تاريخ اليقظة التعليمية للفتاة البيروتية

سهيل منيمنة*

وردت أول إشارة لتعليم الفتاة في بيروت في القرن التاسع عشر من خلال المدرسة التبشيرية التي أسسها القس الأميركي إسحاق بيرد Isaac Bird سنة 1825 قرب باب يعقوب في طلعة الأمريكان (مكان الكنيسة الأنجيلية غربي ساحة رياض الصلح اليوم)، ضمّت في ذلك الوقت 81 صبياُ وفتاتين اثنتين. وفي سنة 1834 قدِمت السيدة الأميركية سارة سميث إلى بيروت، وأسّست مدرسة للبنات، في بناء مستقل تبرعت بنفقة تشييده سيدة إنكليزية (Mrs. Todd)، بإسم «مدرسة بيروت للإناث» احتضنت أربعين بنتاً. ويمكن القول إن هذه المدرسة كانت أول مدرسة نظامية لتعليم البنات في بيروت.

باب يعقوب

كانت الفتاة البيروتية المسيحيّة في الأغلب هي الأوفر حظاً في التعلّم من خلال المدارس الأهلية لاحتكاك مؤسسيها بالحضارة الغربية قبل المسلمين. يقول المؤرخ الشيخ طه الولي رحمه الله في كتابه «بيروت في التاريخ والحضارة والعمران» ما يلي: «إن الطوائف النصرانية في بيروت وجبل لبنان تهيّأ لها الاحتكاك بالحضارة الغربية الحديثة قبل المسلمين بزمن غير قليل، وكان ذلك أمراً طبيعياً ومنطقياً، ذلك بأن بين نصارى الغرب ونصارى الشرق وحدة حال من الناحية الدينية. وهذا الأمر أدّى بصورة عفويّة إلى وجود رابطة اجتماعية وثقافية بين الطرفين وهو ما أثمر على المستوى التعليمي إلى مبادرة النصارى المحليين إلى محاكاة نظرائهم في الدين الغربيين في أسلوب إنشاء المدارس على الطريقة الأوروبية العصرية».

من هذا المنطلق شهدت بيروت إنشاء العديد من المدارس الأهلية النصرانية مثل مدرسة أسعد يعقوب الخياط في منزله سنة 1840 ضمّت سبع بنات، ولكن لم تستمر سوى فترة وجيزة، ومدرسة «مار يوسف الضهور» سنة 1847 وكانت مخصصة للبنات في أول عهدها، ومدرسة «راهبات المحبة» للبنات سنة 1856، ثم المدرسة الوطنية (مدرسة المعلم بطرس البستاني) سنة 1863 التي لا تزال قائمة إلى اليوم في منطقة زقاق البلاط ولكن مهملة وفي حالة يرثى لها، رغم أن البناء مصنّف كمبنى تراثي منذ أكثر من ثلاثين عاماً!

مدرسة المعلم بطرس البستان سنة 1863

أما المدرسة الإنجيلية البريطانية فكانت من أهم المراكز التربوية للبنين والبنات في العاصمة. كتب المؤرخ د. حسان حلاق: «.. وفي بيروت أسّست السيدة بوين طومسون  Elizabeth Bowen Thompson عام 1860 المدرسة الإنجيلية الداخلية للبنات، كما أسّست مدرسة خاصة لإعداد المعلمات للتعليم في المدارس الإبتدائية والثانوية. وفي الفترة الممتدة بين أعوام 1860-1878 أصبح عدد المدارس الإنجيلية البريطانية أربع عشرة مدرسة موزّعة في بيروت وسائر المناطق اللبنانية بما فيه مدرستان للمكفوفين. وقد ضمّت هذه المدارس 43 معلماً ومعلمة و1974 طالباً وطالبة. واعتبرت في حينه المدرسة الإنجيلية للبنات British Syrian School في محلة زقاق البلاط، من أبرز المدارس الإنجيلية في بيروت» (بيروت المحروسة. الباب الرابع، الفصل الأول).

السيدة أليزابيت طومسون

ومن هذا النوع من المدارس نذكر أيضاً المدرسة السريانية سنة 1864 والمدرسة البطريركية سنة 1865 ومدرسة الثلاثة أقمار (أسّست في سوق الغرب سنة 1852 ونقلت إلى بيروت سنة 1866)، والمدرسة المسكوبية سنة 1887 ومدرسة الحكمة المؤسّسة في بيروت سنة 1876 ومدرسة زهرة الإحسان للبنات سنة 1882.

في عدد يوم 18 تشرين الثاني 2017 من جريدة «اللواء» البيروتية، كتب المؤرخ الأستاذ عبد اللطيف فاخوري في مقدمته لمقالة بعنوان «مخطوط يعود لسنة 1896م بخط يد ثريا بنت مفتي بيروت الشيخ عبد الباسط الفاخوري» ما يلي: «لم يتبيّن قبل سنة 1900 أن إحدى بنات بيروت تابعت دراسة ثانوية ولم يظهر أن واحدة كتبت مقالة أو نظمت قصيدة أو خطّت مذكرات، وقد يعود ذلك إلى أن الطبقة الفقيرة لم يتيسر لها تعليم صبيانها، فما بالك ببناتها؟ وأن شريحة منها دفعت أولادها إلى الكتاتيب والشيخات في المحلة لحفظ سور قصيرة من القرآن الكريم، والقليل من جدول الضرب، وينتقل الصبي بعد الكتّاب لمساعدة والده في دكانه، وصنعته، وتقرّ البنت في البيت مع أمها وجدتها وعماتها. ودفعت الطبقة الثرية أولادها إلى مدارس الأجانب. يمكن القول بأن الطبقة الأولى لم تتيسر لها فرصة تعليم أولادها قبل تأسيس جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت سنة 1878م».

مخطوط يعود لسنة 1896م بخط يد ثريا بنت مفتي بيروت

نعم، لم يتسنّ للفتاة البيروتية أن تنهل نصيباً وافراً من التعليم في ذلك الوقت، وقُدّر لها الانتظار حتى عشرينيات القرن الماضي لتحقيق حلمها من خلال إنشاء مدارس خاصة للإناث في مختلف المناطق. ولنأخذ منطقة عين المريسة فقط كمثال تجنباً للإطالة. ففي العام 1898 قامت لجنة التعليم الإسلامي بإنشاء أول مدرسة لها في منطقة عين المريسة بجوار جامعها العريق، وكانت أول مدرسة نظامية فيها، وهي المدرسة التي تحوّلت إلى مدرسة البنين الأولى سنة 1920 والتي تسلّم إدارتها الأديب والمربي محمد شامل سنة 1938.

المدير محمد شامل يتوسط الهيئة التعليمية سنة 1959

كما قامت اللجنة بإنشاء مدرسة في زاروب المحب – التنير سنة 1904 وأخرى بإسم «دار العلوم» في أعالي عين المريسة سنة 1909. أما البنات فكان عليهّن الانتظار إلى سنة 1928 ليكون لهن مدرسة خاصة بهنّ بإدارة سلمى نصر بإسم «مدرسة البنات» في نفس مبنى مدرسة البنين الأولى التي انتقل طلابها إلى مبنى الأوقاف الإسلامية (المقاصد) لغاية سنة 1938 لتعود مدرسة البنين وتنتقل مدرسة البنات إلى مبنى مجاور. (انظر: عين المريسة للدكتور عصام شبارو. الباب الثاني، الفصل الثاني). وما ذكرناه عن عين المريسة ينطبق على أغلب المناطق البيروتية الأخرى.

بدأ تحدي الجهل والتخلّف والتقاليد عند الفتاة البيروتية إبتداءً من سنة 1912 من خلال سلسلة مقالات نُشرت في الصحف البيروتية، وكانت باكورتها مقالة بعنوان «الإنسان إبن المشقة» كتبته طالبة في مدرسة الإناث لجمعية المقاصد بتوقيع س. محمصاني (سلوى محمصاني) لجريدة «المفيد» بأحد أعداد شهر أيار (مايو) من تلك السنة. وفي شهر تموز (يوليو) سنة 1912 ألقت عنبرة سليم سلام خطاباً في الحفلة السنوية في مدرسة جمعية المقاصد الأولى بعنوان: «ما هي الغاية من الحياة» حثّت فيه الطالبات على خوض غمار المعرفة والثقافة والمشاركة في بناء الحضارة والوطن. ونشرت جريدة «المفيد» في عدد شهر آذار (مارس) لسنة 1913 مقالة للآنسة وداد محمصاني تحت عنوان «الإئتلاف»، كما قدمت عنبرة سلام مقالة لنفس الجريدة بعنوان «نهضة الفتاة العربية» في تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1913 (وقّعتها بلقب «فتاة بيروت») وذلك بمناسبة انعقاد المؤتمر العربي الأول في باريس.

أحد أعداد جريدة المفيد

بعدها قامت فتيات بيروت بتأسيس جمعية «يقظة الفتاة العربية» كان بينهن عنبرة سلام، وعادلة عبد الرحيم بيهم، وابتهاج قدورة، وأمينة حمزة، وزليخا قباني، وأسماء غندور ادريس. لكنّ ظروف الحرب لم تسمح لهن بتفعيلها. فتيات بيروت لم ييأسن، فقمن بتأسيس «نادي الفتيات المسلمات» وتمّ افتتاحه في 23 تموز سنة 1917 في بيت بشارة الخوري خلف المدرسة البطركية، وصار صالوناً أدبياً واجتماعياً بإدارة المربّي محمد عمر منيمنة، وأثمرت جهوده في تعليم البنات، تأسيس الجمعيات ومكافحة الجهل وعقد المؤتمرات النسائية. وبعد هذا التاريخ برزت أسماء في الإصلاح التربوي والاجتماعي البيروتي مثل جوليا طعمة دمشقية وعزيزة طيارة وحسانة فتح الله وزاهية دوغان وزاهية قدورة وإحسان محمصاني وسلمى نصر ومنيرة الصلح وأولغا مواقدية وحياة اللبان وزينب الكستي وأدما بيوض وسلمى منيمنة، وكثير غيرهنّ. أخيراً، لا بد أن نذكر جهود جمعية البر والإحسان المباركة في إنشاء مدرسة للبنين في منطقة الطريق الجديدة سنة 1949 أتبعتها بإقامة مدرسة البنات الرسمية. ولكن تبقى الريادة في هذه المضمار لجمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. فقد جاء في بيانها الأول (الفجر الصادق) «.. فأخذنا في أول الأمر نبحث عن الأشدّ لزوماً لطائفتنا فوجدنا أن أحسن وسيلة لنشر المعارف هو تعليم الإناث منها طرق التربية وما يحتجن إليه من العلوم والصنائع، إذ هنَ المربيات الأول وعلى تقدمهن المعول، فتذاكرنا بافتتاح مدرسة لهنّ». وقد أوفت الجمعية بوعدها فأقامت عدة مدارس للإناث كان أهمها «كلية البنات» التي افتتحت يوم 16 كانون الأول/ ديسمبر 1879 في منطقة الباشورة والتي أصدرت لطالباتها مجلة خاصة بهنّ لنشر نتاجهنّ العلمي والأدبي هي مجلة «غرس وشمس» صدر العدد الأول منها سنة 1956، كما أنشأت «جمعية نهضة الفتاة العربية بكلية البنات»، كما أقامت الجمعية مدارس عديدة للبنين والبنات في بيروت وعدة مناطق لبنانية لا يتسع المجال هنا لذكرها كلها.

مجلة “غرس وشمس” أرشيف جمعية تراث بيروت

_____

*مؤسس/ رئيس جمعية تراثنا بيروت.

error: Copyrighted Material! You cannot copy any content from this website