في كل مرة أقع فيها على وثيقة تشير الى خِطة من خِطط بيروت القديمة، أزدد قناعة بأن تاريخ بيروت ولا سيما خططها لم يوضع بعد وبأن الحاجة ملحّة بعد ضياع أكثر المعالم الى تضافر جهود من يهمّه تاريخ المدينة للتعاون من أجل إنجاز موسوعة شاملة. وكما أخرجت أرض بيروت أثقالها للدارسين أثناء حفريات ما سمّي إعادة إعمار وسط بيروت فإن وثائق البيارتة تكشف تراثهم للمؤرخين والباحثين.
وقد عثرنا على وثيقة هامة تُكشف لأول مرة مؤرّخة في الخامس عشر من شهر جمادى الثانية سنة 1279هـ/ 1862م تفيد وجود سوق شعبي في رأس بيروت يوم الخميس من كل اسبوع تذكر الوثيقة ان المرأة فاطمة بنت خليل الداعوق حضرت لدى القاضي الشرعي في بيروت وباعت ما آل إليها بالشراء الشرعي الى أولادها لصدرها سعيد ومحمود وخليل وسعدى من زوجها حسين العيتاني بينهم للذكر مثل حظ الانثيين والمبيع قطعة أرض سليخ بمشتملاتها المعروفة «بجلّ البِركة» الكائنة ضمن مزرعة رأس بيروت يحدّها قبلة وشمالا وشرقا الطريق السالك وغربا مصطفى العيتاني والحاج علي عميش. ويتبع المبيع قطعة أرض بما احتوت عليه من الأغراس وكامل الجلّ السليخ الملاصق لها الواقعين في محلة تين الرمل بالمزرعة المذكورة يحدّها قبلة مصطفى شاتيلا وقاسم مرعي وشمالا ملك خطار عبد الخالق وشرقا ملك الشيخ سعيد تلحوق وغربا ملك الحاج مصطفى قمورية. ويتبع المبيع قطعة الأرض السليخ المعروفة «بأرض الخميس» الواقعة في جانب ساقية الجنزير ضمن المزرعة المذكورة يحدّها قبلة ملك الأمير خليل رسلان وشمالا ورثة بشير زنتوت وورثة محمد عبد الخالق وشرقا ساقية الجنزير وغربا ملك ورثة عبد الخالق والبيع بصفقتين ثلاثة قراريط بأربعة آلاف غرش و21 قيراطا بألفي غرش وقد شهد على المبايعة الشيخ عبد الرحمن المجذوب وخليل ابن الحاج حسن بدران ومصطفى ابن الحاج مصطفى الكنفاني ومحمد الأسير ومحمد ابن الحاج أحمد الطبشه (هكذا وردت..)
رأس بيروت
يبدو من خلال أقوال علماء الجيولوجيا على ما ذكر الأب شيخو أن رأس بيروت كان منقطعاً عن اليابسة ومحاطاً بمياه البحر، وكان الأب زمّوفِن قد قال استناداً الى علم طبقات الأرض بأن وادي نهر بيروت مع السهل الذي يجاوره كان مغموراً بمياه البحر قبل حلول الإنسان فيه، وأن خوراً كبيراً كان يجمع بين خليج مار جرجس وبين مياه البحر عند مصب وادي شحرور، وأن كثباناً من الرمل كانت تدفعها الرياح إضافة الى عوامل طبيعية أخرى شكّلت السهول التي تشكّلت بين نهر بيروت ونهر الغدير.
تختلف طبيعة منطقة رأس بيروت بين محلة وأخرى ففيها الأراضي المنبسطة الصالحة للزراعة والأراضي الرملية. وفيها أماكن مرتفعة مشرفة على البحر من جهتيها الشمالية والغربية. وفي المنطقة ينابيع، مياهها صالحة للشرب، منها نبعة الحلبية عند موقع مدرسة الكبوشية في شارع الحمراء، وعين شوران أو عين الفاخورة عند موقع الحمام العسكري وآبار نابعة في محلة التحويلة وغيرها، ومن مياه الأمطار تتكوّن السواقي وما عرف بنهر أبي شاهيـــــــن وبقيت الى عهد قريب ساقية تعرف بساقية الجنزير لا تزال آثارها باقية حتى تاريخه قريباً من جامع خالد بن الوليد في محلة عين التينة.
ويمكن القول بان طرقات مزرعة رأس بيروت كانت عبارة عن زواريب وممرات ضيقة تتسع لمرور شخص أو شخصين وهي ترابية (دكّة) عبّدتها أقدام المارة وحوافر الدواب وحفرتها الأمطار والسيول وملأتها بالأتربة والحجارة، وكان بعضها منخفضاً عن الأراضي المحيطة بحيث أطلق عليها لفظ خندق وعرفت بلفظة «معبور» جمعها معابر أي ممرات لعبور الأشخاص والدواب والطنابر والحناطير.
والجلّ قطعة من الأرض لم تكن له قديماً مساحة محددة والتي تختلف باختلاف الأمكنة وقد تتضمن قطعة من الأرض جلاً أو أكثر حتى أن قطعة أرض كائنة في زقاق الحمرا كانت تتألف من أحد عشر جلاًّ متلاصقة تحتوي على أغراس متنوّعة وبيت مسقوف أمامه مصطبة..
نشوء سوق الخميس في رأس بيروت
تأتي أهمية الوثيقة المشار إليها أعلاه في ذكرها قطعة الأرض السليخ المعروفة بأرض الخميس الكائنة بجانب ساقية الجنزير. ووصفها بأنها أرض الخميس تدل لزما على ان هذه الأرض السليخ كانت مخصصة ومعروفة بإقامة سوق أسبوعية فيها على غرار الأسواق الشعبية المعروفة في عديد من القرى والمدن. ففي حلب، كما يقول الأسدي، كان سوق الجمعة للمسلمين وسوق الأحد للنصارى والخميس لليهود يتزوّدون منه لما يطبخ في يوم الجمعة للسبت. وسوق الجمعة في القاهرة وطرابلس الغرب وفي دمشق المعروف بسوق الشيخ محيي الدين لوجود مقام ابن عربي في داخله.
نشأت الأسواق الأسبوعية الدائمة بالمصادفة والاتفاق لقضاء حاجات الناس وبقاء هذه الأسواق رهن باستمرار الحاجة إليها فإذا تغيّرت أحوال المجتمعات وتبدّلت الأحوال التجارية والعمرانية اندثرت. فمن المعروف ان محلة راس بيروت وصفت بالمزرعة وكان أكثر سكانها من أصول ريفية يعرفون مواسم الزراعة وفلح الأرض وترييحها. ونشوء السوق واستمرارها بحاجة لتوفر الماء فيها أو بجوارها لتنظيف المزروعات وسقاية الدواب الأمر المتوفر في أرض الخميس لمجاورتها ساقية الجنزير.
وتبرير نشوئها واستمرارها يكمن في بُعدها عن وسط المدينة وصعوبة نقل الخضار الى وسط بيروت من أماكن بعيدة كجب النخل وشوران والمنارة وعين التينة التي يفصل بينها وبين وسط بيروت كثباناً من الرمال ومساحات مزروعة بالتوت الوبري وأخرى غير مزروعة. فكان أهل رأس بيروت يأكلون مما يزرعون ويلبسون مما يخيطون ويستقون ويسقون أبقارهم من الآبار والنواعير.
وأدّى ذلك الى ضعف التواصل بين سكان تلك المحلة وغيرها من المحلات والمناطق وظهر ذلك فيما روي من رفض والد بنت من رأس بيروت تزويجها لشاب من رأس النبع لأنه يعتبر ذلك « غربة». وما روي من ان أحمد العيتاني (والد العميد مختار) عندما نزل الى البلدة ليخطب بنت السيد حمود تردد والدها لان الشاب فلاح من رأس بيروت «وقدمه كبيرة». وكما روي عن الرحلة المضنية باضطرار المزارعين لنقل خضارهم صباح كل يوم الى وسط المدينة بعد شروق الشمس (قبل تبدّل التوقيت الى ما قبل شروقها) وعودتهم متعبين الى محلتهم قبل غروب الشمس (قبل تبدّل التوقيت الى ما بعد غروبها) وتكرار الذهاب والإياب في أيام الشتاء الماطرة وأيام الصيف الحارة.
ويمكن القول من جهة ثانية بان نشوء سوق الخميس فرضته الأحداث التي كانت تمرّ بها بلاد الشام ولا سيما جبل لبنان وبيروت من حروب ومنازعات وفتن بين الاقطاعيين بعضهم البعض وبينهم وبين الولاة وتعرض البلاد لاعتداءات متكررة من القراصنة والجيوش الفرنسية والروسية والانكليزية واليونانية ما دفع سكان رأس بيروت الى الانكفاء في محلتهم والتعاون فيما بينهم لتأمين حاجياتهم من الزراعة وتربية الأبقار. وفي أوقات فراغهم يمارسون الكارات السبعة وهي كش الحمام وصلي الدبق ومق المقساس والدق عالمسحورة (المنجيرة) وجمع جيزان الذهب لبيعها في باب ادريس والسقسقة لأم صفيدة وتقليع الفجل. ويمضون ليلهم بمساهرة القمر والسمر بحكايات الجن والحنش حارس كنز جامع الزاوية وظهورات السادات الأولياء.
ولا بد ختاما من ذكر ما امتاز به أهل رأس بيروت من حسن الطوية وراحة البال وسكون النفس المستمدة من وفرة عطاء أراضيهم وبساطة معيشتهم فهم يشبهون شجراتهم المقساس الذي لا يُرى إلا لابسا ثيابه لا تبلى عليه ولا تستخفه الأحداث، لا يضحك ان إقبل الربيع ولا يبكي إذا جاء الشتاء وبسواقيهم التي تعرف طريقها وتجري لمستقر لها منحدرة دون ملل بين البيوت والبساتين.
________
*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت
ملف “أوراق بيروتية”.