كيف ضاعت الأوقاف الذرية؟ وقف بني عزّ الدين أنموذجاً

قهوة الحمراء عز الدين
عبد اللطيف فاخوري*

أراد الجاحظ أن يبدي رأيه في علاقة القضاة بالأوقاف فذكر على لسان خالد بن يزيد وصية هذا الأخير لابنه وفيها «احتال الآباء في حبس أموالهم على أولادهم بالوقف، فاحتالت القضاة على أولادهم بالاستبحاث، ما أسرعهم الى إطلاق الحجر والى إيناس الرشد إذا أرادوا الشراء منهم. وأبطأهم عنهم إذا أرادوا أن تكون أموالهم جائزة لصنائعهم». أما الأوقاف الذرية فقد تذّرعت السلطة بكثرة المستحقين وضآلة الريع لتقرّ قانون تصفية الأوقاف الذرية التي لم يعد أحد يلجأ إليها مع ان جزءاً من مصارفها كان يعود الى جهة برّ. وجرى التعامل في تأجير الأوقاف الذرية بالطريقة عينها لتأجير أوقاف الجوامع.

في ذكريات الشيخ عبد القادر قباني أن نعيم أفندي محاسبة جي أوقاف بيروت المقرّب من أبي الهدى الصيادي سعى سنة 1845م لضبط أوقاف المساجد، فأخذ من نظارة الأوقاف وثائقها واستولى على بعضها وباعها من الناس. وتأكيداً لذلك وجدنا في صحيفة «حديقة الأخبار» إعلاناً نشر في نيسان 1863م ببيع بعض الأملاك الأميرية فكان منها: قطعة أرض بجوار قهوة نعيم أفندي وقطعة أخرى باتصال قهوة نعيم أفندي يحدّها غرباً القهوة المذكورة مع البحر وشرقاً الجبانة (مقبرة السنطية). وقد عرفت قهوة نعيم أفندي فيما بعد بقهوة لوقا على اسم مستأجرها لوقا جورج. وبعد وفاة نعيم أفندي أعلنت زوجته في تموز 1900م عن «مزايدة لبيع ستة قراريط من القهوة مع كافة تقسيماتها ومنتفعاتها المعروفة بقهوة نعيم أفندي والكائنة قرب السنطية (المقبرة) وان من له رغبة بالشراء فليراجع مدير مطبعة ولاية بيروت».

وفي سنة 1313هـ/ 1894م توفيت زوجة نعيم أفندي المدعوة طيبة بنت حافظ حسن بن عبد الله الكليبولي فوضع أمين عالي بك الدفتردار في بيروت ووكيل بيت المال يده على ثلاثة أرباع القهوة المذكورة (18 قيراطاً) فتقدّم عبد القادر مصطفى سعد الدين الدنا سنة 1322هـ/ 1904م بوكالته عن الشيخ محمد أبي الهدى الصيادي الرفاعي الشهير بموجب وكالة عن هذا الأخير من مدير جمرك بيروت في حينه مصطفى ابن أحمد ابن الشيخ مصطفى الرفاعي، بدعوى ضد الدفتر دار المشار إليه ومأمور الدفتر الخاقاني في بيروت (السجل العقاري) محرم بك ابن علي بك ابن عمر بك، ادّعى فيها بأن زوجة نعيم أفندي كانت قد أوصت قبل وفاتها بجميع مالها من عقار ومنقول ونقود الى الشيخ أبي الهدى، ومن ضمنها ثلاثة أرباع القهوة وبدلات إيجارها المتجمعة من لوقا جورج والبالغة 69473 قرشاً وقد أثبت المدعي الوصية، فحكم بتسليم الأموال الى أبي الهدى.

ويبدو ان أرض القهوة المذكورة كانت من ضمن الأوقاف التي استولى عليها نعيم أفندي تخصّ أسرة عز الدين البيروتيــة، ولم يكن باستطاعتهم تخليصها ممن استولى عليها. وقد افتقروا بسبب ذلك وساءت أحوالهم حتى أصبحوا مضرب المثل وقيل في حقهم: يي (أي ويلي) عليكم يا بيت عز الدين.

وبعد سقوط السلطان عبد الحميد ووفاة أبي الهدى سنة 1909م طالبت جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت باستلام قهوة نعيم أفندي باعتبار ان أرضها وقف أصلاً. فتقدّم آل عز الدين سنة 1910م بدعوى تملّك القهوة وأرسل أحدهم الحاج راشد عز الدين رسالة الى نائب الشرع الشريف في بيروت (القاضي) يطلب منه إنهاء دعواه في القهوة المذكورة لأنها ملك بني عز الدين «لأنه أثبت حقه في تملّك هذه القهوة التي كان قد اختلسها أبو الهدى بحجج شرعية لا تقبل النقض». وقد رفعت هذه الدعوى الى المشيخة الإسلامية مع كافة أوراق المعاملة المتعلقة بها ثم عاد بعد حين العرضحال وحده وبقيت تلك الأوراق في دار المشيخة». وأفاد الحاج راشد بأنه كان كلما راجع النائب (القاضي) يماطله ويعلله مع ان حقوق عائلته في الملك المذكور ثابتة لا تحتاج الى هذه المماطلة. وطلبت الصحف من القاضي «أن يهتم في إنجازها إسعافاً لذلك المعوز إذ ليس من الإنصاف عدم الاكتراث لمطالب أمثال هذا الفقير…» وقد آلت القهوة موضوع النزاع الى جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وعرفت بقهوة الحمراء وتهدّمت أثناء الحرب اللبنانية وجرفت مع رفات مقبرة السنطية في ما سمّي بإعادة إعمار وسط بيروت؟؟

ما جرى للأوقاف الذرية

نشير الى بعض عقود الاجارة الطويلة التي جرت على بعض الوقفيات الذرية لنتساءل عن مصير تلك الوقفيات بعد مرور تسعين سنة على انعقاد الاجارة علما بان من حق المستأجر في هكذا أوقاف أن يزرع ويبني في أرض العقار الموقوف ما يشاء، وبأن ما يحدثه ويبنيه يكون بتملّكه يتصرف به تصرف المالك بملكه ومن بعده لأولاده وذريتهم.

ففي 20 شعبان 1280هـ أجّر سعد الدين ابن مصطفى آغا القباني المتولي على وقف أبيه، من سعد بن عبدالفتاح آغا حمادة قطعة أرض من بستان الوقف في عين الباشورة مساحتها 72 ذراعاً وثلاثة أرباع على مدة تسعين سنة بثلاثين عقداً متضايفة كلما انقضى عقد استؤنف الآخر ببدل عن جميع المدة 1250 قرشاً عن كل سنة 13 قرشاً و35 بارة ونصف مقبوض جميع الأجرة بيد المتولي، كما أجّر المتولي نفسه للمستأجر ذاته في 10 صفر 1281هـ قطعة في البستان المذكور مساحتها 1269 ذراعاً على مدة تسعين سنة بثلاثين عقداً متضايفة ببدل عن جميع المدة /30792/ غرشاً عن كل سنة 342 غرشاً و5 بارات وثلث منها /25392/ غرشاً معجلة مقبوضة والباقي 5400 غرش منجمة على مدة الإجارة كل سنة 60 غرشاً.

وفي آخر شعبان 1279هـ أجّر الحاج عبد الرزاق والحاج عبد الرحمن ولدا الشيخ طالب اللاذقي المتوليان على وقف جدهما الأعلى هبة الله اللاذقي إلى محمود وعلي وسعيد وأحمد أولاد الشيخ مصطفى اللاذقي، المربع والعليّة فوقه ضمن دار بني اللاذقي في محلة كنيسة الروم داخل المدينة، والمربع المحدود شرقاً في جنينة الكنيسة ونصف أيوان الدار وفسحتها ومطبخاً ومرتفقها وبركتها ودهليزها وأودة فيها ودكان ملاصقة لباب الدار ورؤوس جذور المربعين والإيوان والعليّة والأودة التي في الدهليز على مدة تسعين سنة بثلاثين عقداً متضايفة كل عقد ثلاث سنين ببدل قدره 27000 غرش عن كل سنة 300 غرش المعجل منه 18000 غرش مقبوضة والمؤجل 9000 غرش مقسّطة على مدة الإجارة كل سنة ماية غرش.

وأجّر عبد القادر بكري الصفح المتولي على وقف جدته شريفة بنت الشيخ مصطفى الرفاعي إلى سليم سعد الدين مشقية (وليس دمشقية) قطعة أرض معروف «بالكسارة» في مزرعة عين الباشورة مساحتها 765 ذراعاً على مدة ستين سنة بثلاثين عقد وببدل قدره 3539 غرشاً و10 بارات منها 2999 غرشاً و10 بارات مقبوضة والباقي عن كل سنة 6 غروش.

كما أجّر عبد الستار وعبد الرحمن ولدا محمد آغا الطرابلسي المتوليان على وقف أبيهما في 14 ربيع الأول 1293هـ إلى إلياس وردة وزوجته زنوبة بنت شاهين زمط بالإجارتين قطعة أرض في محلة جميزة يمين من زقاق البلاط مساحتها 1635 ذراعاً قبلتها أرض الشيخ محمد الحوت ووقف الحاج محمد سوبرة لمدة تسعين سنة بثلاثين عقداً متضايفة على التعاقب كل عقد ثلاث سنين بأجرة قدرها /26500/ قرش منها /22000/ معجلة والباقي مؤجلة بالتقسيط على المدة المذكورة في رأس كل سنة 50 قرشاً وذلك بعد التحقق من الحظ والأنفعية للوقف وأمر القاضي بذلك..

________

*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “أوراق بيروتية”

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website