أسواق الأبواب والمصبغة والشّعارين والبقر والعقّادين والمنجدين والصاغة

وثيقة سوق البقر
عبد اللطيف فاخوري

كانت بيروت بأسواقها انموذجا عن أسواق المدن العربية والإسلامية الكبرى. فمن ميزاتها تجمع كل صنف في موضع معيّن كالخضار واللحوم والألبسة والأحذية والافاوية الخ.. ما يمنح الباعة على إعمال المنافسة من أجل تقديم أفضل سلعة للزبون وينمح هذا الأخير فرصة الحصول على السلعة بأرخص سعر من جهة وتوفّر عليه البحث في أسواق متفرّقة ومتباعدة. كما حصل أيام الحرب الأهلية حين تشظّت الأسواق وتفرّق الباعة أيدي سبأ.

ورغم إدّعاء من كتب في تاريخ بيروت انه أحصى أسواق المدينة من سجلات محكمة بيروت الشرعية إلا اننا نظرنا في تلك السجلات وتبيّن لنا ان ما أغفلوه أكثر بكثير مما ذكروه، وانهم خلافا لمصطلح التاريخ اعتمدوا خريطة للأسواق وضعها داود كنعان سنة 1830م نقلوا كالعادة ما ذكر فيها دون تدقيق أو تمحيص ما يدفعنا الى تكرار القول بضرورة قيام هيئة أو مؤسسة مؤلفة من مجموعة من المؤرخين وعلماء الاجتماع واللغات لإعادة كتابة تاريخ بيروت والبيارتة ووضع خريطة شاملة للأسواق والمراكز الدينية والإدارية والعمرانية.

ويهدف هذا المقال لبيان الأسواق التي عرفناها وعرفتها بيروت ولم يعرفها من أغفلها. وقد سبق أن كتبنا عن أسواق الخميس والصبانة والأمير قاسم.

أسواق عند أبواب بيروت

من المتفق عليه القول بأن تزايد الأرزاق عند تزاحم الأقدام ويحصل هذا التزاحم عادة عند أبواب البلدة القديمة، فالداخل من أحدها تستقبله وتودّعه الباعة والبسطات. فكان من الطبيعي أن تنشأ سوق منسوبة الى أحد تلك الأبواب، فكان منها سوق باب الدركاه التي أخذت شهرتها من الدركاه القصر والمجلس الروماني القديمين ومن هذا الباب دخل إبراهيم باشا الى بيروت.

وكانت الوفود الرسمية والقواد والولاة وكبار الزوار يدخلون الى المدينة من باب السراي فنشأت سوق باب السراي. تفيدنا الوثيقة المؤرّخة في 21 من شهر صفر الخير سنة 1284هـ/ 1864م ان ناصر محمد تعباني (قرأها البعض قباني رغم قَدِمها في بيروت وتكرار الإشارة إليها في ديوان الشيخ عمر اليافي) وعائشة بنت السيد محمد الحوت باعا الى عبد القادر حسن السروجي بيتاً في دار بني تعباني الكائن في زاروب الشيخ رسلان في «سوق باب السراي» داخل المدينة.

وتذكر الوثيقة المؤرّخة في الحادي عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1286هـ/ 1870م ان يوسف ومصطفى الترك وزوجته وقفا ما يملكان من الدار المعروفة سابقا ببني المكوك الكائنة في سوق باب يعقوب داخل المدينة وقفا صحيحا على من يقرأ القرآن الشريف ويهب ثوابه لروح ابن الواقفين. وتفيد الوثيقة المؤرخة في الرابع من شهر محرم الحرام ستة 1287هـ/ 1870م شراء حسن الغندور وحسن القاضي ثلاثة مخازن معقودة كائنة في سوق السنطية داخل المدينة.

سوق البقر وسوق اللحامين

ذكر البعض من أسواق بيروت سوق اللحامين، ولكننا عثرنا في الوثيقة المؤرخة في الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1282هـ/1866م ان محمد سعيد سربيه اشترى من عبد الجليل دندن دكانا كائنة في «سوق البقر» قريبا من جامع التوبة، يحدّها شمالا دار عباس المصري (والد الشيخ أحمد عباس)، وتساءلنا سبب تخصيص سوق للبقر رغم وجود سوق للحامين وكنا قد أدركنا سوق البقر هذه التي كانت كائنة في طريق فرعية تتجه شمالا تبدأ من شارع الأمير بشير تجاه التياترو الكبير نزولا حتى محلات بيع الأجبان قرب ساحة النجمة وقرب كنيسة مار جاورجيوس للروم الأرثوذكس فوجدت عند بداية هذه الطريق سوق البقر وبقربها سوق للخضار، وتبيّن لنا ان سوق البقر كانت مختصة ببيع لحوم البقر وسبب استقلالها عن سوق اللحامين العام ان هذه الأخيرة كانت تبيع لحوم الأغنام لأن البيارتة كانوا الى عهد قريب لا يأكلون من لحم البقر التي يطلبه الأجانب.

سوق الشعارين

تفيد الوثيقة المؤرخة في السادس من شهر ربيع الأول سنة 1259هـ/ 1843م ان عرابي خرما شقير باع الى ابنته عائشة أسهمه في دكانة كائنة بمحلة شويربات «بسوق الشعارين» سفلي دار مصطفى الكنفاني تحدّها قبلة دكانة حسن الجبيلي ابن السيد حسين الشعار الخواجة… ويبدو ان وجود اسم الشعار في هذه الوثيقة خلق إلتباس بذهن بعض الكتّاب، فاعتبروا ان الشعارين هم الشعراء الذين يتبعهم الغاوون والذين في كل وادٍ يهيمون، علما بأن الشعراء لم يكونوا كثرة في بيروت لخصّهم بسوق على غرار سوق عكاظ. والحقيقة ان المقصود بالشعارين الذين كانوا يصنعون الشعاري أو الشعريات التي راجت في بيروت في منتصف القرن التاسع عشر كما ذكر الشيخ أحمد الاغر في عدة قضايا متعلقة بالكشف بين الجيران في دراسة فقهية بعنوان «دليل التيهان والحيران الى معرفة حكم الكشف المضر على الجيران» التي نشرناها في كتابنا «حقوق الجوار في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية» ومما قال فيها «يعمل للشبابيك ما يمنع الكشف ولا يمنع الضوء كالشعاري المعروفة مثلا وهي التي استعمل أهل هذه البلاد وضعها في شبابيك محلات سكناهم وقد كثر ذلك منهم في هذا الزمان لأجل عدم الكشف على حريمهم وربما استعملها أهل غير هذه البلاد… فإن الشعاري تمنع الكشف ممن يكون خارجا عنها على من يكون داخلا في محلات شبابيكها ولا تمنع دخول الضوء والهواء ونور الشمس بالكلية… لكن يحصل بوضع الشعاري كما جرت عادة بلدنا نوع من اطيفان النفوس وانشراح الصدور والخواطر ومن سرور القلوب والنواطر، ففيه دفع معظم هذا الفساد عن المنظور والناظر من رشيد سعيد ومن قاصر خاسر من الأكابر والأصاغر…».

وقد أدركنا لجوء بعض السكان الى وضع الشعاري على شرفات بيوتهم فكانت تحجب الرؤية عن الداخل وتسمح بمرور النور والهواء.

سوق العقادين

وتبيّن لنا وجود سوق قديمة تحوّل اسمها مع الزمن الى سوق البازركان وقد أدركناه بهذا الإسم. ففي الوثيقة المؤرخة في التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1264هـ/ 1848م باع حسين البربير وزوجته حسنا سعيد نجا حصصهما في دكان سفلي دار حسن الكوش البحري كائنة «بسوق العقادين القديم الشهير الآن بسوق البازركان». والعقاد هو من يحترف في خيطان الحرير والصوف والقطن وغيرها. وما يصنعه العقاد ينقسم الى أقسام منها ما صنع على النول كالسجق للبرادي، للنوافذ، ومنها ما يصنع على دولاب وهو من الحرير ومنها ما يصنع باليد وكانت حرفة تنتج ربحاً كبيراً.

سوق المنجدين وسوق الرصيف

ذلك وشغل الأرض محل توفيق يموا وأولاده للوجاج. رأى بعض الكتبة وجود سوقين هما سوق المنجدين وسوق الرصيف، والحقيقة انهما سوق واحدة تبدأ من قرب جامع الأمير منذر الى بوابة يعقوب. وقد أدركنا بقايا دكاكين المنجدين في ساحة السور قريبا من طلعة الأميركان.

سوق الصاغة القديم والسوق الجديد

 تفيد الوثيقة المؤرّخة في الحادي والعشرين من شهر صفر الخير سنة 1263هـ/1847م مبايعة حصص في دار كانت معروفة بدّار الشيخ سي أحمد اللادقي الكائنة في محلة شويربات بسوق الصاغة القديم المعروف الآن بسوق الجديد. وتذكر الوثيقة المؤرّخة في الخامس عشر من شهر ذي القعدة سنة 1264هـ/1847م ان علي بن أحمد العشي باع الى عبد الرحمن محمد النقاش قيراطا واحدا من الدكان الكائنة سفلي دار بني سعادة تجاه بركة سوق الجديد الشهير بمحلة شويربات. ويذكر إبراهيم كنعان ان قيسارية الأمير علي أي قيسارية الصاغة كائنة لصيق الحائط الشمالي لجامع الأمير منذر وقد هدمت سنة 1926. ولا نزال نذكر سوق الصياغ والجوهرجية التي عرفت بسوق رعد وهاني، يُدخل إليها من ساحة البرج وقد هدّمت للأسف عند إعادة إعمار وسط بيروت.

سوق المصبغة القديمة

فوجئنا بوجود سوق بإسم «سوق المصبغة القديمة» من الوثيقة المؤرّخة في السادس والعشرين من شهر ذي الحجة سنة 1264هـ/1848م فيما خص بيع بدرة وليلى واسما وحسنا من ميراث والدهن إبراهيم السيد وجب كادك الدكان الكائنة سفلي دار الكادك بالقرب من «سوق المصبغة القديمة» الشهيرة باطن بيروت. أما عن موقع هذه السوق فتبيّنه الوثيقة المؤرخة في شهر جمادى الأولى سنة 1264هـ/ 1848م والتي باعت بموجبها ليلى بنت محمد البازار باشي الداعوق الى ابنها حسن ابن الحاج مرعي السحمراني والمبيع سبعة قراريط وتسعين من قيراط من أربعة وعشرين قيراطا من العليّة الكائنة من داخل دار بني الداعوق القديمة الكائنة في محلة شويربات بسوق المصبغة بالقرب من زاروب بني سعادة.

_____

*مؤرخ/ عضو شرف جمعية تراثنا بيروت

ملف “أوراق بيروتية” 14

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website