدابير لتنظيم السير في الطرقات ، منها ان لا يسوق رجل واحد أكثر من ثلاث حمير لنقل الحجارة من المقالع الى الورش ، وان لا يسير بها راكضاً ، كما منع من لا يكون مربوطاً بكفالة من صاحب الحمير عن سوقها.
وتقرر رش الطرقات بالماء مرتين صباحاً ومساء ، خاصة الطريق من ساحة القمح حتى الحرج ، ثم اقتصر الرش على مرة واحدة وشمل طرقات أخرى مثل طريق النهر والباشورة والمصيطبة ورأس بيروت. واتفق فخري بك رئيس البلدية ومسيو نكسن رئيس شركة الماء على رش خمسة عشر الف متر طولا بعرض خمسة امتار، بسعر خمسة عشر بارة للمتر المربع سنوياً ، وطلب من الاسكندرية عجلة للرش . ولما وصلت العجلة ، عسر جرها لثقلها ، فتقرر صنع عربات على طرازها من الخشب ، والتزم عبد الله محرم الرش المذكور . وأنيرت طرقات البلدة بالغاز سنة 1888م .
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت