نشأت الحاجة بعد بناء القشلة العسكرية إلى مستشفى للعساكر. ويبدو من الوثائق الشرعية أن هذا المستشفى أنشىء مباشرة عقب إنشاء الثكنة . فالوثيقة المؤرخة في 17 جمادى سنة 1266 هـ / كانون الأول 1850 م متعلقة بتحرير تركة ” صادق نفر عسكري باش بزق قبسيس المتوفى في خستخانة بيروت ” وخستة خانة من الكلمتين خسته وتعني مريض أو مرض وخانة وتعني دار أو مكان . وأطلق على مستشفى بيروت إسم “خستخانة بيروت الشاهانية ” وكانت العامة إلى وقت قريب تسمي المستشفى خستخانة أو أستخانة وتقول عن المريض انه مخستك .
وقد ضمّ المستشفى العسكري أمهر الأطباء في الدولة العثمانية ، كإبراهيم أفندي طبيب العساكر الشاهانية الذي اشتهر في بيروت منذ سنة 1859 م في معالجة أمراض المسالك البولية وتفتيت الحصى. وذاعت منذ سنة 1886 م شهرة محمد خيري بك إبن رفعت باشا الطبيب الأول في الخستخانة، وإبراهيم حقي بن علي يمني طبيب العيون فيها ، وصالح أفندي إبن علي يوسف الروسلي جراح باشي ( أي رئيس الجراحين ) ، وكان مدير المستشفى حسين أكاه بن محمد الإسلامبولي القول أغاسي وإمامها الشيخ عبد الهادي إبن الشيخ عبد المنعم النصولي .
في نزاع حصل في أحد قواويش الثكنة العسكري وأدى إلى إصابة أحد الأنفار في عينه إصابة بالغة ، جرى الكشف عليها ممن وصفتهم الوثيقة الشرعية في حينه ” بحذاق أطباء المسلمين محمد خيري بك وإبراهيم حقي … “
وعمّت الوافدة وأبو الركب بيروت سنة 1889 م ، فرأس خيري بك سر طبيب المستشفى العسكري لجنة لفحص طلاب المدارس ضمت طبيب الكرنتينا وطبيب البلدة والطبيبيـــــــن أديب قدورة وسليم الجلخ وعضوين من مجلس المعارف. وفي سنة 1892 م قامت إدارة المستشفى العسكري بخطة إنسانية رائدة ، فأعدت في الجهة الغربية من مبنى المستشفى دائرة خصصت لمعالجة المرضى المحتاجين والفقراء والغرباء فكان كل من يردها بمعرفة أطباء المستشفى ، يعطى الوصفة مجاناً وذلك يومياً من الصباح إلى المساء .
وقد جرت سنة 1881 م محاولة لم تنجح ، لنقل المستشفى العسكري ، وكان ذلك بمناسبة طرح السراي القديمة للبيع ، فكان في تصور والي سورية في حينه نقل دوائر الحكومة وإدارة التلغراف إلى مبنى المستشفى وبناء محل للمستشفى في رأس بيروت لحسن هواء هذه المنطقة على أن يبنى من ثمن مبيع السراي .
وضمّ بناء المستشفى العسكري صيدلية كان حسين أفندي إبن سليمان إبن الشيخ محمد – من كليبولي – باش أجزائي فيها سنة 1298 هـ. كما ضمّ المبنى حماماً أعدته إدارة المستشفى للأجرة بعد أن جددته وأصلحته ، وأعدت للأجرة أيضاُ المخازن الواقعة تحت المبنى . وكانت المستشفى بإدارة توفيق أفندي حتى سنة 1328هـ . وقد قدمت الخسته خانة العسكرية خدمات طبية جلّى سواء للعساكر ام للمدنيين البيارتة وسجل اطباؤها انجازات طبية هامة . ففي نيسان 1858م قام ابراهيم افندي سر هزار الطبيب الاول في دار شفاء العساكر الشاهانية باستخراج حجر من مثانة ولد ي يدعى فارس عقل من نواحي البترون بلغ وزنها نحو اربعين درهماَ . وكانت غريبة في تركيبها وشكلها فقد بدت على شكل الكمثرى الطويلة . وذكر ان العملية استغرقت دقيقتين لا غير وقد سمح للمريض بأن يمشي على قدميه بعد ساعتين .
وكان لإبراهيم بك الطبيب المذكور مساهمة في علاج الحمى المتقطعة المعروفة عند العامة بالبردية التي شاعت في بيروت في خريف سنة 1859م . وهذه الحمى تعرف بأدوارها الثلاثة المتقطعة : البرد والحرارة والعرق. وكانت تعالج بشرب المعرقات وبملح الكينا فقام الطبيب المذكور بشفاء عدد كبير من المرضى بشرب القهوة مع عصير الليمون الحامض بمعدل ثلاثة فناجين يومياَ.
وكان الطبيب المشار اليه قد اعلن سنة 1868م ” ان صناعة الطب الآن يتاجر بها كثير من المدعين … الذين غدوا يتاجرون بها وصار يصعب على المريض دفع ما يستحقه الطبيب ” وأضاف ” لما كان من الواجب على الطبيب إجابة طلب المريض فانه اذا دعي الى مريض فلن يذهب قبل دفع ما يتوجب ما لم يكن المريض فقيراُ” . وكانت لإبراهيم بك عدة مؤلفات منها واحد بعنوان ” مصباح الساري ونزهة القاري “.
واستفادت بيروت من خبرة ومهارة اطباء المستشفى العسكري. ففي سنة 1901م كان الطبيب الجراح ” رفعتلو منير بك ” يعاين الفقراء في صيدلية الهلال لصاحبها سليم فاخوري اول صيدلي في بيروت والمتخرج سنة 1890م من اسطنبول. كما كان الدكتور عبد القادر سليم بك المتخصص بتطبيب امراض العين والأذن والحنجرة ( قبل ان يختص كل الطبيب بعضو منها على حدة ) في المستشفى العسكري يعاين الفقراء مجاناً في الصيدلية المذكورة. وكان الدكتور عثمان بك طبيب العيون سنة 1911م في المستشفى العسكري يعاين امراض العين في صيدلية اسطنبول قرب سراي الحكومة وذلك يومياً ويعاين الفقراء مجاناً يومين في الاسبوع . وكان المستشفى العسكري يستقبل المرضى من المدنيين من اقرباء العسكريين . ففي ربيع الاول سنة 1304هـ/1887م توفي في المستشفى طاهر بك بن عبد الله اليوزباشي معلم اللغة الفرنسية في رشدية الآستانة وحررت تركته بحضور مدير ” الخسته خانة حسين آكاه القول اغاسي وصالح افندي جراح باشي ( رئيس الجراحين ) في الخسته خانة والشيخ عبد الهادي النصولي إمام الخسته خانة “.
يذكر انه حصل في ربيع الثاني سنة 1305هـ/1888م نزاع بين عساكر في القشلة الهمايونية نتج منها ضرب احد العساكر في عينه فجرى الكشف عليه من ” حذاق اطباء المسلمين محمد خيري بك ابن محمد رفعت باشا الطبيب الاول في خسته خانة بيروت الشاهانية وإبراهيم حقي افندي ابن علي يمني بك الطبيب في الخسته خامنة ..”
وتجدر الإشارة الى انه في أيلول سنة 1911م توفي توفيق بك مدير المستشفى العسكري في بيروت فقامت زوجته الحاجة جميلة قابلة البلدية بإذاعة ورقة بسيطة تنعيه بها الى اصدقائه وذويه ومحبيه رغبة بإعلامهم بوفاته وبوقت دفنه. وكانت هذه اول نعوة صدرت من هذا القبيل في بيروت ثم سار العمل بها الى يومنا.
يذكر ان بناء المستشفى مشابه لبناء القشلة وهو طراز طبق في مختلف المدن أيام الحكم العثماني . وهو عبارة عن مبنى من طابقين عادة مستطيل الشكل ضمنه في وسطه فسحة سماوية . تدخل الشمس الى غرف الضلع الطويل الشرقي قبل الظهر وتدخل بعد الظهر الى غرف الضلع الغربي . ويلاحظ هذا الطراز في المدرسة السلطانية أي المبنى التي شغلته كلية المقاصد الخيرية الاسلامية للبنات في محلة قبر الوالي. وفي الكلية العسكرية التي تعرف بمدرسة حوض الولاية.
وبعد سقوط الدولة العثمانية وتحول القشلة الهمايونية إلى السراي الكبير كمقرّ للمفوض السامي الفرنسي، تحول مبنى الخستخانة إلى قصر للعدل ، شهدت قاعاته أشهر المحاكمات والمرافعات في تاريخ لبنان الحديث. وشهدت ساحته الداخلية دردشات اشهر المحامين ولا سيما السياسيين منهم كما سنذكر ذلك في محله . وقد ادركت العمل في هذا المبنى كمساعد قضائي سنة 1963م قبل نقل المحاكم الى قصر العدل الحالي في منطقة المتحف (كرم رحال ).
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت